قال ابن بطوطة بعد خروجه من بعلبك: ولفرط اشتياقي إلى دمشق وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة دمشق الشام، فنزلت منها بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية، ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسناً وتتقدمها جمالاً، وكل وصف، وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها. ولا أبدع مما قاله أبو الحسين ابن جبير رحمه الله تعالى في ذكرها قال: وأما دمشق فهي جنة المشرق، ومطلع نورها المشرق، وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها ، وعروس المدن التي اجتلبناها. قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن أوى المسيح عليه السلام وأمه منها إلى ربوة منها ذات قرار ومعين وظل ظليل، وماء سلسبيل: تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل، وقد سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء. فتكاد تناديك بها الصم والصلاب: اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر والآكام بالثمر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، وكل موضع لحظت بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد البصر ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي تساميها وتحاذيها. وذكر شيخنا المحدث الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي آشي، نزيل تونس: نص كلام ابن جبير، ثم قال: ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد. وتتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد. هذا وإن لم تكن له بها إقامة. فيعرب عنها بحقيقة وعلامة. ولا وصف ذهبيات أصيلها. وقد حان من الشمس غروبها ولا أزمان جفولها المنوعات. ولا أوقات شرورها المنبهات، وقد اختص من قال: ألفيتها كما تصف الألسن. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ولمدينة دمشق ثمانية أبواب، منها باب الفراديس، ومنها باب الجابية ومنها الباب الصغير. وفيما بين هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء، فمن بعدهم. وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم. وتدور بدمشق من جهاتها ما عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات، دواخلها أملح من داخل دمشق، لأجل الضيق الذي في سككها. وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية، وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه، وفيها مسجد جامع ومارستان، وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر موقوفة على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول. وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس وبداخل البلد أيضاً مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن منجا وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. قال التازي: تحدث القلقشندي عن (الصالحية) التي تقع عند منحدر جبل قاسيون وتهيمن على المدينة وبيوتها ومدارسها وأسواقها. وهي تحتضن رفات محيي الدين ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر (ت639) كما تحتضن رفات ابن مالك صاحب الألفية (ت 672) وقد ترحم عليه ابن عثمان المكناسي.
وتابع ابن بطوطة: وعن ذكر الأوقاف بدمشق وبعض فضائل أهلها وعوائدهم قال ابن بطوطة: والأوقاف بدمشق لاتحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أوزواجهن، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير...
وبعد عودته من الصين إلى دمشق بعد عشرين سنة من خروجه منها قال ابن بطوطة: أقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد، والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقى بدرهم نقرة، وأوقيتهم أربع أواقٍ مغربية. وكان قاضي القضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي، وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي، وقدم معه دمشق، فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه. وقال: وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً، وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت لي ولداً ذكراَ، فبعث حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة، لم يكن لي همٌ إلا السؤال عن ولدي. فدخلت الجامع، فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم، فسلمت عليه فلم يعرفني. فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد. فقال مات منذ اثنتي عشرة سنة. وأخبرني أن فقيهاً من أهل طنجة يقيم بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن ولدي وأهلي، فوجدته شيخاً كبيراً، فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن ولدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة.
وذكر ابن بطوطة قضاة دمشق فقال: قد ذكرنا قاضي القضاة الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني. وأما قاضي المالكية فهو شرف الدين، خطيب الفيوم، حسن الصورة والهيئة من كبار الرؤساء. وهو شيخ شيوخ الصوفية، والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي، ومجلس حكمه بالمدرسة الصمصامية. وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني. وكان شديد السطوة. وإليه تحاكم النساء وأزواجهن. وكان الرجل إذا سمع اسم القاضي الحنفي أنصف من نفسه قبل الوصول إليه. وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم من خيار القضاة ينصرف على حمار له ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توجه للحجاز الشريف. وقال ابن بطوطة بعد خروجه من تدمر وهو في طريق عودته إلى طنجة: ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام.
قال التازي: يلاحظ أن ابن بطوطة، وقد وصل إلى دمشق في تاسع رمضان 726=9 غشت 1326، لم يتمكن من رؤية ابن تيمية الذي استمر في السجن إلى أن توفي، هذا ونذكر هنا أن العالمين المغربيين اللذين سجل التاريخ مناظرتهما لتقي الدين بن تيمية هما الإمامان الأخوان الشقيقان أبو زيد عبد الرحمن وأبو موسى عيسى ابنا الإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الإمام البرشكي.
لكم فائق تقديري واحترامي
إيمان
الله يعطيك العافيه