الطائرالجريح
06-06-2022 - 12:06 pm
الاخوة الأعضاء الأفاضل .. و المشرفين و المدراء و النواب الأماجد
( اليتيمة ) .. قصيدة من عيون الشعر العربي .. و من أجمل ما قيل في الغزل .. منذ فترة و أنا أحاول
أن أطرحها بين يدي أعضاء و مشرفي بوابتنا الرائعة و المارين عليها من بوابات المنتدى الأخرى ..
هي يتيمة , فريدة .. فلا قصيدة تشبهها ..و الذي قالها لم يقل غيرها.. و العجيب كل العجب أن قائلها غير معروف .. لا أحد يعرف من هو .. .. وتظل ( القصيدة اليتيمة ) بعد كل هذه الحقب الزمنية بلا صاحب .. كأنه أريد لها أن تكون عامة بين الناس جميعهم .. تماما كالحقيقة مقسمة بين البشر ولايمكن الزعم بأنها حكر على بعض دون بعض ..كأن من ابدعها يريد أن يظل أمره لغزا محيرا يزيد من قوة القصيدة ويعمق من سحرها .. فهي كما قال عنها النقاد القدامى والمحدثون من أجود و أعذب ما جاء في الشعر العربي بل ذهب البعض منهم للقول بأن سبب تسميتها باليتيمة يعود لجودتها التي تجعلها وحيدة في الروعة بحيث لا تشابهها في مجالها أي قصيدة أخرى . و قد سميت أيضا ( هند ) .. و سميت ( دعد ) ...
غموض كثيف اذن أمامنا ونحن نستقرىء القصيدة الخالدة فثمة حكايات وأساطير عديدة قيلت حولها ومن ذلك رواية مشهورة لعل في ايرادها ما يزيح بعض اللبس الذي ارتبط بها .. تقول الرواية أن ( دعد ) وهي ابنة أحد الأمراء في نجد كانت شاعرة عبقرية بليغة على قدر كبير من الجمال و الأدب .. و قد خطبها جماعة من كبار الأمراء .. فظلت ترفض الزواج من كل من يتقدم اليها بحجة أنها لن تتزوج الا من هو أشعر منها .. فنظم الشعراء قصائد المدح و الغزل فلم يشفوا الغليل ..و نظم شاعرنا هذه القصيدة التي سميت لاحقا باليتيمة .. وبينما كان في طريقه الى نجد كي يسمع ( دعد ) ماقاله من شعر استضافه أحد ممن مرت ناقته بمكانهم .. فقص عليه حكايته وأنشده قصيدته .. فما كان من الرجل إلا أن قتل هذا الشاعر المسكين و المبدع وأخذ منه القصيدة بل حفظها متوجها بها الى دعد ليخطبها ..
و قد سألته من أي الديار أنت ؟ فأجاب من العراق .. وحين قرأها أمامها وجدت ان أحد أبياتها يدل على أن قائلها من ( تهامة ) وهو ( ان تتهمي فتهامة وطني ..... ) فما كان منها حسبما تقول الرواية الا أن صرخت في وجهه وقالت ( هذا قاتل زوجي ) فقبض عليه قومها و استنطقوه فاعترف بجريمته . و قد قيل أن قائلها هو الشاعر العباسي علي بن جبلة , الذي قتله المأمون .. و قد قيل هو الشاعر العباسي أبو نواس .. و أشهر من قيل أنها له هوالشاعر ( دوقلة المنبجي ) .. و هو شاعر لم تتحدث عنه كتب الأدب .. و ( منبج ) بلدة بالشام ... إذن لو صحت هذه الرواية فذلك يعني ان شاعر ( اليتيمة ) قد أقنعت قصيدته الأميرة
دعد التي من المؤكد كثير من الشعراء الأفذاذ قد سبقوه اليها بقصائدهم دون أن ترى فيها واحدة يستحق صاحبها أن يكون زوجا لها وفي ذلك شهادة صريحة بجودة هذه القصيدة. وسواء صح زعمهم أنها لدوقلة أو كان ضرب من التخمين فالحقيقة الوحيدة الآن هي أن اليتيمة قصيدة رائعة ستبقى راسخة في ذاكرة الشعر العربي وسيظل الغموض الذي إكتنف حكايتها لغزا جميلا يمنح القصيدة بريقها و رونقها الخاص ووهجها العذب الرقيق ..
ومن يتأمل ( اليتيمة ) يجد أن ( دعد ) كان لديها الحق .. فالقصيدة فريدة مميزة رائعة .. رصينة في بنيتها .. عميقة في معناها .. رقيقة في مشاعرها .. عذبة في موسيقاها .. جميلة في صورها .. ورغم طول أبياتها التي تزيد على الستين بيتا لكنها قصيدة متماسكة و سلسة و متدفقة ومتنوعة في كل أبياتها .. وتدور حول عدة محاور يبدأها الشاعر المغدور بالحديث عن الأطلال كما جرت العادة في قصائد الشعر العربي القديم .. بعدها ينتقل للحديث عن ( دعد ) فيصفها بدقة و جمال وعلى نحو عذب و رقيق و فاتن . كأنك أمام لوحة فاتنة أبدعتها ريشة رسام مبدع.. وقد وصف جسم محبو بته، ووجهها، وشعرها، وجبينها، وجيدها، وزندها، ومعصمها، وغدائرها، وكل نبضة من نبضاتها، ولم يفته إن يصف ذهوله أمام هذا المشهد الرائع من مشاهد الحب والجمال،وان يتحدث عن أنفته وعزته وكبريائه حين يعز عليه الوصال ، ليقدم لنا الفارس العربي النبيل الذي يذوب في هواه صبابة و غراما ووجدا ، ولكنه يترفع عزة وإباء وشموخا، ويبعد نفسه عن ارتكاب الدنايا والصغائر، و هيا بنا الى القصيدة كما جاءت في العديد من الروايات الشعرية وليكن كل من يقرأونها هم شعراءها فكأنها نبعت من صدورهم .. فهذا التبني النبيل قد يمحو يتمها وربما الحزن الذي أحاط بقصة صاحبها .
القصيدة اليتيمة
هل بالطلول لسائل رَدّ ... أم هل لها بتكلّم عهدُ ؟
درس الجديد جديد مَعْهَدِها ... فكأنّما هي رّيْطة جَرْد
من طول ما تبكي الغيومُ على ... عَرَصاتها ويُقهقهُ الرعدُ
وتُلثُّ ساريةٌ وغاديةٌ ... ويَكرُّ نحس خلفه سعد
تلقاء شاميةٍ يمانيةٌ ... لهما بمَوْرِ تُرابها سَردُ
فكست بواطنُها ظواهرَها ... نَوراً كأنَّ زَهاءَه بُرد
تندى فيسري نسجها زردا ... واهي العرى و يغره عقد
فوقفتُ أسألها وليسَ بها ... إلا المها ونقانقٌ رُبدُ
فتناثرت دِرَرٌ الشؤون على ... خدّي كما يتناثرُ العقد
أو نَضْجُ عزلاءِ الشّعيب وقد ... راح العسيفُ بِمِلئِها يَعدو
لهفي على دَعد وما حفلت ... بالا بحرِّ تلهّفي دعدُ
بيضاء قد لبس الأديمُ بَهاء الحُسن فهو لجلدها جلد
ويزين فَوْدَيها إذا حَسرت ... ضافي الغدائر فاحمٌ جَعدُ
فالوجه مثلَ الصبح مبيضٌ ... والشعر مثلَ الليل مسودّ
ضدّان لما استجمعا حَسنا ... والضدّ يُظهر حُسّنهُ الضِدّ
وجبينها صَلْتٌ وحاجبها ... شَخْتُ المخَطّ أزَجُّ ممتد
وكأنها وسنى إذا نظرتْ ... أو مُدنَفٌ لما يُفِقْ بعدُ
بفتور عينٍ ما بها رَمَدُ ... وبها تُداوى الأعينُ الرُّمد
وتُريك عِرنيناً يزيّنه ... شَمَمٌ و خَدَّاً لونُهُ الورد
وتجيل مسواكَ الأراك على ... رَتلٍ كأن رُضابه الشَهدُ
والجيد منها جيدُ جازئة ... تعطو إذا ما طالها المرْد
و الصدر واد زانه جبل ... يعلوه حق العاج اذ يبدو
وامتدّ من أعضادها قصبٌ ... فَمْمٌ تلته مَرافق دُرْد
والمِعصَمان فما يُرى لهما ... من نَعمة وبضاضةٍ زند
ولها بنان لو أردتَ له ... عَقداً بكفّكَ أمكن العقد
وكأنما سُقيت ترائبُها ... والنحر ماءَ الورد إذ تبدو
وبصدرها حُقّان خِلتهما ... كافورتين علاهما نَدُّ
وابطن مطوىّ كما طُويتْ ... بيضٌ الرياط يصونها المَلْد
وبخصرها هَيفٌ يزيّنه ... فإذا تنوء يكاد ينقدُّ
و لها هن راب مجسته ... وعر المسالك حشوه وقد
فاذا طعنت طعنت في لبد ... و اذا نزعت يكاد ينسد
والتفّ فَخذاها وفوقهما ... كَفَل يجاذب خصرها نَهد
فقيامُها مثنى إذا نهضت ... من ثقله وقعودها فَرد
والساق خَرعبة منعّمةٌ ... عَبِلتْ فطَوق الحَجل منسدّ
والكَعب أدرمُ لا يبين له ... حَجم وليس لرأسه حَدُّ
ومشت على قدمين خُصرَتا ... وألينتا ، فتكامل القدّ
ما عابَها طول ولا قِصْرٌ ... في خَلْقها فقِوامُها قَصدُ
إن لم يكن وصل لديكِ لنا ... يشفي الصبابةَ فليكنْ وعد
قد كان أورق وصلُكم زمناً ... فذَوى الوصال وأورق الصَدّ
لله أشواقي إذا نَزحتْ ... دارٌ بنا ونأى بكم بُعدُ
إنْ تُتْهمي فتهامةٌ وطني ... أو تُنجِدي يكن الهوى نجد
وزعمتِ أنكِ تضمرين لنا ... ودّاً , فهلاّ ينفع الوُدّ ؟
وإذا المحبّ شكا الصدودَ ولم ... يُعطَف عليه فقتله عَمْد
نختصّها بالودّ وهي على ... مالا نحبُّ ، فهكذا الوجد
أو ما ترى طِمريَّ بينهما ... رجلٌ ألحَّ بهزله الجِدُّ
فالسيف يقطَع وهو ذو صَدأ ... والنصل يعلو الهام لا الغِمد
هل تنفعنّ السيفَ حليته ... يوم الجلاد إذا نبا الحَدُّ ؟
ولقد علمتِ بأنني رجل ... في الصالحات أروح أو أغدو
سَلْمٌ على الأدنى ومَرحمةٌ ... وعلى الحوادث هادِنٌ جَلْدُ
مَتجلببٌ ثوبَ العَفاف وقد ... غفل الرقيب وأمكن الورد
ومُجانبٌ فعلَ القبيح وقد ... وصل الحبيبُ وساعد السعدُ
منع المطامع أن تُثلّمني ... أني لمعوَلِها صفاً صلدُ
فأروح حُراً من مذلتها ... والحرُّ - حين يطيعها - عبدُ
آليتُ أمدح مُقرفاً أبدا ... يبقى المديح ويَنفدُ الرفد
هيهات يأبى ذاك لي سَلفٌ ... خَمدوا ولم يخمد لهم مجد
والجد كندةُ والبنون همُ ... فزكا البنون وأنجبَ الجدّ
فلئن قفوتُ جميل فعلهم ... بذميم فعلى إنني وَغْد
أجملْ إذا حاولتَ في طلب ... فالجِدّ يغني عنك لا الجَدّ
ليكنْ لديك لسائلٍ فَرجٌ ... إن لم يكن فَليَحْسُنِ الردُّ
وطريد ليل ساقَه سَغَبٌ ... وَهْناً إليَّ وقادَه بَرْد
أوسعتُ جُهدَ بشاشة وقِرى ... وعلى الكريم لضيفه الجُهد
فتصرّمَ المثُني ومنزله ... رَحْبٌ لديّ وعيشه رَغْد
ثم اغتدى ورداؤه نعَمٌ ... أسأرتُها وردائي الحمد
يا ليت شِعري بعد ذالكُمُ ... ومصيرُ كلّ مؤملٍ لحد
أصريعُ كَلْمٍ أم صريع ضَناً ... أودَى فليس من الرَدى بُدّ
يا الله على هذه اليتيمة الرائعة .. كلما قرأتها أعدت قراءتها .. و لا شك أنكم ستفعلون ..
أتمنى أن تحوز على رضاكم و تجدوا فيها كل البهجة و الطرب .. و أراكم على خير ...
وايرادك لهذه القصيدة يدل على ذوقك ورقي اختياراتك فهي من العيون ويكفي أن اربعين شاعر حلفوا على انتحالها وتماروا فيما بينهم ويجب ان نتنبه عند ايراد اخبار الأبيا ت لأنها توجيه للقاريء وافضل عدم ذكرها ولكن لطرافة القصة وجمالها فلك العذر في ايرادها والصنع ظاهر فيها
وأفضل من تكلم عن الدعدية أو اليتيمة هو الدكتور يحي الجبوري حيث عقد لها مبحثاً في ديوان ابي الشيص الخزاعي ورجح الدكتور يحي أنها من نظم ابي الشيص (انظر ديوان ابي الشيص الخزاعي صنعة يحي الجبوري نشر المكتب الإسلامي 1404ه ط1)ص118 ومابعدها .
ولك كل التحية والإجلال ياطائر لأنك تحمل بين حناياك قلباً عربي الهوى .