- و«أبناؤه» يرفضون الرحيل
- مهن تورث.. وأشخاص يحبونه لدرجة العشق
مجمع التحرير بوسط القاهرة يستعد لنقله
و«أبناؤه» يرفضون الرحيل
مهن تورث.. وأشخاص يحبونه لدرجة العشق
كان عمره عشر سنوات حين كان يقف بجوار والده أمام مجمع التحرير بوسط القاهرة، ومنذ ذلك الحين وهو مستمر في وقفته حتى شاب رأسه، تساقطت أسنانه، وانحنى ظهره قليلا، وهو على مشارف الستين عاماً، لا يزال يأخذ مكان والده، ولكن «دوام الحال من المحال»، فبعد أشهر ليست بالكثيرة، لن يقف عم «فكري» أو زملاؤه مرة أخرى أمام المجمع لتخليص الأوراق للوافدين من مصريين وأجانب، لن يقف عم فكري الذي يقوم ببيع أوراق حكومية للداخلين إلى المجمع ليمارس مهنته.
قرار نقل مجمع التحرير الذي يتكون من 13 طابقاً وبه 9500 موظف حكومي، إلى مناطق متعددة في القاهرة، بتفتيته إلى مكاتب صغيرة، أثار استياء الكثيرين من المواطنين والموظفين، ربما لاعتيادهم على مكان المجمع، الذي يحتل وسط العاصمة منذ أكثر من نصف قرن.
ولكن بالنسبة لفكري وزملائه الخمسة الواقفين بجواره فالأمر يختلف، فالمجمع بالنسبة لهم «لقمة عيش» ونقله يعني أن يبحثوا عن مكان آخر للرزق.
عم فكري يجلس على كرسي أمام المجمع بعد إزالة كشكه الصغير في الثمانينات، ورث عن والده مهنة الكاتب العمومي «العرضحالجي» ويطلق عليها المصريون باللغة الدارجة «المشهلاتي أو المخلصاتي» يأتي منذ الصباح الباكر لينكب على الأوراق ليخلصها للوافدين عليه، الذين يبحثون ويسألون عنه بالاسم، لأخذ رأيه في أمور يصعب حلها ربما في شهور، وعلى قدر أهمية هذا الأمر وسرعة تخليصه يكون المقابل المادي.
فكري بعد علمه بقرار النقل قال: لم أكن أتخيل أنه سيأتي يوم وستأخذني قدمي من سكني لمكان آخر، بعدما كانت هي التي تصطحبني قبل عقلي وجسدي إلى المجمع.
ويرجع للوراء قليلا لاسترجاع بعض الذكريات وبابتسامة يقول: في السبعينات أتت امرأة ألمانية لتخليص بعض الأوراق وبعدما ساعدتها في ذلك عرضت علي السفر لألمانيا للعمل هناك، ولكن أسرتي ومهنتي حالا دون ذلك، ولكن استمر بيننا الاتصال والاطمئنان، فهو يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويحمل للعديد من الألمان خاصة ذكريات جميلة تبدأ بتخليص الأوراق وتنتهي بمودة شخصية.
كما لا ينسى الرجل الذي أتى إليه لمساعدته في تخليص أوراقه، قبل سفره للحج، حيث كان آخر موعد للسفر في نفس اليوم، ويساعده، ويسافر الرجل حاملا له الدعوات، من أمام المجمع للأراضي المقدسة.
وبإصرار يقول: سنذهب وراءهم أينما ذهبوا، وسنقف أمام أماكنهم، وليأخذونا على الأقسام وسنخرج منها لنقف مرة أخرى، فهي «معركة لقمة العيش» وليس لي مصدر رزق آخر.
بجوار فكري يقف أبو أحمد (43 سنة) الذي كان يقف بجوار والده أيضاً وهو في المرحلة الابتدائية، واستمر كذلك حتى حصوله على المؤهل الجامعي، ولم يجد ميراثاً من والده غير هذه المهنة، وأشار أنه تربى في المجمع ومكث فيه أكثر من بيته وربط مصيره وحياته خلال الشهور المقبلة بمصير المبنى قائلا: كما لا أعلم ماذا سيفعلون بالمبنى، لا أعلم أنا ماذا أفعل؟
وتقف بعيداً عنهم «أم بلال» متشحة بالسواد منذ وفاة زوجها من ربع قرن مضى وأتت للمجمع لتستكمل مسيرة زوجها الذي كان يعمل كاتباً عمومياً وتربية أولادها وتحدثت باقتضاب شديد: استيقظ منذ الفجر لآتي إلى هنا مثلما كنت أفعل مع زوجي، ربيت أبنائي وكبروا، ولا أعلم ماذا أفعل بعد نقل المجمع ربما آن الأوان لأستريح.
بجوارهم مجموعة شباب يحملون هواتف نقاله للراغبين في الاتصال والذي انتشر في شوارع القاهرة، خاصة في الأماكن التي تشهد ازدحاماً كبيراً، منهم من يصور الأوراق والمستندات للوافدين، ولكن من بينهم «سامح» الذي لم يتجاوز 17 سنة والذي كان واقفاً لمشاهدة المارة، وبجسمه النحيل وابتسامته الطفولية، أتى ليسألني ببراءة طفل ما زال يتكلم حديثاً، لماذا ينقلون المجمع وأين سنذهب؟
سامح الذي تجمعت في عينه بعض الدموع أردف قائلا إنه يأتي المجمع بالمترو، أجره المادي يزيد عن المائة جنيه بقليل، وأتى منذ عامين فقط، لكنه ارتبط بالمكان ربما يشعر أن العاملين حوله مثل أسرته.
واختتم قائلا: لا أتخيل أنه سيأتي اليوم الذي أركب فيه المترو ليأخذني لاتجاهات وأماكن أخرى غير اتجاه «مجمع التحرير».
وأنا مقدّر مشاعر العاملين بالمجمع
لأنني مثلهم أحب وأحنّ للمكان الذي اعتدت عليه
تحياتي بوعلاء