- قل «إسبريسو» ولا تنس زيارة مقهى «كازانوفا» في البندقية
قل «إسبريسو» ولا تنس زيارة مقهى «كازانوفا» في البندقية
إذا استخدمت التعبير العربي الشائع للقهوة وأنت في أحد مقاهي العاصمة الإيطالية روما، وسألت النادل عن «إكسبريسو»، سينظر مستعجبا ويفهم أنك تسأل عن القطار السريع الى ميلانو أو فلورنسا ؟ فأول درس يجب أن يتعلمه السائح العربي في إيطاليا هو أن يقول «إسبريسو»، عندما يرغب في احتساء قدح من القهوة الإيطالية الشهيرة، المعادل الأوروبي لفنجان القهوة العربي الذي نعشقه جميعاً في بلادنا.
وإذا سافرت الى البندقية (فينيسيا)، فلن تكتمل زيارتك الا اذا تناولت القهوة في اول بيت للقهوة في ايطاليا واسمه «فلوريان» الذي تأسس منذ عام 1720 في ساحة سان ماركو وشهرته طبقت الافاق لأن زبائنه كانوا من مستوى الموسيقار الالماني الكبير فاغنر والشاعر بايرون والفيلسوف جان جاك روسو والكاتب هنري جيمس. ومن اشهر زبائن المقهى أيضا صاحب المغامرات النسائية والسمعة العاطفية المتقلبة كازانوفا حيث كان يداوم على زيارته بانتظام لأنه المقهى الوحيد في زمانه الذي كان يسمح للنساء بالدخول إليه. وهم يبيعون البن المسمى باسم مقهى فلوريان على الانترنت ب 125 دولارا للكيلوغرام الواحد.
والشعب الإيطالي مدمن للقهوة، وقد اسعدته الابحاث الطبية الحديثة التي نشرت أخيرا في الصحافة الإيطالية، وتحدثت عن فوائد جديدة للبن، فقد ذكرت دراسة ان للقهوة (شراب البن) فوائد عديدة تتفوق على مضارها في رفع ضغط الدم، فهي تقلل من الاصابة بمرض النقرس، ونسبة كبيرة ممن يحتسون القهوة يصبحون أقل تعرضا للاصابة بسرطان الكبد. وكانت هذه أخبارا سارة للمستهلك الايطالي لأنه غير مستعد أصلا للتوقف عن ممارسة عادته في تناول قهوة الإسبريسو أو الكاباتشينو في المقاهي مهما قالت الدراسات التي قد تمولها شركات صنع القهوة أحيانا، والإيطالي قد يرتشف قهوته على الواقف لعدم وجود مقاعد للجلوس، ولان فنجان القهوة يحتوي على بضع رشفات لا تتطلب وقتا طويلا لاحتسائها، فهو يمارس عادته المفضلة، على طريقة: اشرب قهوتك وامش. وايطاليا هي بلد القهوة، مثلما الصين هي بلد الشاي، فأنت تراها حولك اينما ذهبت، حتى في الفنون، ففي عام 1750 ألف الكاتب المسرحي المعروف كارلو غولدوني مسرحية شهيرة باسم «دكان القهوة»، واقتبس الفكرة الممثل ادواردو دي فيليبو في فيلمه الهزلي الذي يفيق فيه البطل من سباته فجأة لان زوجته حضرت له قهوة سيئة المذاق، أما الممثل الكوميدي توتو فكان يتذمر باستمرار في أفلامه القديمة لأنه يحب شرب ثلاثة فناجين قهوة وليس لديه سوى شفتين فقط. أجمل دعايات القهوة على التلفزيون الايطالي قام بها الممثل الهزلي نينو مانفريدي حين كان يقول وهو يرتشف القهوة «انها تهبط في جوفي لكنني أرتفع الى العلى». عشاق القهوة في ايطاليا مثل عشاق وأنصار فرق كرة القدم، تتعدد انتماءاتهم وتختلف حسب المذاق، فأنواع القهوة الايطالية كثيرة، ولكن أشهرها بالطبع هو الإسبريسو (القهوة البنية اللون) القوية، والكاباتشينو حيث يضاف اليها الحليب برغوته المنعشة، وهناك القهوة بالحليب التي تقدم في كأس ماء متوسط الحجم بدل الفنجان، والقهوة ماكياتو (الملطخة بالحليب) أي الإسبريسو مع القليل من الحليب الساخن أو البارد في فنجان صغير، وأيضا القهوة ستريتو أي القوية للغاية لان نسبة الماء فيها قليلة، والقهوة المغربية ماروكينو وفيها ذرة من الكاكاو، وهم يطلقون على القهوة الاميركية قهوة (الشوربة) وذلك لزيادة الماء فيها حيث تصبح خفيفة لا مذاق لها، كما أن السخرية ربما تكون احتجاجا على تجاهل الزبون لطلب القهوة الايطالية الاصيلة. ويعتبر الإيطاليون كل من يطلب قهوة الكاباتشينو بعد تناول طعام الغداء أو العشاء أجنبيا، لان الايطالي لا يشرب الكاباتشينو الا في ساعات الصباح. أما أشهر ماركات القهوة الايطالية ذات التوزيع المحلي والدولي فهي «ايلي» و«لافاتزا» و«تاتزا دورو» و«سيغافريدو»، بالمقابل هناك مئات من العلامات التجارية والماركات المحلية مثل «سان اوستاكيو» و«دي بياجو» في روما، و«فيرغانو» في تورينو، و«سبيناتو» في صقلية، والتي فازت بجائزة أفضل قهوة في ايطاليا منذ سنتين من بين حوالي 1400 صنف من أصناف القهوة الايطالية.
والفرق في المذاق والطعم بين هذه الماركات يكمن في طريقة التحميص ونسبة المزج بين أنواع القهوة. مثلا قهوة «سبيناتو» تحتوي على خليط بنسبة 70% من البن المسمى أرابيكا (أي الاصل العربي) و30% من البن القوي المسمى روبوستا، وذلك لان أهل صقلية يحبون القهوة القوية ذات النكهة المميزة، بينما النسبة المعمول بها في أغلب المقاهي الايطالية تتكون من 51% أرابيكا و49% روبوستا، أما اذا كنت ترغب في قهوة مميزة فاخرة فعليك بالأرابيكا 100%، والتي يجب خلطها من انتاج عدة بلاد، ويجب تحميص كل صنف على حدة وبدرجات حرارة مختلفة لتكون سمراء أو غامقة اللون.
لا يستغرق تناول فنجان قهوة الإسبريسو أكثر من دقيقتين أو ثلاث، لكن التحضير لهذا الفنجان يستغرق عدة سنوات تبدأ الخطوة الاولى فيها من نضج حبوب البن على الأشجار. ثم تجنى الثمار بطريقة الحصاد المسماة «تعرية الشجرة» أي قطف الحبات الناضجة وغير الناضجة والشديدة النضج، وهي تختلف عن طريقة «القطاف» التي تضمن النوعية الجيدة، لأنها تقتصر على الحبات الناضجة فقط. وبعد الحصاد تبدأ المعالجة اما «على الناشف» أو «المبللة» وتكفل الطريقة الثانية تجانس حبات البن قبل البدء في التحميص. ويمكنك أن تحكم بنفسك اذا كانت القهوة التي ترتشفها من النخب الاول أم لا من شكلها ومذاقها: اللون يجب أن يكون بنيا والسائل كثيفا والطعم لذيذا مستساغا، أما القهوة السيئة فسببها واضح لأنك ستحس بأن اللون غامق اكثر من اللازم ويميل الى السواد، كما في السائل بعض الفقاعات، والمذاق مر دون نكهة. الفرق الاساسي يكمن سره في طريقة التحميص الايطالية التي أوصلت فن التحميص الى درجة الكمال لأنها تستخدم التقنية الحديثة. الخطوة الاولى في التحميص هي خفض وزن حبات القهوة بتبخير الماء منها وتبديل لونها الأخضر الى بني أو أسود بعد تفحم «السلولوز»، وهي المادة الاساسية في خلايا النبات، مما يفسح المجال لظهور زيوت البن التي تعطي النكهة والمذاق وتخفض من نسبة الكافيين. القهوة من نوع أرابيكا تحتوي بعد التحميص على أقل من 2% من الكافيين بينما قد تحتوي حبة روبوستا على 4% أو أكثر من الكافيين. وكلما زادت حرارة التحميص نقصت نسبة الكافيين في حبات البن، والطريقة الايطالية تتطلب ظهور النكهة مع الاحتفاظ بنسبة معقولة من الكافيين لذا تختلف عن الطرق المستعملة لتحميص القهوة في البلاد الاخرى، ثم يأتي دور الخبراء المختصين بخلط أنواع القهوة من دول متعددة ونوعيات مختلفة والنسب المستعملة لتحقيق هذه الغاية والتوازن المطلوب.
لا يعرف الكثيرون بوجود منظمة دولية للقهوة ترعاها الامم المتحدة ومقرها لندن منذ عام 1963 ويرأسها حاليا نسطور أوسوريو من كولومبيا، فالقهوة سلعة دولية مهمة لأن مجموع الصادرات السنوية في العالم حسب احصائيات شهر يونيو (حزيران) المنصرم بلغ حوالي 85 مليون كيس والزيادة مستمرة، فقد وصل الاستهلاك العالمي الى ما يزيد على 400 مليار فنجان سنويا. وزراعة أشجار البن تتماشى مع طقس المناطق الاستوائية، لذا فالبرازيل ما زالت تحتفظ بالمرتبة الاولى في الانتاج العالمي تليها كولومبيا، أما القهوة من جامايكا فلها خصائص ممتازة خاصة المنتجة في المناطق الجبلية، وفي افريقيا تلبي ساحل العاج كثيرا من احتياجات العالم، بينما نجد قهوة أرابيكا في اثيوبيا البلد الاول الذي نشأت فيه شجرة البن وتنافسها الهند والبيرو في الانتاج.
أما في جزيرة جاوا في اندونيسيا فأنهم يخزنون القهوة لمدة سنتين أو أكثر ثم يبيعونها بعد أن تفقد بعض حموضتها فتعطي مذاقا أكثر حلاوة، وفي فيتنام تضاعف انتاج قهوة روبوستا عدة مرات في الاعوام العشرة الاخيرة لكن النوعية لم تكن جيدة على وجه العموم. وتحتفظ اليمن التي صدرت القهوة منذ القدم من ميناء المخا (والذي يرجع إليه سبب تسمية نوع من القهوة بأسم موكا) بنوعية فريدة لان في قهوته ملامح من نكهة الشيكولاته، فهي أقدم قهوة في العالم استلطفها العثمانيون ثم صدروها الى النمسا اثناء محاولاتهم احتلال فيينا ومنها انتقلت القهوة الى ايطاليا عبر مدينة البندقية في الشمال ثم الى كافة البلاد.
وأسعار القهوة تتحدد الان في بورصة نيويورك بالنسبة الى نوع أرابيكا وفي بورصة لندن بالنسبة الى نوع روبوستا حسب العرض والطلب، لكن ايطاليا تحتل موقعا مهما في سوق القهوة العالمي، فهي تستورد ما يقرب من 350 ألف طن سنويا من حبوب البن الخضراء نصفها من نوع أرابيكا والنصف الاخر روبوستا، وتصدر حوالي 4 آلاف طن من القهوة سنويا بفضل عمل 750 محمصة متوزعة في أرجاء البلد، أما المزارعون الذين ينتجون القهوة في العالم الثالث ويزيد عددهم على 25 مليون مزارع فلا يحصلون على أكثر من 1% من سعر القهوة المستهلكة.
يحب الايطاليون المرح والتنكيت والهزل، لكنهم يعتبرون شؤون القهوة أمرا جديا لا مزاح فيه، فهناك دليل سنوي تصدره دار غامبيرو روسو عن أحسن مقاهي ايطاليا وأفضل أصناف القهوة. ولكل زبون في ايطاليا موضع مفضل يتناول في، قهوته الصباحية، ويقولون ان أفضل قهوة في روما تجدها في مقهى صغير وراء مقر مجلس الشيوخ قرب مبنى البانتيون الاثري الشهير واسمها «سان اوستاكيو»، ولا يبعد عنه مقهى اخر يسمى «تاتزا دورو» (أي الفنجان الذهبي)، أما في فلورنسا فهناك قهوة «روفوار» قرب متحف أوفيتزي، وفي نابولي «شيميمو». أما المقهى الذي فاز بالجائزة الاولى في العام الماضي فهو «كونفرسو» بمدينة برا في مقاطعة كونيو الشمالية. أما ماركة القهوة الايطالية المفضلة حاليا فهي «ايلي» لصاحبها أندريا ايلي (43 سنة) من مدينة تريستا الشمالية، والذي درس الكيمياء وكانت اطروحته الجامعية حول الخصائص الكيميائية لقهوة الإسبريسو، وقد أنشأ جده الشركة عام 1933 لكن التوسع جاء على يد الحفيد. ويعتبر ايلي في عالم القهوة مثل أرماني بالنسبة للازياء، ولا يخشى من منافسة شركة «ستار بكس» الاميركية التي يشاع أنها تريد افتتاح فروع لها في ايطاليا، بل يعتبر وجودها مشجعا على زيادة الاستهلاك العالمي، كما يعتقد أن سوق القهوة الفاخرة المرتفعة الثمن قد بدأ في التوسع الان، فشركته كانت تبيع منتجاتها قبل عشر سنوات الى 12 بلدا، أما الان فهي تبيع قهوتها الفاخرة الى 144 دولة مما يكفل لها نصف مواردها.
من الصعب أن لا تعثر على قهوة جيدة في ايطاليا خاصة بعد انشاء «جامعة القهوة» في تريستا. ويقدم أندريا ايلي نصيحته قائلا «الجمال له طعم.. اعتمد على حواسك بنفسك، فأفضل قهوة هي التي يعجبك طعمها» ويقول أحد مساعديه مازحا: كيف تعرف أنك تناولت من القهوة أكثر مما ينبغي ؟ ويجيب: حين تفتح الباب قبل أن يطرقه أحد!
تحياتي
المصدر
جريدة الشرق الأوسط
العدد 10490 تاريخ 18/8/2007
اشكرك لتقديمك هده المعلومات القيمة....