- دمشق تهامة الجندي
- دمار
- سياحة
حي ساروجة الدمشقي «اسطنبول الصغرى» في زمن العولمة2011-08-20 حي ساروجة الدمشقي «اسطنبول الصغرى» في زمن العولمة
دمشق تهامة الجندي
تشتهر العاصمة السورية بأحيائها القديمة المثيرة للدهشة، ومن ضمنها حي ساروجة الذي يُعتبر نموذجاً رائعاً للأحياء التراثية المميزة من حيث الموقع والتخطيط والتنوع السكاني وغنى المعالم الأثرية من سوق ومساجد وحمامات ومقامات ونزل تعود إلى حقب تاريخية مختلفة. الحي الذي يقع خارج أسوار دمشق القديمة وأبوابها، والذي بدأت نواته تتشكل منذ قرابة عشرة قرون، كان على الدوام محط اهتمام الأجانب من وافدين وسيّاح ومركز من مراكز تجمّعهم، وقد لقبه العثمانيون ب«اسطنبول الصغرى»، غير أن عمليات الهدم والتخريب التي شهدها قديما وحديثا، أفقدته البعض من جمالياته ومنشآته، ما جعل الأصوات تتعالى من أجل التنبيه إلى قيمته التاريخية والحفاظ على مخططه القديم وهويته البصرية واستثماره معرفيا وسياحيا.
يتوسط حي ساروجة قلب العاصمة دمشق في مساحة مفصلية خدمياً واقتصادياً، تتوزع على جنباتها الدوائر الحكومية الرئيسة ما بين شارع الثورة والبحصة وساحة المحافظة، وتتضارب المصادر التاريخية في تحديد زمن قيام هذا الحي نظراً لتعرضه للكثير من عمليات الردم والترميم على مر القرون الماضية، فبعض المصادر تشير إلى أن نواة الحي الأساسية أُقيمت مع تشييد المدرسة الشامية البرانية في العهد الأيوبي في العام 1191، بأمر من خاتون أخت صلاح الدين، وقد اكتسبت المدرسة شهرة كبيرة حينها، وكان الأمراء والعلماء يقيمون حفلات رسمية عند بداية الأعوام الدراسية وانتهائها. لكن معظم المصادر تتفق على أن حي ساروجة أُنشئ في القرن الرابع عشر الميلادي في عهد الأمير المملوك سيف الدين تنكز، وأن اسم الحي منسوب إلى أحد قادته السلاجقة، وهو صارم الدين ساروجة المتوفي سنة 743ه 1342م، ومقامه مازال موجودا في الحي حتى يومنا هذا. وعلى الأرجح فإن نواة الحي أُقيمت قبل حوالى عشرة قرون، ثم أخذ في الاتساع تدريجاً حتى اكتمل في عهد تنكز قبل سبعة قرون، حيث أصبح له سوقه الخاص، كما أطلقت عليه التسمية المعروف بها حاليا.
اللافت في سيرة هذا الحي أنه منذ قيامه كان مركزا لتجمّع الغرباء من غير السكان الأصليين، نظراً لوقوعه خارج سور دمشق القديمة، فقد سكنه السلاجقة والأيوبيون والمماليك، وشيدوا المنشآت فيه من مدارس ومساجد وحمامات وما شابه التي لا يزال الكثير منها قائماً حتى اليوم. فللأيوبيين مثلا مدفن التربة النجمية، والمدرسة الشامية، وجامع التوبة الذي بناه موسى الأشرف الأيوبي، وهو قريب من شارع الثورة، ومن زمن دولة المماليك نجد مسجد بلبان الذي بُني في العام 1416، كما نجد المسجد الصغير الذي بناه برسباي الناصري نائب طرابلس وحلب.
كذلك استحوذ الحي على إعجاب رجال الإدارة والجيش وأفراد البعثات الدبلوماسية من العثمانيين، فسكنوه بعدما أجلوا العائلات المملوكية، وأعادوا ترميمه، وأطلقوا عليه اسم «اسطنبول الصغرى»، ومكنتهم الأرض الواسعة وتوافر المجاري المائية آنذاك من التوسع في شق الطرقات وإنشاء الأبنية السكنية والمرافق العامة والدوائر الرسمية وفق مخطط عمراني أكثر انتظاماً ورحابة وفخامة مقارنة مع المدينة القديمة داخل السور، وكان لهم الإسهام الأكبر في تشييد الشكل الحالي لسوق ساروجة.
دمار
عبر تاريخه الطويل تعرّض حي ساروجة لعدة عمليات ردم وتخريب، وتم ترميمه وإعادة بنائه لأكثر من مرة، فقد أدى صراع الأمراء في الفترة المملوكية إلى دمار أجزاء من المكان وإلى تهديم المدرسة الشامية البرانية برمّتها، وازداد الأمر سوءاً حين جعل تيمورلنك من الحي قاعدة لمنجنيقاته التي كانت تقصف قلعة دمشق قبل احتلالها، ثم أحرقه حين أحرق دمشق بكاملها قبل أن ينسحب منها.
وحسب البديري الحلاق في «حوادث دمشق اليومية» كان معظم سكان ساروجة من حراس المباني الرسمية والعبيد وبعض الضباط الكبار أثناء ولاية أسعد باشا العظم في العام 1740، وبعد خلاف الوالي وضباط الانكشارية قام أسعد باشا بقصف الحي من قلعة دمشق ودمّره، فأعيد بناؤه على شكل مشابه لما هو عليه الآن، وسكنه المتنفذون والضباط العثمانيون.
في النصف الثاني من القرن العشرين اعترى الإهمال حي ساروجة، وهجره معظم سكانه، وشُيّدت العقارات الحديثة على أنقاض بعض بيوته القديمة، واقتُطعت أجزاء منه لتوسيع الشوارع العامة وإقامة المباني الرسمية، كبناء مقسم آلي ومرآب في العام 1997، ما أدى إلى نشوب نزاع بين دعاة إزالة الحي من مقاولي البناء والمستفيدين، وبين دعاة الحفاظ على الآثار والتراث ومن بينهم الأديبتان سهام ترجمان وناديا خوست، ونتيجة لذلك اعترفت بلدية المحافظة بالقيمة التاريخية والمعمارية للحي، وأكدت أنها ستشجع السكان على ترميم بيوتهم وتحويلها إلى فنادق ومقاه ومعارض فنية، بحيث يتحول المكان إلى منطقة جذب سياحية.
سياحة
مع دخول الألفية الثالثة أخذ حي ساروجة يكتسي بطابعه السياحي الصرف، حيث انقلبت معظم بيوته إلى فنادق ومقاه ومطاعم شعبية ومحلات تجارية، يؤمها الطلاب الأجانب في الدرجة الأولى، ويرتادها السيّاح من مختلف الجنسيات بعد جولة في الحي وزيارة بعض معالمه الأثرية كالحمام القرماني، والمدرسة المرادية البرانية التي أُقيمت في منزل الشيخ مراد علي البخاري.
وينتشر في الحي حوالى خمسة وعشرين فندقا من الفنادق الصغيرة، أقدمها فندق «الربيع»، وتحتل المقاهي حيزا كبيرة من السوق وهي ثلاثة، اثنان منها في الهواء الطلق، أو ما يُعرف بمقاهي الرصيف، كما أخذت تنتشر في ساروجة مشاغل فنية مثيرة للاهتمام كمرسم الفنان يوسف عبد لكي، ومشغل النحت الذي أسسه مهند ديب قبل ثلاث سنوات، ليفسح في المجال أمام أي هاوٍ أو محترف راغب في تنفيذ فكرة ما، أن يباشر العمل على مشروعه النحتي بعد سلسلة من الحوارات والتعليمات الكفيلة بإنضاج رؤيته الفنية، وبعد أن يقوم المشرف بتأمين مستلزمات المشروع، وقد تطورت هذه التجربة لتسفر عن معرض جماعي، ضم حوالي مئة وخمسين منحوتة إسمنتية، وأقيم في المركز الثقافي الفرنسي المجاور لسوق ساروجة.
والبادي للعيان في حي ساروجة هو اختلاف طابع المكان وطبيعة زواره ما بين النهار والمساء، ففي الفترة النهارية يتكون معظم الروّاد من المواطنين القادمين من مختلف المناطق السورية لتسيير معاملاتهم بحكم موقع الحي الحيوي وقربه من المؤسسات العامة، فيغدو السوق بمقاهيه ومطاعمه البسيطة محطة للاستراحة السريعة، وتناول المشروبات والوجبات الشعبية من فول وحمص ومناقيش، وشراء بعض الهدايا والحوائج، لكن مع غروب الشمس تتبدّل الوجوه، ويتصدر أغلب الأمكنة الشبان والشابات من الطلبة السوريين والأجانب، الراغبين في التعارف وتعلم اللغة وقضاء أمسية مسلّية برفقة النرجيلة وطاولة النرد أو ورق الشدّة، ليفصح المشهد عن شكل من أشكال عولمة التراث.
تحياتي
