- السلام عليكم ورحمة الله ....
السلام عليكم ورحمة الله ....
في ليلة أبهاوية (مجنونة!) من ليلي الصيف ... اجتمع رهط من الشباب في منزل أحدهم في حي "النميص "... وفي فناء المنزل ضمتهم جلسة دافئة على رشفات من القهوة والشاي ... كل شيء كان هادئا حتى الحديث الذي تم تجاذب أطرافه لم يكن ليتجاوز العمل والأحوال المعيشية وربما مستجدات السياسة ... كل تلك الأحاديث يلفها الهدوء وترتيب الأدوار احتراما للسن والمقام ... ربما أسهم طول الانقطاع في هذا الجو الرزين ...
مرت الليلة بسكونها الذي لم يعكر صفو مزاجه إلا أصوات الألعاب النارية التي ارتجت لها أطراف الحارة الهادئة بصفير الأطفال وتصفيقهم ... (مساكين هؤلاء الأطفال الذين ترمي على كواهلهم شطحات الطفولة في ثياب البالغين ) المهم ... انتهت الألعاب وعاد الجو إلى سابق عهده ....
حتى رميت صخرة كبيرة ضخمة في المياه الراكدة ... فأحدثت صوتا وحركة... استدعت وعلى وجه السرعة إبريقا آخر من الشاي ... هب المضيف فزعا منتشيا لإحضاره ...
ما رأيكم في سفرة سياحية نطرح عن أجسادنا أغلال التعب ومشقة الروتين القاتل ؟!
كانت هذه الصخرة اللفظية كافية لتجعل ليلتنا ساخنة صاخبة بالآراء والمقترحات ... سيرلانكا كانت أولى الوجهات في تلك الليلة ... نوقشت المميزات والعوائق .... أستأذن أحدهم للذهاب لسيارته ... وأحضر أوراقا لبرامج سياحية لماليزيا وأندونيسيا ... فأبعدنا النجعة وازدادت الآمال ... فانقطع الحديث عن سيرلانكا لتكون ماليزيا سيدة الموقف.... وما زالت الأحاديث هناك حتى جاء اتصال من أحد الزملاء من استراليا ... فارتقت الآمال وعلت الهمم لما هو أبعد ... وهكذا شيئا فشيئا .... انقطع الحديث عن ماليزيا .... لتحتل استراليا ساحة الحديث ... وما كادت ساعات الليل أن تنقضي حتى عزمنا الرحيل إلى صلالة عن طريق اليمن !!
ألم أقل لكم إنها ليلة مجنونة !
حين زرنا اليمن في فترات ماضية وكتبنا تقريرا هنا عنها ... لم نكن نعلم أننا كنا نمتع الأنظار من خلال نصف النافذة ... والتي كانت سابقا هي كل الصورة !
عرفنا لاحقا أننا لم نعرف من الحقيقة إلا نصفها ... فأردنا أن نعرف الحقيقة كلها ...
ففتحنا نافذة اليمن السعيد على مصراعيها ... وعرفنا أن نصف الصورة ليس هو الصورة كلها ... بل تيقنا أن رؤية الصورة كاملة ... زادها بهاءا وجمالا !
فعندما قررنا الذهاب لصلالة ... كان لزاما وقد عقدنا السير برا أن نمر باليمن – كل اليمن – شماله وجنوبه ... فكانت الزيارة الأولى لحضرموت مهد الحضارات وبلد التأريخ التليد ... بلاد تقرأ في أوديتها الأساطير ... وفي مبانيها الحكايات .... وفي جبالها قصص الأولين !
اليمن الجنوبي –وأعتذر عن التسمية فكلها يمن على الأقل في أروقة السياسة !!!- شيء آخر .... الأحمر والأبيض والأسود حين تجتمع وحينها فقط ندرك أنا ما زلنا في أرض الجمهورية اليمنية ... هكذا بدا الأمر لي !!
نعود لسياحتنا ....
زرنا صنعاء ... فلا بد منها وإن طال السفر !
وأقمنا بالمكلأ النابضة بالحياة من شريان الخور العتيد !
ومررنا ب(بشبام حضرموت) ... منهاتن الصحراء !
وبتنا ليلتنا في سيئون مدينة القلاع والنخيل !
وبلغنا منتهى الآمال ... بصلالة الخضراء ..
وفي مرفأ (أبوظبي) غسلنا أدران الترحال الطويل استعدادا للختام...
لنصل بعدها لعاصمتنا الحبيبة بعد رحلة برية طويلة عشنا فيها أجواء متناقضة .... وأحوال متباينة
فقد سرنا بمركبنا في طرق خضراء ..
وسارت بنا كسفينة الصحراء في بقاع جرداء ...
في تلك الأيام ربما أصابتنا رعشات البرد القارص ...
لكننا أيضا اكتوينا بلهيب الشمس الحارقة ....
استمتعنا بمنظر الأبقار في مراعيها الخضراء ..
ورأينا العيس في البيداء يقتلها الضما...
أكلنا وجبات فاخرة في مطاعم راقية ...
لكننا استلذينا بالأكل الشعبي في المطاعم المزعجة ..
في أغلب فترات الرحلة كان قائد المركبة يرى مد بصره..
لكنه في بعض الأحيان لا يرر مد يده..
كان لهذه الأجواء المتناقضة أثر كبير في طرد الملل من أنفسنا ... فمتعة المغامرة واكتشاف الجديد فيها لذة لا تقاوم ...
عشنا أجواء الأمن والرخاء ...
كما عشنا أجواء الخوف والرصاص وقطاع الطريق ..
وجدنا اللذة في كل شيء جديد ... لم يكن هناك حدود للمتعة مع المتناقضات العجيبة ....
صدقوني أننا وجدنا من المتعة هنا ...
بالقدر الذي وجدناه هنا ..
فالسعادة شعور داخلي يمكن استحضاره متى ما أردت في أي مكان وزمان.... ألم يكن ابن تيمية في ظلمات السجن ... وجنته وبستانه في صدره .... هكذا كنا فضلا عن الرفقة الصالحة الممتعة التي لو أغلق علينا معهم بالمتاريس شهورا ما مللنا حسن معشرهم و طيب حديثهم فهم ينتقون أطايبه كما ينتقى أطايب الثمر !
أيام سعيدة عشناها في أجواء الترحال واكتشاف الجديد ... لم يكن يكدر صفوها إلا بعض الاتصالات الهاتفية .... وفيها يقود نساءنا مكرهن لاستجداء العواطف بلسان الطفولة العذب : محمد وفاطمة وعبدالله ... أطفال في سن الرابعة ... ينطقون بحروف السؤال عن أبائهم وهم خلف الفيافي والقفار ... أطبق سماعة الهاتف على صوت محمد بعد وعد له بالعودة سريعا ب(آيس كريم ) الفرالوة (هكذا ينطقها )...
الرحلة باختصار مزيج من المتعة والمتعة ! انطلقنا من أبها إلى الرياض مرورا بثلاثة عواصم عربية .... أمر لن يكون إلا من هذا الطريق ....
صنعاء ثم إب فعدن ومنها للمكلأ مرورا بشبوة ... ومن ثم للمهرة مرورا بسيئون ... ثم إلى صلالة وخروجا منها لقطع عمان طولا وصولا إلى الإمارات ... العين على الطريق ومن ثم أبوظبي ثم الدخول للمملكة إلى الرياض ...وعندها تكتمل الرحلة البرية ... لنطير من الرياض لأبها إذا لاجديد في مسافة الألف كيلو الأخيرة !
لا أشك في أنكم ستبقون معي هنا ... لنعيش سويا تفاصيل هذه الرحلة ... بالصورة والكلمة ... لأضمها في سجل الذكريات الخالد ... وأضع لبنة في صرح ترحال بدأ من هنا ولا أظنه سينتهي قبل قطع الأمال وبلوغ الآجال ...
فأهلا بكم ضيوفا علىَّ هنا ... لن أبتعد كثيرا عنكم ... فما زالت رحلتي لم تنته حتى أختم هذا التقرير .... حينها سأقبل أطفالي ... وأمد لزوجي يد الوصال بعد أيام الجفاء الماتع !