- والإصابات البشرية؟
كانت الكلمة التي تردد لنا كلما أشرنا لزيارة نابولي. بدأ التحذير لنا حتى في بيروت. انتبهوا الى محفظاتكم، الى جيوبكم الامامية والخلفية، لا تحملوا كاميرا!!! لا تحملي حقيبة يد ولا كتف بل حقيبة خصر أو رقبة!!! والافضل من دون حقيبة. لا تبتعدوا عن بعضكم البعض. سيروا متلاصقين! لا تضيعوا بعضك بعضا! لا تقفوا أمام بسطات الباعة المتجولين!
تحذيرات لا نهاية لها... يزيدها مرور سيارة بيك آب لنقل البضائع كتب عليها ، تلخص الخوف الدائم من التعرض للسرقة في نابولي.
المداخل الى المدينة الواقعة على بعد 200 كيلومتر جنوبي العاصمة روما واضحة على الخريطة غامضة على الطبيعة. الاشارات إما الى الاعلى وإما الى الاسفل. ويجب أن نعرف الى أي مدخل نتوجه وإلا دخلنا المافيات وعصابات أو المافيات الصغيرة وخرجنا من غير سيارة ومال وحتى ربما بلا ثياب. هكذا قال لنا صديقنا الايطالي الجنوبي الذي رافقنا الى نابولي في زيارة هي ربما الثانية له الى المدينة وهو غير ثمل، كما اأوضح لنا مؤكداً أن النابوليين شعب مضياف محب للحياة وملذاتها. وروى لنا أنه جاء الى نابولي للمرة الاولى مع أصدقاء له قادمين من سهرة عامرة في مدينة اخرى غير قريبة حيث يعملان في أحد النوادي الليلية كعازفي موسيقى. وكانت الساعة قد قاربت الثانية فجراً. وخطر لأحدهم العزف على الساكسوفون وهم يعبرون أحد الازقة الضيقة لنابولي المكتظة بالسكان. ورافقه في العزف على الترومبون رفيقه الآخر، بينما كان هو يحاول إسكاتهما خوفاً من أن يستيقظ سكان المحلة ويوسعوا الجميع ضرباً. لكن الذي حدث أن أهل الحي استيقظوا ونادوا على الشبان الثلاثة طالبين منهم رفع الصوت ونزل بعضهم الى الزقاق حاملا مشروبات ومأكولات. ومنهم من ارتدى ملابسه وآخرون نزلوا بملابس النوم. وكانت حفلة رقص وغناء وموسيقى وأكل وشرب في وسط الزقاق! حتى الصباح توجه الجميع بعدها كل الى عمله.
المدخل الى وسط نابولي مفتوح لجميع الوافدين اليها بحراً أو براً أو جواً. فالمطار قبل المدخل بقليل، والمرفأ حيث سفن الركاب والشحن على المدخل مباشرة، وفي مقابل الباب الى المرفأ جامعة نابولي الحصن القديم. ولا مفر من زحمة السير الخانقة وإن سمح شرطي المرور للسيارات بالسير على خط الترامواي! الدراجات النارية كثيرة جداً وركابها بلا خوذ. والسيارات قديمة بمعظمها تحمل أكثر من سعتها من الركاب، ولا من يعترض بالرغم من أن المدينة متخمة بعناصر الشرطة فلكل 238 مواطناً فيها شرطي واحد وهو رقم قياسي بالنسبة للمدن الاخرى في ايطاليا وبعض دول العالم.
دخان عوادم الآلاف المتزاحمة من الحافلات والسيارات والسفن والدراجات يلف المدينة بغطاء داكن يزيد من سمعتها كمدينة عصابات ومافيات ومشاكل... أدركنا اننا دخلنا أو المدينة القديمة بقصورها التاريخية.
السوق هنا أكثر من شعبي: قمامة على الارض. واجهات لا تثير الرغبة في الشراء. بسطات تزاحم المارة على الارصفة الضيقة فيسيرون في وسط الشارع يزاحمون الدراجات والسيارات وحتى الترامواي. رائحة السمك في بعض الازقة المتفرعة التصقت بالملابس التي تعرضها بعض المحلات على منصات أمام بابها الى جانب منصات بائعي الخضار والاحذية وغير ذلك. الاسعار رخيصة فعلا. فهنا في نابولي، قال صديقنا، يقلدون .
في الواجهات الزجاجية لبعض المتاجر آثار اختراقات لرصاصات نارية. قال لنا صاحب متجر ان رصاصتين اخترقتا واجهة محله حين تعارك أفراد عصابتين من المافيات الصغيرة وسط الشارع.
والإصابات البشرية؟
استغرب صاحب المتجر السؤال وأسرع في التوضيح بأن العصابات هنا تحترم حياة البشر. هم نبلاء قال يأتون ويطلبون من الجميع من أصحاب محلات وسكان ومارة إخلاء المكان قبل أن يتقاتلوا. هم لا يريدون إراقة دماء بريئة بل تصفية حسابات خاصة.
فجأة سمع صوت إطلاق للرصاص متقطع سرعان ما توقف. وماذا تسمي هذا؟ سألته لأتأكد من حسن حاسة السمع لدي. !.
الشعور بالغربة مستحيل في نابولي. وسكانها الباسمون المتفائلون دوماً يحتضون بدفء نظراتهم التي تعكس صدق ترحابهم. ولماذا تعقيد العلاقات؟ يسأل صديقنا الايطالي. انظروا الى الاعلى.. انه بركان فيوزوفيو يطل على المدينة لا تعلم متى ينفجر غضباً ضدها. انها تعيش حياة مؤقتة، أليس من الافضل أن تبتهج؟
إنها مدينة لا يمكن إلا أن تحبها. تجمع في حضنها من الوجوه ما لا يمكنك أن تراه في أي مدينة من العالم بمثل هذه الكثافة في ما يشبه الاسرة الواحدة. يلقبونها بعروس الجنوب تستقطب كل سكانه والوافدين اليها بفرص مفتوحة للعمل وأجور سكنية معتدلة وعلاقات دافئة عائلية. تحتضن الفقراء منهم كما الاغنياء. يجمعهم الوسط التجاري صباحا لكن لكل منهم منطقته ليلا ...
وعلى المقلب الآخر من المدينة التي تقع بين منحدرات بركان فيزوفيو المهدد بالانفجار في كل ثانية شواطئ امالفي، أجمل شواطئ البحر المتوسط حيث تلامس المياه الزمردية الحجارة البركانية. هناك يمتد وان على مساحة صغيرة جدا نسبة لمساحة المدينة التي يتجاوز عدد سكانها المليوني نسمة مساء وأكثر من ثلاثة ملايين صباحا، ما يسمى ب حيث القصر الملكي وأغنياء المدينة ومسرح سان كارلو ومجمع امبرتو التجاري بمحلاته الانيقة الراقية المرتفعة الاسعار والتي تقفل ابوابها منذ الثامنة مساء كما محلات السوق الشعبي لتترك ليل المدينة مفتوحاً لكل الناس ولكل المفاجأت.
منقول - ايمان شمص-
شكل الموضوع ما اعجبكم