- ذاكرة لن تغيب عن أعين السياح
يحوي العراق قدراً هائلاً من المواضع الأثرية التي تركت بصماتها على ذاكرة الانسانية ووجدانها. إلا أن سنوات الحصار الطويلة، وقبلها غياب سياسات سياحية واضحة، حالت دون التعرف إلى الثراء التاريخي لهذا البلد، وتوشك الأمور أن تتغير الآن بالنسبة إلى السياح بعد الحرب الأخيرة التي أضافت مواضع جديدة إلى معالم السياحة الثقافية في العراق، بقدر ما فتحت الباب أمام مستقبل مختلف لصناعة السياحة والسفر فيه.
المساحات الممنوعة في العراق كانت كثيرة، أمام السكان والسياح على حد سواء. القصور الرئاسية، أماكن سكنى كبار المسؤولين ومراكز الجيش وأجهزة الاستخبارات ومقار حزب البعث، وأي مكان يرتاده مسؤول ما أو تمركز فيه جهاز أمني أو مشروع عسكري سري، كلها كانت محظورات، من دون أن يكون في الامكان التعرف الى كيفية تطبيق المنع أو تنظيم الحظر.
على امتداد العراق زرعت أيضاً شواهد لجنون العظمة، في شكل يعيد الى الأذهان لوثة الفراعنة في مصر وملوك حضارات الآزتيك والمايا والانكا، في أميركا اللاتينية، وأباطرة الصين وأوروبا والهند.
العراق الجديد مثل كمبوديا القديمة. في بنوم بنه، زيارة البلاد لا تكتمل إلا بالتوقف في المتحف المخصص لفظاعات الخمير الحمر، حيث تعرض شروحات وصور لعمليات التعذيب والمقابر الجماعية. السياح الذي يردون كمبوديا يريدون التوقف أمام المشاهد التي تقشعر لها الأبدان والأدلة التي تظهر إلى أي حد يمكن أن يكون الانسان وحشياً، وكيف يمكنه أن يعذب ويقتل، وأن يضيف فوق كل ذلك مبررات يراها منطقية لظلمه وقسوته اللامنطقيين.
العراق مغروس بها. المقابر الجماعية كثيرة، بعدد المدن والقرى التي طالتها يد البطش والقتل على امتداد سنوات حكم حزب البعث العراقي. مئات الآلاف فقدوا، والأرقام مذهلة لا تتوقف. منهم سبعون ألفاً في "حملة الأنفال" العسكرية التي شنها الجيش العراقي لتأديب السكان الأكراد "العصاة" قبل 15 عاماً، وتسعون ألفاً في محافظة النجف وحدها عام 1991 أثناء الحملة لتأديب "الغوغاء" الذين تجرأوا على الخروج على طاعة حاكمهم.
المتاحف التي ستقام في ولايات العراق الثماني عشرة ستكون كثيرة، وستكون فيها صور جثث وجماجم وعظام مبعثرة، وخلاصة تقارير اللجان الدولية التي بدأت تتدفق الى العراق لتقويم حصيلة سنوات الممارسات السادية. هذه المتاحف ستكون جزءاً من أي برنامج زيارة سياحي. أيضاً ستكون هناك صور لزنزانات التعذيب وأضابير أجهزة الاستخبارات ونسخ عن وشايات المخبرين الذين قادوا الى السجون والمقابر مئات ألوف الضحايا، على امتداد العمر الطويل للنظام السابق الذي دام 53 عاماً.
العراق ونظامه السابق صارا جزءاً من صورة سياحية تشق طريقها بصمت، وسط كل هذا الضجيج الاعلامي والسياسي إلى عالم تجارة السياحة. الجنود الأميركيون والصحافيون وكل الذين يردون الى العراق يحاولون العودة بصور ولقى تذكارية يحملونها في طريق عودتهم، علّها تصبح ذات قيمة تاريخية يوماً ما، وتعود عليهم بربح مادي جيد. العراق عانى من أزماته الطويلة، لكنها حملت اليه بركة غير متوقعة: لقد أصبح أشهر وجهة سياحية في العالم. وتحف ماضيه القريب مثيرة للاهتمام والتنافس.
السياحة لن تكون قادرة على تقديم العراق السابق بدقة وأمانة. كثيرة هي الأشياء التي عُبث ويُعبث بها، وكثيرة هي المعالم التاريخية التي اختفت وستختفي بسبب التخريب وبسبب العبث بها أيضاً، من قبل السارقين والناقمين والجنود الأميركيين والبريطانيين. وأيضاً بعدما دمر القصف كثيراً من مراكز النظام السابق.
في كل مكان في العالم يسير الزمن ببطء. السياحة الثقافية أو سياحة الآثار تعني التفرج على شواهد التاريخ الماضي، ومحاولة اكتناه اللحظات التي عاشها الذين بنوا هذه الشواهد والصروح والتعرف الى حياتهم. في العراق وتيرة الزمن تبدو أسرع من ظلها. يبدو الماضي القريب بعيداً، ولكنه أيضاً قريب إلى حد يمكننا معه أن نسمع تردد أنفاس ضباط الاستخبارات الذين كانوا لا يزالون يديرون هذا السجن أو ذاك، أو الضباط الذين كانوا يطلقون النار على من يجرؤ على التوقف عند هذا الموقع العسكري أو الرئاسي أو الأمني. أوراقهم وحاجياتهم لا تزال مرمية حيث تركوها. ملفاتهم وأوامرهم التي كانت تحكم ايقاع الحياة حولهم تنتشر بدون رادع. إنه تاريخ جديد يضاف الى طبقات التاريخ السابقة التي تشكلت منها حياة العراق. فقط أناس أتوا ورحلوا، وآخرون أتوا مكانهم وسيرحلون. وحدها تتراكم خلفهم بقايا هذا العمران وهذه الأعمال التي سيقدمون عليها. مشاهد جديدة ستضاف الى لائحة مشاهد التاريخ التي يأتي السياح ليروها ويستمعوا الى شروحات الأدلاء السياحيين عنها.
ذاكرة لن تغيب عن أعين السياح
ثمة الكثير من حقائق النظام السابق و"انجازاته" يتعرض للسرقة والاتلاف. عناصر الاستخبارات السابقين يقدمون على إحراق الملفات أو بيعها. جزء كبير من آثار العراق ومخطوطاته سُرق، وكثير من التحف التي كانت تعج بها القصور الرئاسية والوزارات الحكومية ضاعت بين أيدي اللصوص.
إلا أن هناك صروحاً ستبقى شاهداً على ما عاشه العراق، وهي ستجد طريقها الى برامج الزيارات التي ستُعد للمجموعات السياحية التي ستتدفق على العراق في المستقبل، لتنظر عن كثب إلى أسطورة الرئيس صدام حسين والنظام الحديد الذي أقامه.
ولعل أكثر ما سيتمتع السياح بزيارته هو القصور الباذخة التي بناها الرئيس السابق، والتي كان مجرد التطلع اليها يكفي في السابق للتعرض للتعذيب والسجن.
ويتجاوز عدد هذه القصور 70 قصراً التي تحيطها مساحات شاسعة من الحدائق الغنّاء والمسطحات المائية الجميلة. وهي جميعاً تعكس قدراً عالياً من التزويق والفخامة التي عمل صدام حسين بجد ومثابرة على ضمانها. وكثيراً ما كان يأمر بتهديم أي جزء من القصور وديكورها إن لم يكن يعجبه، وإعادة تشييده ليأتي متلائماً مع نظرته الى العظمة والمجد اللذين كان يعتقد أن من حقه أن يتمتع بهما.
وحرص الرئيس السابق على اختيار أفضل المواقع وأكثرها إشرافاً ليبني قصوره ذات التصاميم البديعة، والرخام النادر والثمين، معرقلاً في الوقت ذاته حياة كل السكان الذين قيض لهم الحظ أن يقطنوا في هذه المواضع.
ويشعر سكان حي الكرادة بالراحة بعد رحيل النظام السابق، ذلك أنهم باتوا قادرين على التجول بحرية على كورنيش دجلة المواجه للقصر الجمهوري، حيث كانت الحركة في النهر أو على الضفتين المقابلتين للقصر ممنوعة على المشاة أو السباحين.
ويمتد القصر الجمهوري ومنشآته التابعة بطول نحو خمسة كيلومترات على ضفاف دجلة، مقتطعاً جزءاً كبيراً من مساحة بغداد ومنطقة الرصافة فيها. وتحول القصر الذي تعلوه تماثيل نصفية عملاقة للرئيس صدام حسين تشبه تماثيل محاربي الساموراي اليابانيين إلى مركز رسمي للادارة المحلية التي نصبها الأميركيون، وحيث تتوالى يومياً تفجيرات الذخائر الكثيرة التي خلّفها الجنود العراقيون وراءهم.
ويؤكد العاملون في قطاع السياحة ان كثيراً من قصور صدام حسين، وكذلك مقار إبنيه عدي وقصي، سيتحول الى منتجعات سياحية فخمة وراقية، وأن هذه المنشآت الفخمة ذات الديكور الباذخ ستسهم حتماً في إعطاء دفعة كبيرة لقطاع السياحة في العراق الذي يعاني من سنوات طويلة من التخلف، ومن تدهور مزمن في نوعية الخدمات فيه.
وقالت ماجدة، وهي خبيرة سياحية تعمل في استقبال المجموعات السياحية الأجنبية: "يمكننا أن نتخيل من الآن شكل الكتيبات السياحية التي ستروج في المستقبل الى العراق: إذا أردت أن تنام في السرير الذي كان يرقد فيه الرئيس صدام حسين فعليك أن تُعجّل بحجز مكانك فوراً".
وأضافت: "القصور الرئاسية ستتحول إلى نقاط استقطاب سياحية من الدرجة الأولى، اعتماداً على الشهرة التي كسبها الرئيس صدام حسين. وستصبح مثار فضول ومحطات زيارة للراغبين في الدخول الى رحاب مرحلة تاريخية كانت محط اهتمام عالمي، وهناك أيضاً احتمال استخدام السجون التي كانت مقراً لمرور مئات آلاف المعتقلين وتحويل بعضها الى فنادق مجهزة لاستقبال هواة هذا الصنف من السياحة الغريبة التي تضمن انفعالات قوية لأصحابها".
المنتجات السياحية العراقية ستكون متنوعة أيضاً. في الجنوب عادت المياه للتدفق الى الأهوار، بعدما ذهب النظام الذي كان يقطع المياه عنها. والمنطقة التي تقارب مساحتها 40 ألف كيلومتر مربع ستنتعش مجدداً، وستعود اليها الحياة الفطرية ونظام الحياة الخاص الذي كان يميزها.
الأهوار في العراق الجديد ستكون نمطاً سياحياً فريداً في العالم العربي والشرق الأوسط سيستفيد منه العراق لاستقطاب السياح وجني عوائد بالعملات الصعبة تشتد اليها الحاجة في السنوات المقبلة. ولن ينفع البعوض الكبير الذي تشتهر به منطقة الأهوار في ثني السياح عن القدوم.
الأمر نفسه ينطبق على مناطق كردستان الشمالية الساحرة ذات الجمال الباهر، والتي ستصبح بدون شك ركيزة لحركة سياحة قوية تستقطب ملايين الزوار في المستقبل، في حال استقرت الأوضاع في هذا البلد المزروع بالتنوع.
سياحة من نوع جديد ستشق طريقها الى العراق. العراق سيصبح منافساً قوياً لكل دول الجوار، ووجهة رئيسة تستقطب السياح من مختلف أنحاء العالم. والدعاية التي رافقت الحرب الأخيرة والحرب التي سبقتها كانت أهم حملة ترويج لهذا البلد الغني بالمقومات السياحية البكر.
ونتمنى الازدهار للبلد الشقيق العراق.....
والله يفك اسر اخواننا العراقيين من الاحتلال الصليبي الغاشم....