- العجينة تطير في الهواء قبل أن تدخل الفرن (تصوير: جوزيف أبي رعد)
- بيروت: مايا مشلب
مقهى «الفلمنكي».. «الشلمصطي» بين طيب الطبق وعبق «النفس»
شخصية بيروتية صادقت الفنانين والمشاهير
قرأت الموضوع بجريدة الشرق الاوسط في عدد يوم الاحد الموافق 01/03/2009م
وحبيت انقل الخبر لكم ... وتعليقات من زار هذا المكان بليز
العجينة تطير في الهواء قبل أن تدخل الفرن (تصوير: جوزيف أبي رعد)
بيروت: مايا مشلب
الدخول إلى مقهى «الفلمنكي» في منطقة السوديكو المحاذية لوسط بيروت، يخرجك من ضجيج المدينة وزحمتها، ينتشلك من ضغط الحياة اليومي ويعيدك إلى حقبة الستينات، حين عرفت بيروت أوج تألقها وذروة جمالها. كل ذلك لا يتطلب أكثر من خطوة واحدة، يجتاز بها الزائر السلالم المؤدية إلى الباحة الفسيحة لهذا المقهى، باحة مسيجة بالأشجار ومكسوة بأحجار وبلاط، بعضها مستقدم من بيوتات بيروت العتيقة. ومع توالي الخطوات وصولا إلى لحظة اجتياز العتبة والباب الخشبي، يبدو الانتقال أشبه بالغوص في ذاكرة العاصمة اللبنانية بكل أبعادها. لأن ما يميز هذا المكان لا يقتصر على ديكور جميل أو خدمة مميزة أو لقمة شهية فحسب، بل كل هذه مجتمعة ومقترنة بقصة لبناني، هو خليل الفلمنكي، الذي تزين أغراضه، وخصوصا سبحاته وطرابيشه زوايا المقهى وجدرانه، وتضحك «أفشاته» المدونة في قائمة الطعام الزوار، وتشغلهم قراءة صفاته على الأوراق الموضوعة أسفل «المناقيش» وسائر المأكولات. فهو ال«حكوجي» وال«مسايرجي» (كثير الكلام) وال«أونطجي» (المحتال) وال«الشلمصطي» (نصاب) وال«مدبرجي» (يدبر أموره بسهولة) وال«جعدنجي» (الممازح)، وغيرها من عشرات الصفات، التي جعلت منه شخصية مثيرة، استطاعت بناء علاقات مع أهم المشاهير العرب والأجانب من ممثلين ومغنين وحتى سياسيين. كل ذلك بفضل خفة ظله و«لسانه الحلو»، كما يقول ابنه أنيس، حين يروي قصة والده الراحل، المدونة في الصفحة الأولى للائحة الطعام. وقراءة هذه القصة، أمر لا بد منه للراغبين في الاطلاع على «أسرار» هذا المكان ودفء أجوائه وخصوصيته، التي تجعل منه مكانا فريدا بين كل المقاهي والمطاعم ذات الطابع اللبناني، لا بل مكانا حيا! فكل ما في هذا المقهى، يشعر الزائر بأنه في بيت قريب، أو لدى صديق، ليستمتع بنفس الشيشة (النرجيلة)، ويلهو بجولات من اللعب بطاولة النرد أو الورق، ويطرب على إيقاع نغمات قديمة هادئة وخالية من أي طنين مزعج، تماما كما أحبها الفلمنكي، الذي كان من هواة جمع الأسطوانات للمغنين المفضلين لديه، أمثال أسمهان، وفريد الأطرش، وعبد الوهاب، وأم كلثوم، التي دعته الى المشاركة في إحدى حفلاتها، عزفا على العود لشدة إتقانه إياه! فتستمر بذلك الجلسة لدى «الفلمنكي» ساعات من دون أن يقطعها إزعاج، أكان من نادل يحاول استعجال الزبائن لدفع الفاتورة، أو من زوار آخرين ينتظرون إخلاء الطاولة بسبب حجزهم المسبق لها. فهذان أمران يتعارضان وسياسة القائمين على المكان، الذي أرادوه مريحا وخاليا من أي تعقيدات في الخدمة. لذلك يكفي أن يقصد المرء هذا المقهى الفسيح ليجد طاولة في انتظاره. ففي الشتاء يتسع لمائتين وعشرين شخصا، فيما يمكن أن يستقبل 500 شخص صيفا، وأبوابه مفتوحة 24 ساعة يوميا.
لنعد إلى قصة خليل الفلمنكي. هذا الرجل انتقل من حلبة المصارعة الحرة إلى مصر ليصبح مرافقا لأحد رجال الأعمال هناك، وذلك بسبب ظروف صحية ألمت به ومنعته من متابعة عمله كالسابق. وبفضل إتقانه فن الكلام، استطاع نسج شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية حتى وصل إلى مشاهير هوليوود، منهم ألفريد هيتشكوك، وفرانك سيناترا، وجون وين، وصوفيا لورين، التي تجمعه بها صورة يعلمها فيها رقصة «الدبكة» اللبنانية. وفي السياسة، كانت لديه أيضا صداقات مع خصوم الأمس، منهم الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون، ومؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، والزعيم كمال جنبلاط، وأيضا الرئيسان الأميركيان جون كينيدي، وريتشارد نيكسون! وله مع بعض هؤلاء الشخصيات بضع لقطات تزين قائمة الطعام.
يتحدث أحد مالكي المطعم اللبناني ماريو حداد، عن سبب اختيار الفلمنكي عنوانا لهذا المقهى، الذي يشهد منذ افتتاحه في سبتمبر (أيلول) 2008 إقبالا متزايدا، فيقول: «أردنا تأسيس مقهى يقدم الشيشة بطريقة جديدة وتقليدية في آن واحد، وضمن أجواء مرحة وحميمة. فهذا النوع من المقاهي هو أكثر ما يهواه اللبنانيون هذه الأيام. لذلك أردنا اختيار شخصية لافتة تطبع المكان بهوية معينة وتضفي عليه رونقا مميزا. وصودف أننا تعرفنا إلى أنيس، الذي أخبرنا عن والده خليل الفلمنكي. وإضافة إلى أغراض خليل وخبراته الطريفة ومقتنياته الفريدة التي تزين المكان، قمنا بأبحاث لاختيار الديكور المناسب والأطباق الخفيفة التي نقدمها للزبائن، إلى جانب الطبق اليومي».
زيارة الفلمنكي من الساعة الأولى بعد منتصف الليل وحتى الثانية عشرة ظهرا، ضرورية لتذوق «أيش ليشات الليل». فهذه متعة بحد ذاتها تسمح بالتلذذ بأشهى المأكولات اللبنانية، إلى جانب الاستمتاع بالشيشة. وهذه ال«أيش ليشات» تضم مجموعة من الأطباق، منها الفول المدمس وفتة الحمص باللبن والبيض المقلي مع السماق أكان مخفوقا أو «عيونا» (غير مخفوق)، إضافة إلى الكشك واللبنة المحضرة على طريقة الفلمنكي، و«جبنة خليل من حراجل». ولهذه التسمية قصة مفادها أن خليل الفلمنكي كان يحرص على استقدام الجبن البلدي المفضل من قرية حراجل الجبلية في جرد كسروان. وهذا الطبق كغيره الكثير من الأطباق اتخذ تسميته من خليل حرصا على إضفاء أجوائه على المكان. لذلك يتذوق الزوار مثلا «برافو عالبطاطا»، التي تختلف عن البطاطا المقلية العادية بإضافة بعض البهارات إليها، إلى جانب تقديمها مع «طحينية الشمندر» أي الحمص بالطحينة مع الشمندر. وإلى جانب هذه التشكيلة، يمكن تذوق «منقوشة الفلمنكي مع زعتر وبصل وبندورة». وهذه تحضر تماما كما كان يحبها خليل، أي بوضع الخضار لتختمر مع الزعتر في الفرن. ومن مناقيش الفرن يمكن الانتقال إلى أكل مناقيش «الصاج من الليلكي»، التي تمتاز بطعم لا يضاهى بفضل توصل القائمين على المكان إلى تحضير خلطة خالية من السكر والزيت والحليب، ما يفضي إلى منقوشة سريعة الهضم. وهذه الوصفة سجلها أصحابها، وقريبا سيفتتحون سلسلة محلات في بيروت لتقديمها. ومن «الليلكي المالح» يمكن الانتقال إلى «الليلكي الحلو» أي الصاج مع المربيات على أنواعها، ودائما مستقدمة كالألبان والأجبان وبقية المكونات من بهارات وأعشاب من القرى اللبنانية المختلفة، لسببين: الحرص على جودة الأطباق وتشجيع أهالي القرى من معدي المونة. لذلك فإن السلطات على أنواعها، تمتاز بطعم فريد بفضل جودة الخضر فضلا عن النكهات. فالتبولة مثلا محضرة بصلصة من حامض الحصرم، فيما «فتوش إمي سعاد» أي زوجة الفلمنكي، مخلوطة بدبس الرمان ما يمنحها مذاقا لذيذا جدا. ويمكن الانتقال إلى المقبلات الباردة التي تضم مجموعة من 20 طبقا يمكن انتقاء الفول والحمص والأجبان البلدية والمكدوس. وقبل الانتقال إلى المشاوي، يمكن انتقاء بعض الأطباق من المقبلات الساخنة المتنوعة خصوصا أن بعضها يقدم بطريقة جديدة كستيك الحلوم المشوي المقدم مع التين المنقوع بالقطر.
وللراغبين في «نَفَس» مميز، لهم المكانة الأبرز لدى الفلمنكي، لأن الشيشة مستقدمة من مصر، ومتوافرة بنكهات متنوعة. والطريف أن المقهى يقدم «شيشة مثلجة» وهذه يفضل تجربتها بدلا من إعطاء تفاصيل عنها. وصيفا، يمكن الاسترخاء في الباحة الفسيحة والتنعم بالنسيم العليل وتنفيخ «شيشة بيد»، أي طلب النرجيلة مع الاستلقاء على أحد الكراسي التي تفتح كالأسرة.
الواقع أن المفاجآت كثيرة في هذا المقهى، حتى المشروبات من الجلاب إلى السوس وقمر الدين يبدو طعمها مختلفا، ربما بفضل طيف الفلمنكي، الذي يخيم على المكان، فيجعل منه صورة تختزل أجواء بيروت الغابرة.
ولكم تقديري (ولد بابا وماما)