- ثمانية أيام في القاهرة
- كيف أبدأ الحديث عن رحلتي من غير أن أتحدث عن نفسي؟
ثمانية أيام في القاهرة
كيف أبدأ الحديث عن رحلتي من غير أن أتحدث عن نفسي؟
أسلوب الكتابة الذاتية الذي أنتهجه في جل ما أكتبه، يجعل من أي شأن صغير أقوم به شأنا ً ذاتيا ً، ويجعل بالتالي من كتابتي عنه محاولة لاكتشاف هذا الشأن واكتشافي أنا معه، ولكن هذه رحلة لم أكن فيها وحيدا ً، وهذا ينزع القليل من الذاتية عنها، ويجعلها رحلة جماعة، لا رحلة فرد، رغم أني قلت لأحد أصدقائي وقد سألني في نهاية الرحلة أن أكتب عنها، بأن عليه أن لا يأمل كثيرا ً، لأني عندما أكتب عن الرحلة لن أكتب عنها كما يراها ويتصورها هو، وإنما سأكتب عن ما رأيته وما عايشته أنا، وهي أشياء تختلف بالتأكيد عما رآه هو، وإن وجدنا في ذات المكان ورأينا ذات الأشياء، ثم إنها كانت رحلة عمل أولا ً، رغم مساحات الوقت الهائلة التي توفرت لنا، وسمحت لنا بأن نجعل منها رحلة استكشافية أيضا ً.
لا أرى – وأنا الآن أراجع ما كتبته أعلاه – بأني قد نجوت من الذاتية الشديدة، ولكني راض ٍ إلى حد ما عن ما كتبته، لأني ولأكن صريحا ً لا أريد لرحلتي أن تتحول إلى مجرد سرد آخر لما مررت به منذ غادرت الرياض وحتى عدت إليها، رغم متعة السرد وجاذبيته، وطرافة البعض التي تجعل من جدالهم مع سائق أجرة أو نادل مطعم حكاية كبيرة، تستهلك سطورا ً طويلة.
كيف سأحمي حكايتي إذن من شهوة السرد إن لم أوفر لها عمقا ً ذاتيا ً يلتقط شيئا ً مما يدور وراء الأحداث، ويحاول أن يوقف السرد قليلا ً ليترك المساحة للتاريخ والأدب ليعبرا، وليصنعا مع الرحلة مزيجا ً فريدا ً، أدرك بأنه لن يعجب الجميع، ولكنني أعتبره نوعا ً من أدب الرحلات المفقود.
غادرنا الرياض في يوم مايو الأول، أربعة زملاء عمل وأصدقاء رحلة، أحدنا كان جديدا ً في السفر، وآخر كانت تجربته الأولى في الطيران، وبقيت أنا وصديقنا الرابع محملين بتجارب السفر والطيران، وحكايات المدن البعيدة المختبئة بين الغابات أو على ضفاف الأنهار.
كنت أحمل معي حقيبة أعدتها لي يدان دافئتان، وجدت حنانهما في طيات الملابس، التي لم يفقد بعضها جدته بعد، ولازال بعضها الآخر يتشبث ببطاقات السعر أو تعليمات الغسيل، وأحمل معي كتبا ً – لا أذكر بأني سافرت بلا كتب !! رغم أن الوقت أحيانا ً لا يتوفر لي لأقرأ، إلا أن صفحتين أقرئهما في هذا المطار، وأخريين في ذاك المقهى، وثالثة في ليل لم يزرني فيه النوم سريعا ً، تجعل من ذلك الكتاب وثيقة ممتعة للرحلة، وتجعلني عندما أعود له ذات يوم، أطوي آلاف الأميال والأيام وأعود إلى ذلك المطار أو ذلك المقهى أو تلك الغرفة الصغيرة -.
وصلنا القاهرة إذن، الغريب في الأمر هو أن وصولي لها يختلف عن وصول أصدقائي، صحيح أننا ركبنا ذات الطائرة، ومررنا بذات المسارات، وقرأنا العبارة ذاتها التي تستقبل زوار مصر ( ادخلوا مصر إن شاء الله امنين)، إلا أن الفارق أني وصلتها فانفتحت لي أبواب التاريخ، أن تزور القاهرة وأنت لا تعرف عنها إلا ما سمعته من أصدقائك أو قرأته بعجل في الانترنت، ومعلوماتك عنها لا تتعدى معلومات جغرافية وسياحية بسيطة، أهم فنادقها ومطاعمها، أهم مزاراتها، وأين تجد قهوتك وعشائك فيها، يختلف عن أن تزورها وقد قرأت تاريخها الفرعوني والبطلمي والروماني والإسلامي من بعد ذلك، وتابعت نابليون وهو يحتلها ويدك فرسان المماليك بمدافعه، ويفاجئهم بفنونه الحربية وتشكيلاته التي لم يعهدوها من قبل، ومن ثم رأيت محمد علي من بعده وهو يقضي على المماليك، ويستولي على مصر، ومن ثم الإنجليز وهم يستولون عليها لسبعين عاما ً، وقرأت عن ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر، والسادات، ومن ثم أسلمك التاريخ للأدب والفلسفة فقرأت لمحفوظ وصنع الله إبراهيم وطه حسين والعقاد والرافعي وبدوي والمسيري، حتى صرت ترى شوارع القاهرة وميادينها يظللها التاريخ، ويحمل لك كل اسم فيها ذكريات وحكايات لا تنتهي.
القاهرة من المدن القليلة التي أزورها بذاكرة متخمة يتداعى علي فيها كل شيء، فلذا عندما أفرح فيها يكون فرحي طاغيا ً، وعندما أتألم – وكثيرا ً ما تؤلمني هذه المدينة – يكون ألمي عاتيا ً لا يرحم.
لازال في الحكاية بقية إن أردتم.
أنا مثلك أرى القاهرة بكل زخمها التاريخي وعلى وجهها التغييرات والملامح منذ الفراعنة إلى الإغريق إلى البطالمة إلى الرومان ثم البيزنطيين .. ثم مرحلة جديدة تماماً تبدأ بالفتح العربي لمصر .. ثم الأمويين ثم العباسيين فالطولونيين فالإخشيديين .. ثم الفاطميين الذين أنشأوا القاهرة .. ثم الأيوبيين ثم المماليك .. وما حدث في هذه الفترة من حملات الصليبين المتتالية التي استهدفت مصر .. ثم المغول .. ثم العثمانيين ... الحملة الفرنسية .. محمد علي .. الإحتلال الإنجليزي .. الثورة
متابعين معك أخونا العزيز