sat111
19-02-2022 - 12:10 pm
دلفت الى داخل مقهى " كافي لاندمان" وسريعا حجزت مقعدي، بالصالة التي اكتظت بالصحفيين لحضور المؤتمر الصحفي للزعيم السياسي شديد التمكن، وما ان انتهى المؤتمر، حتى جلست في قاعة اخرى حيث حررت في هدوء مادتي عن ذلك المؤتمر الهام وارسلتها، ثم تفرغت لمطالعة صحف ذلك اليوم وبعضها عالمي، وجميعها يوفرها المقهى مجانا، فيما كنت أحتسي فنجان قهوة لم يزد ثمنه عن 2 يورو. ما ان انتهيت من الصحف حتى قمت بإجراء ما ارغب من اتصالات ثم حان موعدي مع بعض الاصدقاء فانتقلنا للجلوس في الرصيف الخارجي للمقهى في قلب المدينة، للتنعم بالشمس وبما يقدمه مطبخه من طعام شهي. وهكذا هو الحال في مقاهي فيينا التي لا بد للزائر للمدينة ان يعرف شيئا عنها لكونه جزءا هاما من تراث وثقافة البلد، ولكونها لا تكتفي بتقديم قهوة وشاي ومستلزماتهما فقط بل يمكنك ان تقضي فيها يوما بأكمله دون ان تمل او تكل وانت تتنقل من قاعة لاخرى لتتناسب والمهمة التي تنوي قضاءها في راحة وهدوء وخصوصية لا تحد من حريتك كما لا تتعدى على حرية الاخرين، ولكل مقهى تاريخه ونكهته ومميزاته.
فعلى سبيل المثال مقهى لاندمان، يقع بالقرب من البرلمان وقاعة البلدية والجامعة ومقار عدد من الاحزاب السياسية والمسارح، لذلك يعتبر من انسب الاماكن لعقد المؤتمرات الصحفية، لا سيما وان له قاعات مهيأة ومعدة اعدادا كاملا للايفاء بذلك الغرض، ما اكسبه شهرة ان من السهل ان تصادف فيه اشهر السياسيين ورجال الاعمال والفنانين، أما السياح فيجذبهم تاريخه الذي يزخر بقصص حول ما كان يدور فيه من محاولات تجسس ومؤامرات بين رجال اجهزة مخابرات دول الشرق والغرب ابان فترة الحرب الباردة بحكم موقع فيينا في الوسط بين العالمين، ويحرص كبار زوار المدينة على معاودته والاطلال من موقعه الاستراتيجي على المدينة وكان اخر هؤلاء الرئيس الامريكي الاسبق كلينتون في زيارته الشهر الماضي للمدينة رغم قصرها. هذا ويعود افتتاح هذا المقهى لعام 1873 على يد فرانز لاندمان، ويحلو القول لاهل فيينا مع مرور السنين ان يقولوا ( ان السيد فرانز لاندمان لم يفتح مقهى، وانما مؤسسة اضيفت للمؤسسات النمساوية). أما ان كنت ترغب في مقهى من النوع الارستقراطي قديم وشديد الفخامة، فاختيارك سيتجه الى مقهى " كافي سنترال، بقصر فيرستل، بالمنطقة الاولى، 14 هيرن قاسى، حيث كانت النخبة وما تزال، تلتقي هناك منذ زمن عالم الطب النفسي فرويد الى الاديب بيتر التنبرغ، الذي ارتبط بهذا المقهى لدرجة انه كان يستخدم عنوان المقهى في مراسلاته، كعنوان له، وتخليدا لتلك العلاقة الوطيدة، تم وضع تمثال له في مدخل المقهى، يجذب المارة بابتسامته العريضة.
ومن المجموعات الاخرى التي ارتبطت بهذا المقهى، اشهر لاعبي الشطرنج الروس تروتسكي لدرجة ان بعض النمساويين يعتقدون ان تروتسكي كان يفضل حكم بلاده من مكانه المفضل بهذا القصر المنيع، الذي افتتح ابوابه للمرة الاولى كمقهى عام 1860 ولم يغلقها الا في سنوات الحرب العالمية الثانية ليعاود الافتتاح عام 1975 ليواصل يوميا من السابعة والنصف صباحا وحتى منتصف الليل مع عزف موسيقى حية على البيانو يوميا من الرابعة بعد الظهر وحتى ساعات الفجر الاولى.
كما يمكنك يوميا ومن الساعة 11 صباحا الى الساعة 11 مساء، ان تطلب بجانب المشروبات ما يحلو لك من طعام، اذ يشرع مطبخه ابوابه لكل انواع المأكولات النمساوية الشهيرة من قلاش وشنتزل ومعجنات وحلويات وجميعها من الذ ما يمكن ان يكون الطعام، حيث تمتزج نكهات وبهارات ومهارات المطبخ التركي والهنغاري والالماني والصربي، ففيينا كانت عاصمة امبراطورية حكمت او تأثرت بتلك الدول وغيرها لاكثر من 600 عام، بل حرصت امبراطورتها ماريا تريزا على مصاهرة اوروبا عبر عمليات زواج، لا سيما وانها كانت ام لستة عشر مولودا اشهرهم الامبراطورة ماري انطوانيت التي يردد النمساويون بفخر ان امبراطورتهم قد اوصت ابنتها بالبقاء مع زوجها والموت معه، عندما اقترب الثوار من قصرهما بفرساي والثوار غاضبون يطالبون بالخبز!! وما بين مقهى ومقهى في مدينة تفضل شرب القهوة على الشاي، بالرغم من زخم انواع الشاي ونكهاته والوانه ما بين اخضر واسود واخر بلون الفراولة وطعم اقرب للكركدي، بعضه باللبن الحليب واكثره مع قطرات من الليمون، رغم كل هذا فإن فيينا تفضل شرب القهوة، وحقيقة فإن ما يفضله اهلها هو جلسة المقهى والاجواء والحميمية التي يوفرها وطقوس المقاهي، وما ارتبط بها من ذكريات وحكايات، فأصبحت جزءا من المدينة التي يحبها اهلها ويفتخرون بها كلوحة جميلة تزداد جمالا كلما مر عليها الزمان.
ومن اجمل مقاهيهم واشهرها مقهى "دمل" او المقهى الامبراطوري، فهو لا يبعد سوى خطوات عن قصر الهوفبورغ المقر الشتوي للامبراطور، الذي كان من عادته ان يرتاد ذلك المقهى عصر كل يوم ليستمتع بكأس من " الميلانج " او القهوة باللبن المضروب والذي يغطي وجهها في شكل رغوة، مع قطعة من كيكة الشوكولاته او فطيرة التفاح الساخن بنكهة القرفة " ابفل اشترودل " التي يمكن ان تصاحبها كمية اخرى من اللبن المضروب حتى يصير كريمة.
دمل قهوة انيقة تمتد من صالة لاخرى في نمط معماري انيق، وتمتاز بفترينة تعكس يوميا عن طريق تماثيل من الحلويات اهم مناسبات المدينة، فإن كانت المدينة تحتفل بأعياد الميلاد فهناك تماثيل بابا نويل واخرى تجسم القصص الدينية، وان كانت المدينة تحتفل بموسم الحفلات الراقصة، تزدان الفترينة بحسناوات وراقصات مصنوعات من الشوكولاته وجوز الهند والمكسرات وان كانت فترة الانتخابات كانت السيادة لحلويات على اشكال السياسيين وهكذا.
مقهى اخر يفيض فخامة هو المقهى الملحق بأفخم فندق بالمدينة او فندق زاخر، الذي يمتاز بكونه المكان الوحيد الذي له قانونيا حق الادعاء ان تورتة الشوكولاته التي يقدمها، تم اعدادها وفقا للوصفة السرية الاصلية التي تعود للقرن التاسع عشر، وتحمل اسم الفندق " زاخر" وتشتهر بعالميتها. وينظر لها النمساويون كمعلم من معالمهم الوطنية.
ويبقى مقهى يحتل موقعا خاصا رغم انه مكان بسيط جدا يفتقد لكل الزخرف والمعمار الذي تمتاز به المقاهي، سالفة الذكر، الا وهو مقهى "الهافيلكا " الذي يقع في مقدمة شارع الدرسيم او " الدلالة " متفرعا من القرابن قلب فيينا القديمة، ولا يصعب الوقوف على موقعه وعنوانه بنظرة سريعة للخريطة او السؤال عنه عند مغادرة محطة قطار الانفاق " استيفان بلاتز " على الخط الثالث.
هافيلكا مقهى نمساوي بسيط لا يطرقه كثير من السياح الا لتاريخه وهو خير مكان يعكس ثقافة " المقهى " كمكان لشرب القهوة وللاستجمام بعيدا عن المنزل، مكان يعبق بالتاريخ والتراث والادب والثقافة، مكان وفر الدفء يوم لم تتوفر اجهزة التدفئة في كل البيوت بهذا الانتشار الذي يتوفر اليوم.
هافيلكا، مقهى قامت وتقوم على خدمته اسرة واحدة عبر اجيال ثلاثة، وما يزال مؤسسه ليوبولد هافيلكا يصافح زواره، كما ظل منذ عام 1936، وقبل شهور فقط توفت زوجته التي صاحبته كل هذه السنوات، تخبز فطيرتها وتقدمها لزبائنها الذين اصبحوا جزءا من عائلتها، يعرفونها ويعرفون ابنها غونتر واحفادها امير وميخائيل، الذين اخذوا دورهم في الخدمة بالمقهى.
ومعلوم عند كثير من اهل فيينا، ان الزمان هو الذي تغير ولم تتغير الهافيلكا، اشهر مقهى بأوروبا الوسطى، وحتى ايام الحرب ورغم الدمار الذي طال جزءا كبيرا من المدينة، فقد نجت منه الهافيلكا بما يشبه المعجزة، فظلت تستقبل الزبائن كمرفأ يظللهم وينسيهم اهوال الحرب. ومع النمو الاقتصادي الذي دفع بكثير من المقاهي القديمة للتوقف والانسحاب من سوق العمل امام المنافسين الجدد، صمدت الهافيلكا ولم تجدد بغير ادخال ماكينة اكسبرسو، والاسبوع الماضي فقط، زارتها كاميرات التلفزيون لتسجيل تجربة "امكانية نجاح منع التدخين في المقاهي او تخصيص جزء منها لغير المدخنين"، وبصدر رحب افسح مالكها مكانا لغير المدخنين في تغيير هو الثاني من نوعه يطرأ على المقهى الاصيل الذي اكد صاحبه ل "الشرق الاوسط " ان اكبر خطأ يقع فيه السائح ان يطلب في مقهى عريق بفيينا " قهوة تركية او ايطالية او امريكية ..!!" اذ لا تتوفر هذه الانواع رغم انتشارها عالميا . ولا تقدمها المقاهي النمساوية العريقة، بل تقدم ما يماثلها من نسخ نمساوية مائة بالمائة هي Schwarzer , Brauner , Melange .
تقدم هذه وتلك وبجانبها كوب ماء صغير، والفكرة ان ترشف رشفات من فنجان قهوتك ثم تنتظر قليلا لترتشف رشفة من الماء، تتيح لك ان تستمتع مرة اخرى بطعم القهوة من جديد او هكذا يعتقد اهل فيينا!
تحياتي
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط
العدد 10452 تاريخ 11/7/2007
ههه