- تونس بعيون عربية: خضراء.. طيبة.. امنة
- مفارقات
تونس بعيون عربية: خضراء.. طيبة.. امنة
من يتجول في المدن التونسية سيصدق بسرعة ان الرئيس السابق بو رقيبة كان ديكتاتورا. اذ لا توجد مدينة تونسية مهما كانت صغيرة دون ان يكون له اثر فيها. فأما ان يكون هناك شارع بأسمه او زقاق او ساحة او أي شيء مهما كان صغيرا. اما في المدن الكبيرة فأن اسمه يحتل اكبر الاماكن واكثرها اهمية ومريدوه من كبار السن يتحدثون عنه بشغف عشاق كرة القدم ونجوم السينما. يقول احد المعلمين المتقاعدين : مهما يقال عن بو رقيبة فهو الوحيد من رؤساء ذلك الزمن الذي رعى مؤسسات المجتمع المدني في تونس والعالم العربي، وبفضل هذه الرعاية ليست لدينا في تونس حركات راديكالية. ان هذا الانجاز بحد ذاته يعد واحدا من اهم ما قدمه بو رقيبة الى تونس التي تنعم الان بأستقرار قلما تجده في شمال القارة الافريقية والعالم العربي بشكل عام. انه ديكتاتور من طراز خاص لانه كان يظن انه الوحيد القادر على بناء دولة حديثة في المغرب العربي تستلهم الثقافة الغربية دون ان تطمس حضارتها العربية والاسلامية.
يمكن مقارنة تجربة تونس في سعيها الى الحداثة والعولمة بتجربة لبنان في المشرق العربي بالرغم من اختلاف التجربة. ذلك ان لبنان تعرض للاحتلال من قبل الصهاينة وعاش حربا اهلية مدمرة عطلت مسيرة الحداثة ودمرت البنية التحتية ولكنها لم تستطع القضاء على روح الحرية والمسيرة الديمقراطية. اما هنا في تونس التي تعيش وضعا مستقرا فأنها تسير بخطى واثقة نحو ثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان وتعد تجربتها في السلم الاجتماعي والمدني الاهم في المغرب العربي.
الانطباع الذي يمكن ان يتلمسه المرء بسهولة هو الامان والسلم الاهلي في الشارع. ولقد لخص لي احد سائقي التاكسي في مدينة المهدية ( بناها عبد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية ) الوضع في تونس حين قال : ( للمواطن التونسي الخيار بين الجامع والبار. ان تختار الجامع فأنت حر ولكن بشرط ان لا تثير مشاكل تعرض الاخرين للأذى.. وان اخترت البار فأنت حر ولكن ان لا تزعج الاخرين ).
وقد بدا لي حديث سائق التاكسي رغم الاختزال الواضح فيه اقرب الى الحقيقة اذ انني لم اصادف في كل المدن التونسية التي زرتها ما يخالف رأي سائق التاكسي، بل ما يعزز قوله.. فالفتيات يرتدين الملابس الحديثة في اخر صيحاتها ويسرن في الشوارع جنبا الى جنب مع الشبان دون اية مضايقة. بالمقابل بوسع المرء ان يرى بعض الشبان الملتحين وهم قلة على اية حال او الذين يرتدون الملابس التقليدية ولكن بدون أدنى مؤشر على التطرف او المبالغة. الامان في تونس شيء حقيقي وهي المرة الاولى التي اشعر فيها انني لست مضطرا الى تفقد جوازي وحقيبتي كل خمس دقائق. والملفت في الامر انني لم ار الكثير من رجال الشرطة في الشوارع على العكس من الكثير من بلداننا العربية التي تغص شوارعها برجال الامن الذين يخيفون الغريب اكثر من اللصوص.
شوارع تونس ضيقة ولكنها مرتبة ونظيفة ومؤثثة بصفوف من الاشجار دائمة الخضرة، وقد شعرت بسعادة بالغة حين تلمست ذلك صديقتي الهولندية وابدت اعجابها بهذا التنظيم. اما المنازل فأغلبها مبني على الطراز الاندلسي الجميل، حيث الاقواس والمقرنصات والاعمدة المخروطية والنوافذ المقوسة المشبكة بالحديد. ولان تونس بلد بحري فأن الوان المنازل والمباني تحاكي لون البحر واحيانا تتماهى معه الى درجة الانصهار فيبدو الافق ممتدا بشكل لانهائي.
المجتمع التونسي مجتمع شاب بأمتياز وقلة فرص العمل تجعل الكثير من الشبان يفكرون بالهجرة ككل الشباب في العالم العربي. في الباص العمومي الذي نقلنا من مدينة المهدية الى مدينة سوسة التي بدت بعيدة للغاية برغم انها لاتبعد سوى سبعين كيلومترا.. اثار حضورنا في هذا الباص فضول بعض الشبان والشابات فأخذوا يتكلمون معنا. وما اثار فضولهم اكثر هو انني عراقي واتكلم اللغة العربية. تحدثوا في البداية عن العراق المحتل ومحنة الانسان العراقي وبعد ذلك عن هولندا وامكانية السفر الى هناك وفرص العمل. ولكنني تحدثت معهم بصراحة شديدة وقلت لهم ان البقاء في البلد افضل بكثير من التغرب والتشرد في اوروبا التي لم تعد ترحب بالعرب والمسلمين بالتحديد.
تسمى تونس بتونس الخضراء وهي خضراء بالفعل اذا عرفنا انها مزروعة بما يقرب من ستين مليون شجرة زيتون يأتي زيت الزيتزن في المرتبة الثانية من الصادرات بعد الثروة السمكية والتمور بالدرجة الثالثة. اذن اشجار الزيتون في كل مكان تذهب اليه ولا تكاد تخلو مدينة مهما كانت صغيرة من معصرة للزيتون. البرتقال ايضا تصادفه في كل مكان وبوفرة عجيبة دفعتني الى معرفة سعره فكان ستين سنتا أي ما يعادل نصف دولار.
مفارقات
من المفارقات ان تونس هذا البلد الحديث يفتقر الى وساط نقل حديثة تواكب عصر السرعة والتقنية. فليس هو بالبلد الفقير ولا يفتقر الى الخبرات والامكانيات. عندما ذهبت من مدينة المهدية الى مدينة سوسة وهي ثالث اكبر مدينة في تونس استقللت الباص العمومي واستغرقت الرحلة ساعتين وربع الساعة بينما المسافة لا تتعدى سبعين كيلومترا. لقد كان الباص يتوقف في كل قرية ومدينة يمر بها. وبحساب بسيط فأن رحلة من هذا النوع لن تستغرق اكثر من ساعة في الظروف العادية لو توفرت خطوط نقل حديثة ومباشرة. معنى ذلك ان المواطن يخسر كل يوم ساعتين ونصف فقط في الطريق. في طريق العودة بحثت عن وسيلة اسرع من الباص فقالوا استقل القطار او المترو كما يسمونه فكانت النتيجة مشابهة، اذ ان هذا المترو يتوقف ايضا كل خمس دقائق. والاكثر مفارقة انه يواصل رحلته الى مدينة مونستير قبل ان يلتف عائدا الى مدينة المهدية.
في مدينة سوسة وهي مدينة جميلة ونظيفة للغاية لم اجد سوى مكتبة واحدة هي مكتبة قاسم. وعندما كنت اسأل بعض المارة كانوا يرشدونني الى محلات لبيع القرطاسية.! المعروف ان تونس تقيم في كل سنة عددا من المهرجانات الثقافية المهمة وفيها اسماء لامعة لمفكرين وكتاب وشعراء.. فلماذا هذه الشحة في المكتبات ؟ الصحف العربية لم اجد لها اثرا في تونس.!
من المفارقات ايضا انني كنت اسأل بعض الباعة في الاسواق باللغة العربية وكانوا يجيبونني بالفرنسية التي لا افقه منها شيئا. وعندما كنت اسألهم عن اللغة الاولى في البلد كانوا يقولون : العربية طبعا. بالمقابل وهنا تكمن المفارقة الحقيقية انني ذهبت مع صديقتي لنركب الخيل على الساحل، كان السائس يرجوني ان اردد له بعض الابيات الشعرية العمودية وكان يضحك بقوة وهو يشير الى صديقه ويقول : اسمع هذه هي اللغة العربية الحقة.. لم اكن افهم ما كان يدور بينهم.؟
قلت في البداية انني فوجئت بطيبة الشعب التونسي ولكي اؤكد هذه الحقيقة التي جعلتني اشعر بالسعادة اروي هذه الحكاية القصيرة. في الفندق طرقت العاملة باب الغرفة من اجل تنظيفها وكلمتني بالفرنسية فقلت لها انه يمكنها ان تتكلم بالعربية فسألتني وهي تضحك.. هل انت عربي ؟ من اين ؟ قلت من العراق فرحبت بي بكل ما تستطيع وقالت لابد من ان تزورنا في البيت سيفرح اخوتي بوجودك واصرت على ذلك بشدة فشرحت لصديقتي الامر وذهبنا. لقد كانوا اعدوا لنا طبقا تقليديا هو الكسكس ولم يكن الحوار الا عن فلسطين والعراق. هذه هي المرة الاولى التي ازور فيها بلدا عربيا لا يعرف اهله ثقافة الانتحار او ثقافة العنف. وبما ان اسرائيل ومعها بعض العرب وغير العرب تريد غلق النافذة الوحيدة الى الحداثة في العالم العربي واعني بذلك لبنان.. ادعو الجميع لزيارة تونس للاطلاع على تجربتها الحديثة دون ان ننسى طبعا التمتع بجمال الطبيعة والبحر والخضرة وتلمس طيبة الناس هناك.
بارك الله فيك أخونا ابو علاء......مشاركه كالعاده...رائعه