- تضامن مع فلسطين
عندما التقيت وجهاً لوجه مع البرد الاسكتلندي شعرت بدفء الطبيعة، وتحركت في أعماقي ذكريات سقوط المطر وقسوة الثلج عندما كنت أقاومهما ذات شتاء بالمعطف المحشو بالفرو، وبانتعال الحذاء البلاستيكي ذي الساق الطويلة.
فبعد سنوات طوال عادت الحالة ذاتها لتتملكني وأنا على تخوم البرد الاسكتلندي، فارتديت معطفا وحذاء شبيهين تماما بذينك الذين كنت ألبسهما وأنا في العشرين من عمري، بيد أن الفارق هنا هو أنني لجأت الى البرد هذه المرة هرباً من حر الصيف لا متحدياً له.
بدأت رحلتي مع البرد الاسكتلندي بعد رحلة طويلة استمرت حوالي ثماني ساعات الى لندن وساعة ونصف الساعة الى جلاسكو، وصلنا الى أحضان الطبيعة الخلابة التي تشبه لوحة فنية تجمعها تناغمات لونية جميلة تحرك السكون في الأعماق، وتجسد الحياة بتداخلاتها الجميلة، وتعكس عالما رحبا يحكمه الضباب، لكنها في الوقت ذاته اختصرت جمالية الطبيعة عندما منحتنا شعورا لا تختلط فيه المفارقات، وإنما رأبت التصدعات النفسية عبر دليل طبيعتها البكر الذي قادنا الى أرض الهدوء.
واسكتلندا، التي تبلغ مساحتها 78،8 ألف كيلومتر مربع، تشتهر بطبيعتها الخلابة وأرضها الجبلية، حيث تصل أعلى قمة فيها الى 1342 مترا. وهي أعلى قمة في بريطانيا. ومن اشهر مدنها ادنبرة، وأبردين، ودندي، بالإضافة الى عاصمتها جلاسكو، التي لن يتفاجأ الزائر لها اذا ما رأى المركز الاسلامي والمسجد الجامع اللذين شيدا في قلب المدينة. ففوق المسجد العملاق، الذي جمع بين حداثة البناء المتوائم مع محيطه والنمط المعماري التقليدي المستوحى من مساجد شبه القارة الهندية ترتفع مئذنة رفيعة جميلة تؤكد حضور الاسلام كجزء من النسيج الاجتماعي والديني والمعماري السائد في هذا البلد. وكتأكيد على حضور المسلمين في هذا المجتمع، قدمت اسكتلندا، العاصمة الصناعية لبريطانيا، أول نائب مسلم في مجلس العموم البريطاني عام 1997. وبالعودة الى التاريخ يكتشف المرء انه في بداية الاربعينات من القرن العشرين وصلت طلائع المهاجرين المسلمين من شبه القارة الهندية، التي خضعت للاستعمار البريطاني، الى هذه المدينة الصناعية. وبدأ المسلمون وقتئذ في تنظيم انفسهم في مؤسسة حملت اسم “جمعية اتحاد المسلمين” التي تم تأسيسها عام 1943. ومع مطلع الألفية الثالثة، قدر عدد مسلمي جلاسكو بحوالي عشرين الف نسمة، منهم من يدير استثمارات محدودة، ومنهم من استطاع ان يصبح رجل أعمال كبيراً.
أما عن الاتصال التاريخي بين الجزر البريطانية والمسلمين، تقول المصادر التاريخية انه بدأ في العهد العباسي، حيث ضربت عملة ذهبية انجليزية في القرن الثامن تحمل في احد وجهيها عبارات عربية. وهي نسخة مطابقة للدينار الاسلامي المضروب في عهد الخليفة العباسي المنصور. وقد اكتشفت تلك العملة في روما، وهي معروضة حالياً في المتحف البريطاني، لكنها لا تزال مثار جدل لتكهنات المؤرخين، الذين ذهب بعضهم الى الاعتقاد بأن الملك الانجلوسكسوني “أوقا”، الذي تولى الحكم بين عامي 757 و796 للميلاد، قد اعتنق الاسلام سراً. تجدر الاشارة الى ان الملك “أوقا” كان واحداً من أقوى الملوك الأنجلوسكسون.
وقد حظي بتقدير البابا “أدريان الأول” الذي سماه أول ملك لإنجلترا. ولكن يرجح ان الاتصال بين المسلمين وبريطانيا بقي قائماً عبر القرون. وقد تنامى هذا الاتصال في بعض العهود بدوافع تجارية وعسكرية واستعمارية واستشراقية.
في إحدى محطاتنا توقفنا لزيارة يخت الملكة اليزابيث الثانية في ميناء أدنبرة، وهو يخت يحمل رمزاً من نوع معين تماما كالملكة التي تمثل رمزا كونيا فريدا من نوعه في أنواع النظام الملكي بالنسبة للبريطانيين، كما أنها نجمة على مستوى العالم كله، فلا يوجد أي ملك أو ملكة في العالم يضاهيها من هذه الناحية كما يقول نايجل نيكولسون مؤلف كتاب “الملكة ونحن”.
ومن يزر اليخت، الذي تم تجهيزه تجهيزا كاملا وكأنه قصر عائم، يلحظ أنه محاط بدلالات من الغموض، وخصوصا عندما يعرف أنه كان مقرا للعائلة الحاكمة، ومكانا لاستقبال زعماء العالم، أمثال راجيف غاندي، ونيلسون مانديلا وغيرهما.
والجائل في اليخت تثيره تساؤلات عدة كما يقول نيكولسون: كيف تعيش الملكة؟ وكيف تمارس دورها كحاكمة؟ فعندما وصلت الى سدة العرش عام 1952 كان العالم شيئا والآن أصبح شيئا آخر. وقد خسرت إنجلترا امبراطوريتها الكولونيالية، وتحولت الى دولة وسطى بعد أن حلت أمريكا محلها في قيادة العالم. كما أن العادات والتقاليد تغيرت في أوساط الشعب الانجليزي والشعوب الأخرى. ولكن النظام الملكي لم يتغير وكأنه سرمدي كما اليخت تماما. فرغم ذلك التغير كله لا يزال الناس يتحدثون عن العهد الاليزابيثي.
تضامن مع فلسطين
قد يفاجأ الزائر الى جلاسكو بحملة التضامن الاسكتلندية مع فلسطين لكنه يصبح أكثر احتراما لأولئك الذين ينظمون الحملة تحت شعار “لا تمويل اسكتلندي للتطهير العرقي في فلسطين”. ويبدو أن الحملة، التي تنظمها مجموعة من الشعب ليس لها انتماء سياسي سوى مناصرة المظلومين، تأتي في اطار الاحتجاج على جمع المال من أجل التطهير العرقي في فلسطين، حيث كان الصندوق القومي اليهودي قد استغل شخصية الممثلة الأمريكية المولد “روبي واكس” لجمع هذا المال في حفل عشاء أقامه لها بأحد فنادق جلاسكو.
واللافت في الحملة أن جميع المؤيدين للحقوق الإنسانية الفلسطينية في جلاسكو واسكتلندا نفذوا هذا الاحتجاج وقالوا: “لا يمكن لروبي واكسر ان تستغل شهرتها من أجل التطهير العرقي في فلسطين، وعلينا أن نجعل اسكتلندا بعيدة عن هذه القضية”.
ومما يسترعي الانتباه أيضا أن بيان منظمي الحملة يتضمن فضائح عن شاؤول موفاز وزير الحرب “الإسرائيلي”، ويؤكد أنه جاء الى اسكتلندا في العام الماضي ليساعد في حملة جمع الأموال للصندوق القومي اليهودي. لكنه اضطر للمغادرة بسرعة عندما نصحته السفارة “الإسرائيلية” بأنه عرضة للاعتقال بموجب القانون الدولي، باعتباره مجرم حرب. واعتبر البيان أن روبي واكسر شخصية عالمية تقدم الدعم للجرائم العنصرية.
تحياتي
منقول مع تعديلات من قبلي
وعلى هذه الصور الرائعة،،،