- مدينة التاريخ والفن تستمتع بنسيم الربيع والروابي الحالمة
- فلورنسا: مهد النهضة الأوروبية ومتحف إيطاليا
- لمحة من التاريخ
- الربيع والفن
مدينة التاريخ والفن تستمتع بنسيم الربيع والروابي الحالمة
فلورنسا: مهد النهضة الأوروبية ومتحف إيطاليا
تقول الرواية ان مرضا نادرا له مجموعة أعراض تظهر في وقت واحد يدعى «مرض ستندال» اشارة الى الكاتب الفرنسي هنري ستندال سببه التعرض لجرعة وافرة من الجمال، فقد يرى المرء لوحة تبهره بل قد تحمله الى التصور أن الحياة قد دبت فيها مما يبعثه على فقدان التوازن ثم الاغماء، وهذا ما جرى لستندال حين زار مدينة فلورنسا لاول مرة في القرن التاسع عشر. وكانت زيارتها ضرورة واجبة على كل حسناء ثرية شابة كجزء من ثقافتها العامة قبل زواجها ودخولها المجتمع.
وتعتبر فلورنسا (او: فيرنزه firenze بالايطالية) واحدة من أهم ثلاث مدن يجب على السائح المعاصر زيارتها بالاضافة الى روما وفينيسيا (البندقية) لكي يلاحظ مدى التنوع بين المناطق المختلفة في ايطاليا. الحقيقة انه لا يمكن أن يخيب أمل أي سائح يقصدها ففيها ولد عصر النهضة في اوروبا، وهي التي غيرت الطريقة التي ننظر بها الى العالم الحديث لانها تحفل بكنوز الفن واشهر اللوحات التي نراها في الكتب المدرسية والمتاحف التي يقصدها مئات الالاف من كافة ارجاء العالم، وتتمتع بجو لطيف تحيط بها الهضاب ومزارع الفاكهة وبساتين العنب، ويخترقها نهر «ارنو» وعليه الجسور العتيقة من ايام الرومان والقرون الوسطى وأشهرها «الجسر القديم» حيث ما زالت تباع فيه أجمل المجوهرات والفضيات منذ ما يزيد على ثمانمائة سنة.
ركبت القطار السريع (يورو ستار) من روما متجها الى الشمال في وسط ايطاليا ووصلت الى فلورنسا بعد ساعة ونصف، ولم تتجاوز تكلفة الرحلة 30 يورو (أو 37 دولارا) وكانت المناظر من نافذة القطار بديعة للغاية فهناك التلال الخضراء وقد تناثرت عليها اشجار السرو النحيلة الباسقة، مما يذكرك بلوحات الفنان ليوناردو دافنشي، خاصة الجيوكندا (موناليزا) بابتسامتها الغامضة، ويريحك انعكاس اضواء شمس العصر الخفيفة على الروابي المتموجة لتوجد تمايزا خلابا بين الضوء والظل، فلا عجب ان كبار الفنانين والرسامين الايطاليين فتنوا بجمال مقاطعة توسكانا وعاصمتها فلورنسا واللائحة طويلة وتشمل مايكل انجلو ورافايل ودافنشي وبوتيشيللي.
أول ما لفت نظري بعد وصولي الى فلورنسا أن شوارعها الضيقة وابواب قصورها التاريخية، تمتاز بالفن الراقي وكأن المدينة عبارة عن متحف كبير لم يتغير فيها شيء منذ القرن السادس عشر، وتذكرت أن احد مشاهيرها هو ميكيافيللي صاحب كتاب «الامير»، الذي تبعه الساسة في شعار الغاية تبرر الواسطة، ولكني عدت بسرعة الى الواقع فقد اثار منظر الغروب الساحر على ضفاف نهر ارنو مخيلتي، وفهمت لماذا ولد حب الجمال في ايطاليا من هذه المدينة الحالمة، لولا تدفق ملايين السياح اليها هذه الايام ورمي زجاجات الكوكا كولا الفارغة في شوارعها الاثرية.
لمحة من التاريخ
- اصيبت فلورنسا باضطرابات في القرن الثالث عشر مثل بقية المدن الايطالية المتفرقة انذاك، وتنافس على حكمها انصار بابا الفاتيكان الذي كان يحكم روما والمقاطعات المجاورة والمؤيدون للامبراطورية الرومانية المقدسة، فتبادلوا حكمها مرارا ونفوا خصومهم حتى الشاعر الكبير دانتي أحد آباء اللغة الايطالية ومؤلف كتاب «الكوميديا الالهية»، ابعدوه عن فلورنسا عام 1301 وقرر الحرفيون تأسيس أول نقابة في مسعى مبكر لحكم البلد بطريقة جمهورية ديمقراطية، فدامت التجربة عشر سنوات وكانت تجربة رائدة في تاريخ الغرب لان الطبقة التجارية اتخذت موقفا جريئا تجاه نظام الحكم. وكانت فلورنسا تمول نشاطات البابا كما انشأت المدينة القريبة والمنافسة لها «سيينا» أول بنك في العالم وكانت عملة الفلورين عملة دولية متداولة. ومع تراكم الثروات والغنى جرت طفرة في بناء المنازل والقصور وطلب اصحابها من المثالين من دوناتللو وغيبرتي تزيين الابنية والقصور ومن الرسامين بوتيشيللي وجيوتو رسم اللوحات لتعليقها على الجدران، وبعدها اقيمت الحفلات الموسيقية في حدائق القصور وظهر فن الغناء المسرحي أو الاوبرا لاول مرة في العالم ثم ظهرت عائلة مديتشي القوية عام 1430، التي قدمت بعض البابوات وكذلك الحكام الفعليين لمئات السنين فشجعوا الابداع والتأليف في العصر الذهبي لفورنسا ايام لورنزو دي ميديتشي المعروف بالدهاء السياسي ورعاية الفنون. قامت في عهد ابنه ثورة رجل الدين الكاثوليكي سافونارولا الذي اتهم الحاكم بالطغيان، وأحرق كتب عائلة ميديتشي ومجوهراتهم وشعر نسائهم المستعار علنا في الساحات. وتمادت ثورته الى حد أن البابا وصفه بالزندقة ومات حرقا عام 1498 بينما أكمل دافنشي لوحته الشهيرة «العشاء الاخير» وترك العديد من ابناء البلد مدينتهم، واستقر المقام بالفنان مايكل انجلو في روما ليرسم اللوحات الخالدة ويزين اروقة الفاتيكان وكنائسه. وبقيت عائلة ميديتشي في الحكم حتى عام 1737 ثم خضعت فلورنسا الى حكم فرنسا وبعدها النمسا حتى اعلان الوحدة الايطالية عام 1870 .
الربيع والفن
- الربيع هو أجمل الفصول لزيارة فلورنسا والتسكع في أزقتها، ويعتبر التفرج على حوانيتها الصغيرة متعة نادرة، فالذوق الرفيع والابتكار هو عنوانها والتجول فيها سهل لان كل ما تريد رؤيته في متناول اليد، اما ساحاتها فلا بد من زيارة ساحة الكنيسة الرئيسية (الدومو) والدخول الى الكنيسة الضخمة، التي تتسع الى عشرين الف شخص وتزينها اللوحات الفنية الجميلة والرخام الملون الثمين، خاصة الابيض الناصع والاخضر الغامق، واستغرق بناؤها مائة واربعين سنة من عام 1296 الى عام 1436 وفي متحفها أبواب مدخل الفردوس للنحات جيبرتي وسيرى الجمهور الترميم الاخير لاحد الابواب في 24 من الشهر الحالي وتمثال «الرحمة» الشهير لمايكل انجلو. لا بد من الاستمتاع بقهوة الكبوتشينو في أشهر ساحة في المدينة وهي ساحة سنيوريا وأمامك القصر القديم الذي بني عام 1299 وكان فيه سجن تعلق على جدرانه صور المجرمين المطلوبين للعدالة، وهو الان مركز البلدية والحكومة المحلية كما ترى التماثيل الرائعة معروضة في الساحة في الهواء الطلق، حيث توجد أهم مجموعة من التماثيل في ايطاليا من ايام عصر النهضة ومنها التماثيل التي نحتها مايكل انجلو ودوناتلو وبنفينوتو تشيليني. وبالقرب منك متحف اوفيزي الذي يحتوي على أغلب اللوحات الشهيرة في العالم مثل «الربيع» و«ولادة فينوس» لبوتيشيللي، وينافس متحف اللوفر في باريس. ولا تكتمل زيارة وسط المدينة من دون تناول المثلجات والجيلاتي (البوظة) الايطالية المعروفة بمذاق الفاكهة الطازجة في ساحة الجمهورية (ريببليكا) القريبة من الاسواق والمحلات التجارية.
خلال الزيارة لقصر بيتي الضخم ومقر عائلة ميديتشي السابق يقام الان (في اوائل يونيو حزيران) معرض لاخر مبتكرات دور الازياء الايطالية، اذ لا ننسى أن غوتشي وفيراغامو وكافالي هم من ابناء فلورنسا، وينافسهم المصممون المقبلون من ميلانو مثل أرماني وفيريه والمصمم المخضرم من روما فالنتينو، ويقرر هؤلاء موضة الازياء النسائية والرجالية والالوان المستخدمة في الخريف والشتاء المقبلين. وفي المسرح البلدي ماجيو موزيكاليه وغيره تعرض هذا الشهر اروع الاوبرات والاعمال الموسيقية الكلاسيكية مثل اوبرا القيصر «بوريس غودونوف» لموسورجسكي بقيادة المايسترو الروسي سيمون بيشكوف، وقطع البيانو للموسيقار الفرنسي ديبوسي يعزفها الدو شيكوليني، كما سيشارك في الحفلات الموسيقية اشهر قادة الاوركسترا الطليان مثل كلاوديو ابادو ذي الاصل العربي (من عائلة ابن عباد في الاندلس) وريكاردو شايي. أما الموسيقى الخفيفة فلها حصة وافرة هذا الشهر ايضا، فهناك مهرجان لموسيقى الجاز ومهرجان للموسيقى السوداء مع كبار الفنانين من البرازيل وكوبا ومالي ونيجيريا والولايات المتحدة، ولا ننسى مهرجان السينما ومعارض الرسم الحديث والاسواق المفتوحة لبيع التحف القديمة. وباختصار يحتار الزائر في اختيار النشاطات والمناسبات التي يمكنه المشاركة فيها لكثرتها وتنوعها ومستواها العالي المغري ان لم يقض وقته في الشراء والتبضع من افخم الحوانيت، ذات الاسماء اللامعة او من الدكاكين الصغيرة (بوتيك) التي تختص بالمبتكرات الجلدية والصناعات التقليدية الشهيرة، منذ ايام تأسيس نقابات الحرفيين في القرون الوسطى، لكن العمال الذين صنعوها الان قد يكونون من ايطاليا أو من البلدان العربية أو الصين، فهنا أكبر جالية صينية في ايطاليا، تقطن فلورنسا وضواحيها ومدنا اخرى في مقاطعة توسكانا مثل اريزو، لدرجة أن شركة الكهرباء اصبحت ترسل فاتورة الاستهلاك بالايطالية والصينية منذ العام الماضي. ربما يحالفك الحظ ايضا فترى تصوير أحد الافلام السينمائية في شوارع أو ساحات فلورنسا العريقة، لان العديد من المخرجين يختارونها لافلامهم التاريخية ولعل البعض يذكر فيلم «غرفة تطل على منظر» الذي دفع المخرج البريطاني جيمس ايفوري الى الشهرة قبل عشرين سنة، وكانت الغرفة تطل على فلورنسا وريفها وتعلمت الصبية الانجليزية التي جاءت لتنهل اصول الثقافة مبادئ الفن والغرام. واذا ارتويت من رؤية هذه البدائع من الطراز الاعلى فلا تفوت فرصة زيارة مدن قريبة لا تبعد اكثر من ساعة بالقطار، مثل سيينا اكثر مدينة تحتفظ بنظام القرون الوسطى في تقسيم الاحياء وسباق الخيل على الشوارع المرصوفة بالحجارة، أو بيزا الشهيرة ببرجها المائل او سان جيمنيانو الملقبة ب «مانهاتن القرون الوسطى» وأبنيتها على شكل ابراج كانت العائلات تتقاتل من شرفاتها. أين تجد كل هذا التاريخ والفن أمام ناظريك ولربما فكرت بانتاج فيلم سينمائي لحسابك الخاص!.
