صارت مدينة أصيلة المغربية أشبه بمحطة ضرورية يحط بها الأمناء السابقون للأمم المتحدة الرحال بمجرد ما ينتهون من مهمة حل مشاكل العالم؛ فبعضهم حزموا حقائبهم الشخصية وحجوا إليها لالتقاط أنفاسهم ومخاطبة العالم بلهجة منفلتة من عقال الرسميات وحسابات التوازن العالمية التي تجعلهم يعضون على ألسنتهم في أحيان كثيرة. إنها المدينة التي يعرفها الامين العام السابق بيريز ديكويار بحكم أنه زارها قبل عامين، ونثر الكثير من أفكاره على حواشيها، وبداخل قاعة ندواتها وعلى هامشها ربما اعترف بعثرات الماضي وأقر بملابسات بعض القرارات الدولية التي كان مجرد صدورها يكلف ساعات طويلة من النقاشات الملتهبة.
ولم يخلف كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة ايضا الموعد مع قرية الصيادين المغربية وتحمل ساعات الطيران الطويلة فوق المحيط الأطلسي للوصول اليها.
جاء أنان إلى أصيلة ليلتقط أنفاسه بعدما شغل لسنوات منصب الرجل الأول في البناية الزجاجية للأمم المتحدة بنيويورك التي تصب فيها مشاكل العالم.
كان أنان هادئا كعادته، بيد أنه كان يطلق سراح ابتسامة ترتسم بين الفينة والاخرى بانسيابية، على غير العادة، على شفتيه اللتين اعتادتا على التحرك للكلام فقط. بدا «كوفي» مثلما يحلو للمقربين منه مناداته خلال مقامه بأصيلة، رجلا مليئا بالطاقة رغم الجهد الذي بذله طيلة ولايته، فالجميع يدرك أن الفترة التي عمل فيها لم تكن أبدا سهلة، فهو عاش لحظات حرجة قبيل إعلان الولايات المتحدة الحرب على العراق؛ إذ كانت الضغوطات تمارس عليه من كل جانب ويبدأ في حل مشاكل العالم التي لا تنتهي بمجرد ما ينتهي من شرب قهوة الصباح، لكن كل تلك العاصفة تبدو الآن منتهية بالنسبة ل«كوفي» رغم أن صفيرها ما زال يجول في دواخله، ويبدو منبعثا من نظرات عينيه المشبعتين بالذكاء.
كان كوفي يتحرك باتزان ظاهر ترافقه زوجته السويدية، مبديا رغبة كبيرة في الاصغاء إلى كل النقاشات التي تدور حوله في ندوة أصيلة «اوروبا وافريقيا»؛ فقد كان الموضوع يهمه، لأنه يتطرق إلى مستقبل القارة السمراء التي رأى النور لأول مرة تحت سمائها قبل أن يغادرها باحثا عن تحقيق ذاته فوق أرض الأحلام أو العالم الجديد، إنها تفاصيل البدايات الصعبة في أمكنة الأحلام الأولى التي كشف جزءا منها محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب، عندما أراد أن يضفي قليلا من الملح على الجلسة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافي الدولي مخاطبا الحاضرين بلغة انجليزية سلسلة «لقد درست مع كوفي في نفس الجامعة (مينوسوتا) وتقاسمنا معا الطريق إليها عدة مرات، وسألته ذات مرة عن أحلامه المستقبلية، لكنه كان أذكى مني لأنه استطاع أن يصبح أمينا عاما للأمم المتحدة». فانفجرت القاعة بالضحك.
أما ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير خارجية اسبانيا، فقد بدا هذا العام أكثر مرحا وانتشاء من العام الماضي الذي كان خلاله منشغلا بالحرب الاسرائيلية على لبنان، كان هاتفه الجوال آنذاك لا يتوقف عن الرنين، ينعزل في ركن قصي ويجري محادثاته محاولا المساهمة في حرب بدأت حتى لا تنتهي، لم يمض موراتينوس في أصيلة أزيد من أربع ساعات هذا العام، بيد أنه استمع باهتمام إلى مداخلة «كوفي «عن أوروبا وافريقيا والتقط صورا تذكارية مع شبان مغاربة التفوا حوله، قبل ان يتوجه الى المطار ليستقل طائرته عائدا إلى مدريد».
تلك هي روح أصيلة، حيث يختلط كبار الشخصيات مع سكان المدينة البسطاء، وقبل ايام مشى الرئيس السنغالي عبدو ضيوف و«كوفي» وعدد كبير من الوزراء والدبلوماسيين والباحثين رفقة الوزير محمد بن عيسى، في دروب مدينة اصيلة العتيقة، بانشراح، ثمة سحر في المدينة القديمة يضفي البهجة على النفوس.. وقبلهم مر كثيرون من نفس الدروب، الشاعر الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور، واميل حبيبي، وبلند الحيدري، وادونيس، ومحمود درويش، والبرتو مورافيا، ومارتن انديك، وخورخي امادو. فاللائحة تطول طول السنوات الممتدة من عام 1978، تاريخ انطلاقة اصيلة، بيد ان الحقيقة الاكيدة تبقى هي انهم جميعا مروا من هنا، وفي قلبهم «زوادة» من الحب الكبير لمدينة الثقافة والفنون.. وللمغرب.

منقول