- القاهرة:
حيث تقودهم الحياة .
القاهرة:
ربما يكون محمود علي قد ردد كلمة «جيزة» مليون مرة، وهو يعمل جاهدا على ملء حافلته الصغيرة بالركاب، قبل الانطلاق صوب الجيزة.
ترديده بصورة متكررة ل«جيزة.... جيزة.... جيزة.... جيزة»، لم يمنعه من مسح زجاج حافلته الأمامي والمرايا الجانبية، استعدادا لانطلاق الرحلة، فيما بدأ الركاب يأخذون اماكنهم داخل الحافلة بهدوء. كانت الساعة الواحدة وخمس وخمسين دقيقة بعد الظهر.
يقول محمود، 31 سنة، إنه ظل يمارس هذا الروتين على مدى ما يزيد على نصف عمره تقريبا، أي التحضير لنقل الركاب عبر الجسور والطرق والأنفاق لقاء ما يعادل تسعة سنتات تقريبا.
الإحباطات، شأنها شأن حركة المرور، نادرا ما تنتهي. هناك ايضا الزبائن الذين يفرضون انفسهم على الآخرين وأفراد الشرطة المرتشون وضجة وضوضاء القاهرة، إلا ان الأشياء ليست كلها محبطة وسلبية، كما يقول محمود نفسه، فهناك «الركاب الظرفاء» أصحاب الابتسامة.
امتلأت حافلة محمود الصغيرة، وقفز هو على المقعد الأمامي خلف عجلة القيادة، وأدار مشغل المسجل، الذي كان داخله شريط مسجلة عليه سور من القرآن الكريم، وأطلق بوق السيارة مرتين من دون سبب في ما يبدو.
رجع محمود بحافلته الى الخلف من دون حتى ان ينظر في المرايا التي تكشف المساحة وراء الحافلة واتجه صوب الشارع. تمايلت الحافلة وتمايل معها قلب معلق على المرآة الأمامية مكتوب عليه باللغة الانجليزية «أحبك».
هناك عشرات الآلاف من السائقين، مثل محمود يعملون بالميكروباصات، كما يطلقون عليها، في شوارع هذه المدينة التي يقطنها 18 مليون شخص، في صراع محموم بحثا عن الركاب. وكان فيلم سينمائي مصري قد سخر من سائقي ميكروباصات القاهرة مطلقا عليهم «شياطين الاسفلت».
إلا ان هذه الصورة لا تنطبق على محمود، الذي يقول ان الأمر الأكثر اهمية في الحياة يتمثل في الرحمة والعدل، ويقول انه لولا الرحمة والعدل « لدمرت مصر»، على حد تعبيره. الرحمة والعطف من الأشياء المفيدة هذه الأيام في هذه المدينة التي تعتبر الأكبر في افريقيا والشرق الاوسط .
فعلى الرغم من التصريحات حول ازدياد معدلات النمو الاقتصادي والاستثمار، لا تزال هناك شكاوى من ارتفاع الاسعار والفساد والبطالة، التي تؤثر على كل اسرة تقريبا. كانت القاهرة العام الماضي تعج بالنكات حول الحكومة، اما الآن فإن المزاج لا تبدو عليه أي مسحة ضحك او فكاهة.
يقول محمود ان كل شيء بات متهالكا وان الناس يشعرون وكأن شيئا يخنقهم. توجه محمود نحو شارع ضيق به مساران للحركة وثلاثة طوابير من السيارات.
ظهرت لافتة كتب عليها «احترم إشارات المرور» بجوار إشارة مرور تعطلت أضواؤها الكهربائية.
ويقول محمود ان المشاكل تأتي من كل حدب وصوب من دون ان تحرك الحكومة ساكنا. لا يتقاضى محمود مرتبا ثابتا.
فهو يعمل في خط بين الاهرامات ووسط المدينة مرة او مرتين كل ساعة تقريبا، ويربح في اليوم الواحد ما يعادل 4 دولارات اميركية، وفي بعض الاحيان نصف هذا المبلغ، ويقول انه ينفق هذا المبلغ على الأكل في اليوم ويحتاج الى ما يعادل دولار للسجائر والأشياء الأخرى.
وينفق محمود شهريا ما يعادل 9 دولارات على السكن وضعف هذا المبلغ على ابنه مصطفى، الذي يبلغ من العمر سنتين. والمعادلة لدى محمود تتلخص في انه اذا لم يعمل اليوم لن يستطيع ان يوفر لقمة عيش للغد.
بدأ ركاب الحافلة بهدوء يمررون أجرة الرحلة الى محمود الذي يتناول الأجرة بيد بها سيجارة ويقود باليد الأخرى الحافلة ويغير بها السرعة.
وبدأ الضيق على وجهه عندما دفع له واحد من الركاب ورقة من فئة الخمسة جنيهات مصرية، ولم تكن لديه او لدى أي من الركاب «فكة».
مد محمود رأسه من الشباك ونادى على سائق حافلة آخر طالبا منه صرف الورقة فئة الخمسة جنيهات.
وبدقة متناهية اقتربت الحافلتان من بعضهما بعضا وناول محمود الورقة لسائق الحافلة الاخرى فيما مد له واحد من ركابها الفكة.
ظهر بعد قليل صوت سيدة مسنة من وسط الركاب تطلب من محمود التوقف لأنها وصلت الى حيث تريد النزول قائلة: «يا كابتن... يا بني.... هنا لو سمحت».
أبطأ محمود السيارة لكنه لم يتوقف تماما، نزلت السيدة ثم شغل بوق السيارة وأطلق إشارة سريعة بالأضواء الأمامية قبل ان يغير السرعة وينطلق مجددا مواصلا رحلته.
يقول محمود انه يريد مستقبلا باهرا لابنه، ويرغب في ان يصبح مهندسا، وربما صحافيا، مؤكدا انه لا يريده ان يمر بالتجربة التي يمر بها يوميا.
طموحات محمود متواضعة، فقد كان يتمنى في السابق ان يوفر ما يعادل مبلغ 10000 دولار كي يشتري حافلته ويؤجرها لزملائه، إلا ان ارتفاع الأسعار، على حد تعبيره، لم يساعده، فحتى نوع السجائر الذي يدخنه (مونديال) ارتفع ثمنه، ويقول انه سيضطر قريبا لتغييره الى (كليوباترا)، كي يستطيع ان يوفر ما يعادل 18 سنتا، هو الفرق بين سعر «مونديال» و«كليوباترا».
وصل محمود حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر الى آخر محطة، وهي عبارة عن مجموعة من السيارات أمام محطة للوقود، ويبدو من حديثه انه ليس متأكدا إزاء ما يخبئه له المستقبل، إذ يقول ان الشخص يجب ان يذهب حيث تقوده الحياة لأنه ليس بوسعه عمل شيء، ثم ابتسم وقال في عبارة لا تخلو من عطف وتؤكد العدل: «ربنا لا ينسى أحدا».
يوميات سائق مطحون....لا بجد حلوة جداجدا....بس عجبتني إنة كان ناوي يغير من مونديال إلى كليوباترا....
شاو