أجلس الآن إلى ركن هادئ بمقهى " ياسمينة " بالخميسات ، أحب الأماكن وأقربها إلي..سأحاول العودة إلى مراكش وإن على ظهر الكلمات...لا توجد وسيلة أسرع من الكلمات عندما يتعلق الأمر بالرغبة في العودة إلى الماضي...
"مراكش" مدينة حباها الله بجمال فريد من نوعه، أنيقة إلى الحد الذي يمكنك من قراءة ذلك على الخجل الذي يغطي وجه ثلج يكسو قمم جبال غير بعيدة...مدينة ساحرة أسرت المئات وستأسر المزيد...
عندما حملني القطار بعيدا عنها عائدا إلى الرباط ، كانت الأشجار تتساقط إلى الخلف معلنة نهاية العرض..فقد تركت هنالك كل شيء جميل وجئت بصور وذكريات رائعة ستكون وقود الشوق وفتيل نار العودة حين ستتسنى لي العودة...
كل أجناس العالم تجتمع هنا.. ملامح وأعين ولهجات متباينة ، وهذا ما يضفي على مراكش طابع العالمية بالنظر إلى تعدد المرجعيات الثقافية التي تجول الشوارع وتلتقي هنا على مدار العام دونما موعد مسبق...وحده الشوق يحملهم من بلدان بعيدة متكبدين عناء السفر وواجباته ليجدوا أنفسهم على شوارع المدينة وأزقتها ...لكن مراكش تحتفل بهم على القدر الذي يليق بهم كزوار يستحقون كل العناية والإهتمام...
أحب أن أرى هذا في قلب وطني وأحب أن يأسر المزيد منهم ..ولا مشكلة إذا لم أجد لي مكانا على القطار ..فقد جئت واقفا على متنه قرابة أربع ساعات ونصف ، ولم أعثر لي على مقعد شاغر إلا بعد توقفنا في محطة الدار البيضاء المسافرين ...
لم يزعجني الأمر بتاتا .فالسياحة في نظري هي أن تجد نفسك في مكان تحس فيه أنك تفتقد فيه لكل ما هو مألوف في حياتك..الغاية السياحية هي أن تشتاق لسريك الخاص وطقوسك ومقعدك ...هي أن تتعذب قليلا لئلا تنسى أن الراحة هي كل شيء..
التقائي لأول مرة بعضو من أعضاء المنتدى جعلني أشعر بنوبة غير معهودة من قبل ...لا أخفيكم أن شعورا غريبا جدا ملكني بالكامل وأنا على وشك أن أنزل بمراكش ...أخيرا ستصبح الكلمات شخصا يسير على رجليه بسحنات محددة . ثم جاءني صوت غريب يقول : انتظرني على الشارع المقابل للمحطة . توقفت سيارة بعد قليل وتلاشى اسم " هستره" ليصبح : أبو خالد...
تلك كانت أصعب لحظة على الإطلاق ، فعضو من أعضاء المنتدى بل وكل الأعضاء لهم مكانة خاصة جدا ووفاء خاص أيضا وحديث غير ما دأبت عليه مع البقية ...
ثم جلسنا وجالسنا الحديث عن المنتدى ، وقد احتل هذا الموضوع جزء مهما جدا من وقتنا قبل أن تبدأ محاولات الإختراق والصراع الخفي للوصول إلى اللمحة الحقيقية عن كل واحد منا ..فوجدته كما توقعته إنسانا طيبا بكل ما للكلمة من معنى ...هادئ وبسيط ومتواضع وهذه أجمل صورة أحب أن أرى عليها كل إنسان...
تستطيع أن تتعرف إلى أبو خالد في لحظات ثم تودعه وتشعر أنك فقدت صديقا كنت تعرفه لسنوات...فقد وهبه الله تعالى روحا طيبة وهدوء هو كل ما يحتاج إليه المرء إذا رغب في اكتساب أكبر عدد من الأصدقاء .
أبو خالد .شكرا جزيلا لك على حسن الحفاوة وحسن الاستقبال . آمل أن تكون قد وجدتني كما كنت تتوقع.
لا ألومه الآن وقد قام بخمس سفريات في عام واحد...يقول عن مراكش تلبي له احتياجات روحية من نوع ما ..هذه فلسفته وكم تمنيت لو صارت فلسفتي أيضا...فمراكش بجمالها وأناقتها وليلها وأهلها وزوارها وثلوجها وتاريخها وجغرافيتها ...تستحق فعلا أن يحزم المرء حقائبه وينطلق دون النظر إلى الوراء...
لشد ما أمني النفس بامتلاك شقة هنالك...أعلم أن مراكش تستطيع إحياء العديد من المواهب القديمة التي كانت على أهبة الولادة غير أن الدهر كان له رأي آخر فوأدها في مهدها بكل قسوة ودونما شفقة...أعشق القراءة على حد كبير وأعتقد أن هذه المدينة تستطيع أن تمنحني كل الأجواء المناسبة لممارسة هذا العشق القديم الجديد...ولكن ولكثرة ما صفعت بواقع مر وقاس ومؤلم فقد وجدت لي طريقة ذكية أخرى لتحقيق كل الأماني الجميلة..إنه الصبر الجميل بكل اختصار والإيمان الراسخ المتجذر بأن الإنسان لن يفلح أبدا في تحقيق كل غاياته مهما كانت تافهة أحيانا.. وها نحن صابرون والحمد لله...
عشت طوال حياتي أحلم بمكتب وقاعة خاصة ومئات الكتب...لن أتنازل عن هذه الأمنية لأحد فهي كل شيء بالنسبة لي، إلا أني أحس أن مراكش بإمكانها أن تهديني نفس الأمنية واللحظة ونفس الأجواء فقط بمجرد الجلوس على كرسي بإحدى المقاهي على الشارع. إن كثرة الجنسيات والملامح والهيئات تغرقني في بحر من التأمل العميق..لا شك أن وراء كل سائح حكاية ما وحياة شخص بأكملها..حقائبهم وملابسهم وشعرهم وسوى ذلك من الأمور الجانبية كل ذلك يوحي لي بالكثير من التفاصيل المبهمة والمضمرة والدفينة .هذه التفاصيل والصور المختلفة يمكن لها أن تكون مادة جديرة بالدراسة والتأمل، وهذا في نظري هو ما يفسر التواجد الدائم لعدد كبير من الفلاسفة والمثقفين والفنانين والمشاهير بمراكش...إنهم هنا بحثا عن الصور التي تستفز مواهبهم ، وحينما يجلسون لإنجاز أعمالهم الأدبية والفنية تجالسهم تلك الصور والحكايا المضمرة فتأتي أعمالهم في شكل حلة فريدة مغرية تستحق المتابعة.. وهذا ما أبحث عنه بدوري رغم أني لست مثقفا ولا فنانا ولا فيلسوفا ولا املك أبدا حق ادعاء أي شيء من ذلك..إلا أني أؤمن كثيرا أنه لو أتيحت لي هذه الأجواء فحتما أستطيع إنجاز عمل لألبي لنفسي أولا احتياجات نفسية معينة وهذا كل ما في الأمر...
هذه بعض من شوارع مراكش ..أعترف أنني غرقت في جمال المدينة إلى حد أنساني فعل التصوير ، أرجو أن تعجبكم وأتمنى لكم رحلة سعيدة وموفقة...

تابعوا بقية الصور بعد لحظات