القاهرة المسافرون العرب

أكتشف العالم بين يديك المسافرون العرب أكبر موقع سياحي في الخليج و الوطن العربي ، يحتوى على أكبر محتوى سياحي 350 ألف استفسار و نصائح عن السفر و السياحة, 50 ألف تقرير سياحي للمسافرون العرب حول العالم و أكثر من 50 ألف من الاماكن السياحية و انشطة وفعاليات سياحية ومراكز تسوق وفنادق، المسافرون العرب هو دليل المسافر العربي قبل السفر و اثناء الرحلة. artravelers.com ..
سفير الغيوم
17-01-2022 - 09:19 pm
  1. بقلم : بريتى سينج


بقلم : بريتى سينج

فى صحبة الكاتب الكبير جمال الغيطانى، جابت د. بيتى سينج الكاتبة والأستاذ بجامعة دلهى ، شوارع وحوارى القاهرة الفاطمية التى نبض وصفها بالحياة فى روايات الأديب الكبير نجيب محفوظ لترى كيف صمدت أمام اختبار الزمن ، فبينما تغيرت ملامح بعضها بمرور الوقت ، لم يطرأ تغيير كبير على البعض الآخر ، ليتجلى كيف حولت أعمال الأديب المصرى الحائز على جائزة نوبل الواقع إلى أدب قصصى.
عندما تستيقظ أمينة ، زوجة السيد أحمد عبد الجواد ،بطل ثلاثية نجيب محفوظ ، فى منتصف الليل كل يوم ، يكون أول ما تفعله أن تتشح بعباءة وتخطو نحو الشرفة ، ومن هذا " القفص المغلق " المزين بمشربية من شغل الخشب المتداخل تقف فى انتظار عودة زوجها، تطل الشرفة على " سبيل وكتاب " يقعان فى تقاطع " بين القصرين " وشارع النحاسين ، ومن الشرفة تستطيع أمينة أن ترى ، من على البعد ، مآذن مسجدى " قلاوون وبرقوق " تلوح فى الأفق مثل أطياف مردة خرجت تستمتع بقضاء الليل فى ضوء النجوم المتوهجة ، على يمينها شارع ضيق متعرج يغلفه ظلام الليل ، وعلى يسارها ، فى المقابل يضئ الطريق الممتد مباشرة نحو الشرق ضوء خافت ينبعث من عربات اليد ومصابيح المقاهى ، فى صحبة الروائى والكاتب والصحفى جمال الغيطانى ، وهو أيضا حجة فى أدب نجيب محفوظ، قررت مؤخراً اكتشاف ما إذا كان المنظر الذى ظلت أمينة تراه لقرابة ربع قرن من الزمان ، فى بداية التسعينات لا يزال موجوداً اليوم ، عندما وقفنا فى المكان الذى يفترض أن يرتفع فوقه بيتها وتطل عليه شرفتها فى ملتقى طرق القاهرة الفاطمية ، وجدنا أن " السبيل والكتاب " الواقعين أمام منزلها ليسا سوى مبنى يمتلكه عبد الرحمن كاتخودة ، ولأن المبنى يحتل راس مثلث يفصل بين القصرين عن شارع النحاسين ، فمن المؤكد أن كان بمثابة نقطة مناسبة لتوزيع المياه وإقامة الكتاب فى الطابق الأعلى ، ومما لاشك فيه أن قرب المبنى من شرفة أمينة قد سمح لها بأن تعيش حياتها بالأسلوب الوحيد المسموح لها به من خلال الآخرين .
عندما نظرنا إلى يسارنا كما تعودت أمينة أن تفعل كل ليلة ، وجدنا المآذن لا تزال مرتفعة كما تراها الآن ، تتعامد ظلالها فى زوايا نحو السماء فوق الشارع الضيق المزدحم حيث لازالت البيوت هناك ، متعانقة فى غير وفاق على جانبى الطريق مثل صف من الجنود يقف فى تراخ ، غير انه لم يعد هناك ثمة احتمال لرؤية السيد أحمد عبد الجواد يعود فى عربة حنطور ، تسبح مصابيحها فى الظلام ، كما أكد لنا جمال الغيطانى كذلك لم يعد الكتاب والسبيل يستخدمان اليوم ، زحف التغيير بلا شك إلى المنطقة ، ولكننا وجدنا الكثير هناك لا يزال على نفس الصورة التى رأها نجيب محفوظ ، واقفا فى شهادة بليغة على الأسلوب الرائع الذى تحولت خلاله أماكن تعيش على ارض الواقع إلى أماكن جرت فيها أحداث روايات نجيب محفوظ الرئيسية .
استطاع نجيب محفوظ الذى ولد فى عائلة بسيطة تنتمى إلى الطبقة المتوسطة فى أحد أقدم أحياء القاهرة ، أن يجسد الحى الذى نشأ فيه فى صورة مؤثرة تفيض بالحياة فى روايات مختلفة أشكالها تنوعت بين الطويلة والقصيرة ، ويظهر حسه بالمكان فى أوج قوته فى المرحلة الطبيعية الواقعية من حياته الأدبية على وجه الخصوص ، ففى الثلاثية الشهيرة، يزرع جذور ملحمته التى تصور حياة ثلاثة أجيال لأسرة مسلمة فى تلافيف شوارع منطقة الجمالية وخان الخليلى ، مستخدماً إياها كمكان واقعى للأحداث ، وأيضا كمجاز ادبى للتعبير عن أمال واحباطات شعب يحاول الخروج من اختناقات الماضى إلى آفاق عالم الحاضر المتغير الأكثر رحابة .
يصور نجيب محفوظ حوارى الجمالية وخان الخليلى كعالم بذاته ، تتصادم فيه التجارة بالأشغال الحكومية ، المساجد بالمواخير ، المدارس بالمقاهى ، سكان المدينة بجنود الاحتلال ، الرجال بالنساء ، الأبناء بالأدباء ، الحلم بالحقيقة ،الشباب بالعجائز ، يقوم كل من الشخصيات الرئيسية فى الثلاثية برحلة ، غالبا فى الخفاء لطيته المختارة فى حدود عالمه الخاص ، وتكون كل خطوة بمثابة طقس من طقوس الانتقال إلى المرحلة التالية فى المرحلة.
وهكذا تتجاسر أمينة على النزول من عالمها المغلق ، بيت الزوجية لتقوم برحلة إلى مسجد الحسين بمساعدة أبنائها فى ثورة على رغبة زوجها الغائب قررنا أن تتبع نفس الطريق الذى سلكته ، فعبرنا الطريق من بيتها إلى حارة قرميز ، من خلال الممر الضيق الشبيه بالنفق ، حيث لفت ابنها نظرها إلى سقفة المقنطر الشهير وحيث تلى الفاتحة تحصناً من الجن الذى يعيش تحت ظلاله ، لا يزال الممر هناك ، راسخاً برغم تعرضه لشئ من الإهمال ، وحتماً دون وجود جن فى المكان ، بالسير تحت جدرانه الخشنة وأحجاره الصلبة لا يكاد المرء يجد مشقة فى أن يتبين كيف كان بمثابة واق من الغارات الجوية خلال الحرب العالمية الثانية ، يصف نجيب محفوظ فى " السكرية " كيف كان على كمال أن يحمل السيد أحمد ، الهرم الضعيف عندئذ إلى هناك للاختباء من القنابل والطائرات الحربية ، عندما انعطفنا حول الناصية وجدنا أشجار اللبخ فى ميدان بيت القاضى لازالت سامقة وان كانت غير مثمرة كما لا تزال نقطة شرطة الجمالية تحتل مكانها ، أخذنا الطريق الضيق إلى حارة خان جعفر إلى المسجد الواقع فى موازاته وبرغم أن أمينة وجدت حقيقة المسجد " أقل عظمة مما تخيلت " لازالت باحتة المزينة بأعمال الأرابسك باقية كما هى .
بالنسبة للنساء المتواجدات فى المنطقة اليوم ، لم يعد القيام برحلة إلى المسجد حداً كما كان بالنسبة لأمينة ، إذ وجدت كاميراتنا المسجد والمنطقة المحيطة به يعجان بالنساء اللاتى يدخلن ويخرجن فى غير حرج غير انه فى طريق الوصول إلى ناصية شارع الغورية، يتعرض المرء لنفس خطر الاصطدام والوقوع الذى تعرضت له أمينة.
كان الطريق الذى سلكته أمينة معروفا لنجيب محفوظ نفسه ، أخبرنا جمال الغيطانى انه نفس الطريق الذى اعتاد الأديب الكبير أن يسلكه عندما كان طفلاً ، حيث يقف البيت الذى عاش فيه وهو صبى فى مواجهة نقطة شرطة الجمالية ، أما البيت رقم 8 ، الذى أعيد بناؤه أخيرا ، فذو مبنى حديث يزين واجهته ، بما يدعو لشئ من خيبة الرجاء ، حبلان من الغسيل ، على مقربة من البيت يقع رقم 6 حارة الكبابجى وهو رقم مبنى السبيل والكتاب ، حيث بدأ نجيب محفوظ حفظ القرآن ، ولابد وانه حتماً قد شرب أيضا من مياه السبيل المتاحة أسفل الكتاب ، عندما توجهنا إلى المبنى وجدناه مغلقاً تماماً وفى حالة من التداعى .
أما الرجال الذين كانوا فى حياة أمينة ، فكانت لهم مقاصد أخرى فى المنطقة إلى جانب المسجد ، زوجها التاجر السيد احمد عبد الجواد كان يقوم يومياً برحلة إلى محله الواقع أمام مسجد برقوق فى شارع النحاسين ، تشغل هذا المكان اليوم محال تبيع الاوانى والاوعية الالومنيوم والنحاس أخبرنا جمال الغيطانى انها تتواجد منذ مئات الأعوام لم يكن من محل فى المنطقة يماثل محل السيد احمد ، المتخم بحاويات البن والأرز والتوابل والحبوب المكدسة على الأرفف والمتراكمة بجوار الجدران ، غير أن جمال الغيطانى أكد لنا أن وصف محل السيد احمد فى الرواية ينطبق على محل فى شارع الصاغة ، يطلق عيه " خضر العطار " يزدحم الشارع أمامه بالمشاة والسيارات والزبائن .
كان للسيد احمد إلى جانب محله مقاصد أخرى ، من بينها بالطبع ، بل أكثرها ألفة بالنسبة له مقاهى المنطقة ، تعود بداية دخول المقهى إلى مصر إلى العصور الوسطى مع وصول حبوب البن من اليمن ، وقد تعرضت المقاهى فى أوقات عديدة للإغلاق بسبب ما كان سائداً من أن للقهوة تأثير مخدر ولازالت المقاهى اليوم مكاناً يتجمع فيه الرجال لاحتساء القهوة والشاى وتدخين النرجيلة والمقهى فى غالب الأحيان مكان تبرم فيه الصفقات التجارية المختلفة وينطبق ذلك على السيد أحمد عبد الجواد بقدر ما ينطبق على المصريين اليوم ، كان مقهى السيد على هو المقهى المفضل للسيد احمد لأنه يستطيع أن يرى منه منزل المغنية زبيدة من فوق رؤوس المارة المحتشدين فى الشارع ، أخذنا جمال الغيطانى إلى حارة فى الحمزاوى حيث من المفترض أن يكون نجيب محفوظ قد تخيل بيت زنوبة من المحتمل أن يكون ايا من هذه البيوت ، ذات النوافذ المطلة على الشارع الضيق ، تبدو هذه البيوت التى تحتل الطوابق الأولى ضيقة عند النظر إليها من الشارع ، ولكن جمال الغيطانى أكد لنا أن مثل هذه البيوت كانت غالبا ما تضم ، منذ ما يقرب من نصف قرن ردهة فسيحة يتدلى من سقفها مصباح كير وأريكة وكرسى كبيرين وسجادة ذات طراز فارسى ومناضد مرصعة بالصدف ، وفى مثل هذه الردهات كان السيد احمد يقوم بمغامراته العديدة العاطفية والحسية .
فى الجزء الثانى من الثلاثية ، يتم إقناع السيد احمد بتغيير المقر إلى مكان خارج المنطقة ، فتطلب منه عشيقته زنوبة أن يجعلها تقيم فى عوامة رأسية على ضفاف النيل تحت كوبرى الزمالك وقد كانت مثل هذه العوامات فى فترة ما قبل الثورة أماكن يلهو فيها الأغنياء والمشاهير ، فكانت المئات منها تصطف على ضفاف النهر فى أرقى مناطق القاهرة مثل العجوزة والروضة والزمالك ، ومثل غيره من أغنياء العصر ، دأب السيد أحمد على القيام برحلات متكررة إلى العوامة الخاصة للقاء معشوقته الشابة ، ولكننا لم نجد فى جولتنا عوامات تحت كوبرى الزمالك ، والحقيقة انه بقى ما يقل عن ثلاثين عوامة فى ميدان الكيت كات ، تتركز جميعها فى مكان واحد تحت أعين الشرطة .
أما أبناء السيد احمد ، فأحبوا دائماً أن يظلوا بعيدين عن أبيهم القوى ، اختاروا مقاصدهم للعمل واللهو ، داخل وخارج المنطقة ، ياسين ابن السيد احمد من زوجته الأولى اختار أن يسير فى تلك المناطق التى يمكنه فيها رؤية النساء من اقرب زاوية ممكنة ، نبع استحواذ النساء على تفكيره ، بلا شك من طفولته التعيسة التى عاشها مع أمه فى حارة قصر الشوق ، لذلك أحب حارة الطربى التى يتردد عليها النساء من كافة المستويات واللاتى يمشين أمامه مختبئات تحت ملاءات وبراقع سوداء لشراء العطور التى تفيد فى إبراز الجمال والبهجة ، كانت الحارة الطويلة الضيقة المسقفة تزخر بالمحال الصغير المتاخمة على الجانبين مثل خلايا النحل ، كان ياسين يهوى الذهاب هناك فى أيام الجمعة وتفحص وجوه النساء فى أية لحظة ترفع فيها البراقع وكسمهن عندما تكون الملاءات ملتصقة بأجسادهن ، لم يتغير الشارع إلى حد كبير ، ولكننا لم نر سقف الحارة ، رأينا النساء اللاتى يترددن على المحال يرتدين الحجاب ، ولكننا لم نر الملاءات كما وصفها نجيب محفوظ .
عندما انفصل ياسين عن زنوبة ، بدأ يتردد على مقهى أحمد عبده ، المنحدر تحت سطح الأرض فى منطقة خان الخليلى مثل كهف حفر فى جوف جبل وقد شكلت سطحه منازل سكان المنطقة ، للأسف لم يعد هناك وجود للمقهى الذى ربما يعد اكثر المقاهى التى أسهب نيجب محفوظ فى وصفها ، على ذلك النحو الدقيق فى كافة أعماله ، أخبرنا جمال الغيطانى أن ذلك المكان يقام فوقه اليوم مقهى الفيشاوى الشهير المنعزل فى ركن صغير من أركان خان الخليلى ، حوصر المقهى القديم عندما أقيمت فوقه عمارات شويكار فى الثلاثينات ، ولم نعرف سبيلا لأية صور له ، على عكس الحال بالنسبة لمقهى الفيشاوى حيث لا تزال صوره أيام الملك فاروق باقية ، بالطبع هناك اختلاف كبير بين شكل المقهى آنذاك ، واليوم بعد أن جرى تحديده عام 1969م ، لاحظنا أن حجم الكثافة المرورية المتدفقة حول المكان يكاد يفوق خلال ساعة واحدة حجمها فى عدد من شوارع المدينة مجتمعه .
أما فهمى، الابن الثانى للسيد أحمد عبد الجواد ، فقد أخرجته مرحلة الانتقال من الطفولة إلى الرجولة من دائرة القاهرة القديمة ، اختار أو اختارت له الظروف ميدان رمسيس المواجه لمحطة السكة الحديد الرئيسية كمقصد يصل اليه بينما يشارك فى مظاهرات الطلاب ضد الاحتلال البريطانى ، دأب المتظاهرون على أن يسلكوا الأوبرا ، والازبكية ، التى تنحرف غرب قاهرة العصور الوسطى ، منطقة طورها فى بادئ الأمر الأمير أزبك فى القرن الخامس عشر ، وفى القرن التاسع عشر ، أدخل إسماعيل باشا تجديدات وإصلاحات على المنطقة بأسرها كجزء من خطته لتحديث مدينة القاهرة ، بما عرض الكثير من ملامح القاهرة القديمة ، للفناء جعلت عملية التحديث هذه من الأزبكية واحدة من أجمل ميادين العالم ، غير أن مجد الميدان السابق لم يبق منه اليوم إلا قليلاً ، اختفت الأوبرا بعد أن قضى عليها حريق كبير فى بداية السبعينات وارتفع فى الميدان بناء متعدد الطوابق لانتظار السيارات .
كمال ، أصغر أبناء السيد احمد عبد الجواد ، كان أكثرهم اهتماماً بالتعليم والفكر ، ارتبطت به مدرسة خليل أغا ، التى كان رفاقه يتناثرون منها بعد ظهيرة كل يوم على امتداد منطقة الدراسة ، بعضهم فى الشوارع الجديدة والبعض الآخر فى شوارع الحسين، وتلتف مجموعات منهم حول الباعة المتجولين الذين يبيعون اللب والفول السودانى والحلوى ، ومن بين اللحظات الحلوة التى أبرزها نجيب محفوظ لحظة أن اشترى فهمى قطعة من الحلوى من محل قريب وسار يمضغها فى سعادة فى طريقه إلى الحسين ، وجدنا العديد من مثل هذه المحال فى الطريق وربما استلهم نجيب محفوظ الموقف من أى منها ، اتسعت آفاق عالم كمال بعد أن أنهى تعليمه الثانوى واختار أن يلتحق بكلية المعلمين ، وازدادت هذه الآفاق اتساعاً عندما بدأ يخرج من حدود المنطقة لزيارة أصدقائه فى بيوتهم ، وكان من بينهم صديق يقيم فى العباسية ، بدأ شارع العباسية ، لشخص لم يعتد سوى حوارى المنطقة القديمة ، رحباً وطويلاً كما ولو كان لا نهاية له ، لا يزال شارع العباسية يناقض بطوله حوارى المنطقة القديمة على نحو ما وصفه نجيب محفوظ . ولكن نظافته وتخطيطه الدقيق والهدوء الذى يرفرف فوق بيوته حل محله ضوضاء الكثافة المرورية وتكدس المبانى المرتفعة .
وصف نجيب محفوظ بيت عايدة ، الحب الحقيقى الوحيد فى حياة كمال بأنه يواجه شارع القصور ويقع على حافة الصحراء ، لم تعد تلك الصحراء بالطبع على مرمى البصر ، حيث دفعها الزحف العمرانى أميالاً إلى الوراء ، كذلك لم يعد طريق الجيزة على نفس الصورة التى رأها كمال عندما مر به مع عايدة وأخيها فى طريقهم إلى الأهرامات ، فالأشجار السامقة على جانبى الطريق بأغصانها الوارفة التى تظلل السماء ذهبت مع عصر ولى ومضى .
ظلت الحياة بالنسبة لابنتى السيد أحمد عبد الجواد محصورة فى حدود عدد من الشوارع حول بيت الأسرة تزوجت كل من عائشة وخديجة من عائلة شوكت وانتقلنا إلى بقايا بيت أثرى فى السكرية ، لا يبعد كثيرا عن بيتهما ، استغرق الأمر منا بعض الوقت للوصول إلى السكرية ، وعندما وصلنا إلى المكان وجدناه ضيقاً ، لا تكاد أشعة الشمس تعرف سبيلها اليه ، وجدنا معظم الأبواب موصدة ، وكانت السكرية يوم زيارتنا غارقة فى الهدوء ، حتى بدت لنا وكأنها تجد قدر المستطاع للحفاظ على قدسية شهر رمضان المبارك، لم نجد الشوارع مزدحمة بالمارة أو العرافين أو باعة الأطعمة ، عندما تأملنا المكان ، لم يعد من العسير علينا تخيل الحياة المغلقة التى عاشتها عائشة وخديجة ، فى إعادة متقنة للنموذج الذى أرسته أمهما ، مما جعل رحلة كل منهما تقتصر على زيارة بيت الأسرة فى بين القصرين .
رأى نجيب محفوظ فى شوارع المنطقة القديمة بقصرها وضيقها طرقاً مسدودة تقف المرأة عاجزة عن اجتيازها ، وهى الفكرة التى تناولها على نحو أكثر تفصيلاً فى زقاق المدق ، التى صدرت للمرة الأولى عام 1947 ، ولو أن الثلاثية تميزت باتساع مكان وزمان الأحداث ، فقد تقلص مكان الأحداث فى هذه الرواية على زقاق بعينه من أزقة المنطقة ، ليتقرب نجيب محفوظ حد الالتصاق من أسلوب الحياة هناك فى عبقرية نادرة ، عرف زقاق المدق بهذا الاسم حيث كانت تطحن فيه التوابل قبل نقلها إلى سوريا ، وفى القرن الثامن عشر كان الزقاق ، بالإضافة إلى ذلك سوقاً لبيع الرقيق ، فى رواية نجيب محفوظ تثور البطلة ، برغم إنها ليست أمة ، على عيش حياة لا تكاد تختلف فى قيودها عن حياة الرقيق، وجدنا زقاق المدق على نفس الوصف تقريباً الذى جاء فى الرواية وان كان أقل زحاماً مما وصفه نجيب محفوظ ، وكان واسعاً إلى حد ما ولكنه أقصر بلا شك مما وصف فى الرواية ، وجدنا مقهى كرشة الشهير قائماً بالفعل ولمنه مغلق الآن ، من بين الأماكن التى جرت فيها الأحداث ، لم يزل يعمل سوى الفرن ، حيث يجلس بعض الشبان على أرضه ينخلون القمح لإعداده لصنع الخبز ، فى نهاية الزقاق رأينا بيت حميدة بنافذته التى كانت تطل منها على الزقاق ، ولكننا أخبرنا أن تكعيبة العنب الشهيرة المحيطة به قد قطعت منذ عدة سنوات .
وبينما لم يعد الزقاق يعج بالحياة الصاخبة ، أمكننا أن نتبين فى يسر كيف استطاع نجيب محفوظ أن يستخدمه كمجاز للتعبير عن عالم مفعم بالحيوية ولكنه يمضى نحو التغيير بخطى ثقيلة ، استطعنا أيضا أن نتفهم ونعى رغبة حميدة فى الخروج إلى عالم اكثر رحابة ، جغرافياً واجتماعياً ، فدائرة الزقاق ، الذى لا يتعدى طوله الخمسين قدماً ، تضيق على من بداخلها ، حتى ليبدو جوها خانقاً ، هكذا بدأ بالنسبة لنا ونحن مجرد زائرين .
كذلك لم يعد من العسير ، إدراك كيف أن رحيل حميدة إلى كارثة محتومة من دون تأثير على الحياة فى دكاكين الزقاق وعلى أعتابها ، وبرغم أننا لم نجد عم كامل نائماً على عتبة دكانه ، فى غير اكتراث ومنشة الذباب على حجره ، كان مناخ الهوا العام موحياً بأن كل يوم جديد لم يكن ليجعل معه حياة مختلفة عن سابقه تدفع أيا من سكان الزقاق إلى التخلى عن عدم اكتراثه برحيل الراحلين .
لم يكتب نجيب محفوظ خلال السبعة أعوام التالية لثورة يوليو 1952م أى عمل جديد غير انه نشر فى الستينات سلسلة من الروايات تناول خلالها فى حساسية وشجاعة بالغتين أزمة الهوية التى عانى منها المثقفون فى ضوء التغيرات السياسية خلال السنوات التى أعقبت هذا الحدث التاريخى ، أخذت روايات نجيب محفوظ التالية تنتقل داخل مناطق القاهرة القديمة ، وخارجها .
وبدأ الأمر وكأن الأديب الكبير وجد فى معظم الأحيان أماكن فى القاهرة الأكثر عصرية لتجرى فيها أحداث رواياته ، فنجد أحفاد السيد أحمد عبد الجواد فى السكرية ذاتها، لا يقنعون بالعيش فى حدود المنطقة القديمة ، وينتقل أبناء عايدة وخديجة وياسين للعيش فيما يعرف الآن ب " وسط المدينة " المعادى بل وحلوان .
وفى " اللص والكلاب " يعود البطل بعد الخروج من السجن إلى بيته فى منطقة الدراسة التى تطوقها سلاسل مرتفعات المقطم ، يجد سعيد بيته تماماً كما تركه ، لم يكد يتغير عن بيوت أيام آدم ، يؤجر البطل مسكناً فوق محل فى شارع نجم الدين وراء مدافن باب النصر ، وتنتقل الأحداث بين هذه المنطقة القديمة من مناطق القاهرة والفيلا الأنيقة المملوكة لرؤوف علوان ، صديق سعيد الخائن ، والتى تقع على شارع النيل ، فى حين اختفت تلك الفيلات سريعاً ، ظلت المدافن الواقعة وراء بيت سعيد على حالها إلى حد كبير ، يصف نجيب محفوظ اللحظة الأخيرة لوقوع سعيد فى أيدى رجال الشرطة بمساعدة الكلاب البوليسية وسط زحام المدافن فى مدينة الموت فى صورة حية رائعة ، برغم أنها لحظة متكررة فى تاريخ وجود الشرطة .
يظل حس نجيب محفوظ بالمكان على قوته فى " السمان والخريف " التى تنتقل أحداثها بين العديد من مناطق القاهرة الجديدة الفيلات الواقعة فى منطقة الدقى وفنادق وسط المدينة وشوارعها المزدحمة وما تزخر به من محال ومقاهى وكافيتريات ولعل " جروبى " الواقع فى شارع عبد الخالق ثروت يعد أحد تلك الكافيتريات التى برزت واشتهرت فى فترة ما ، لا تزال تلك الكافتيريا التى كان الجنود البريطانيون وراء شهرتها قائمة فى نفس مكانها القديم ، إلا إنها أصبحت اليوم أقل بريقاً وازدحاماً مما كانت عليه ، ربما لتغير الجو حولها ، حيث امتلأت الشوارع التى تتوسطها الكافتيريا بالفنادق الكبرى والمحال التجارية والمكاتب .
على أن ذلك لا يلمح بأى حال من الأحوال إلى أن نجيب محفوظ قد غفل عن مناطق الجمالية وخان الخليلى القديمة فى رواياته اللاحقة ، ففى " حضرة المحترم " التى صدرت للمرة الأولى عام 1975م ، على سبيل المثال ، نرى البطل ابن صاحب العربة الكارو والذى يعمل موظفاً بالأرشيف فى أحد المكاتب الحكومية ، يعود بعد انتهاء العمل فى مكتب الحكومة إلى بيته فى منطقة الحسين التى يعتبرهاامتداداً لجسده وروحه .
أن الروائيين العظام يظهرون سعة فى أفق التفكير والخيال تخلق ، إذ تتجسد فى أعمالهم آفاقاً رحبة للوجود فى نطاق رواياتهم ، ومما لا شك فيه أن ذلك لا يتضمن ما تختص به التجربة الإنسانية فحسب ، ولكن أيضا حساً ملموساً بالمكان والزمان وقد استطاع نجيب محفوظ مثلما فعل ديكنز فى مدينة لندن وجوبس فى دبلن واديث وارتون فى نيويورك، أن يستوطن القاهرة بشوارعها وحواريها التى عرفها عن كثير وإذا كانت القاهرة تعد بالفعل إحدى أشهر مدن الشرق الأوسط بتاريخها الثرى ، فقد زادها تجسيد نجيب محفوظ للناس والأماكن فى رواياته ثراء ، أن الزمن سوف يحمل لاشك ، لحظة تختفى فيها البيوت والآثار والأماكن التى اختارها نجيب محفوظ لتتضمنها أعماله، ولكن هذه اللحظة لن تستطيع ، بحال من الأحوال ، التسلل إلى صفحات رواياته ولعل الحظ كان كريماً حين احتفظ لنا ببعض تلك الأماكن حتى نستطيع أن نراها كما رأها نجيب محفوظ .


التعليقات (2)
نصراويه
نصراويه
وإذا كانت القاهرة تعد بالفعل إحدى أشهر مدن الشرق الأوسط بتاريخها الثرى ، فقد زادها تجسيد نجيب محفوظ للناس والأماكن فى رواياته ثراء ، أن الزمن سوف يحمل لاشك ، لحظة تختفى فيها البيوت والآثار والأماكن التى اختارها نجيب محفوظ لتتضمنها أعماله، ولكن هذه اللحظة لن تستطيع ، بحال من الأحوال ، التسلل إلى صفحات رواياته ولعل الحظ كان كريماً حين احتفظ لنا ببعض تلك الأماكن حتى نستطيع أن نراها كما رأها نجيب محفوظ .
شكراً سي السيد
عفواً أقصد سفير الغيوم

abukareem
abukareem
شكرآ سفيرنا علي هذا الكم من المعلومات المختصر لكن مفيد وانا من محبي نجيب محفوظ و احتفظ عندي بكل كتبة و كتباتة لك الف شكر اخوك
ابو كريم


خصم يصل إلى 25%