- قصر هايدلبرغ
- وداعة الريف وحداثة المدن العصرية
هايدلبرغ: مدينة ألمانية تضيّع
القلوب وتفتن النفوس
منظر لمدينة هايدلبرغ (ألمانيا)
بوابة الجسر القديم في هايدلبرغ
قصر هايدلبرغ
هايدلبرغ (بالألمانية: Heidelberg) هي مدينة تقع جنوب شرقي ألمانيا، في ولاية بادن-فورتمبيرغ، يجتازها نهر نيكار قبل أن يكمل مساره ويصب في مانهايم (Mannheim). بلغ تعداد سكانها ... (2004).
تعبر مدينة هايدلبرغ مدينة السياحة والثقافة بالدرجة الأولى، على أنها تملك نشاطات اقتصادية أخرى، كمصانع الأسمنت، المنسوجات. يوجد بها العديد من معاهد الأبحاث العلمية، على غرار معهد الطب الاستوائي (أو طب المناطق الاستوائية),
قصر هايدلبرغ هو أهم معلم في المدينة ، يشرف منذ قمته على المدينة، شيد على ضفاف نهر "نيكار". لا زالت بعض الأجزاء القديمة منه والتي تعود إلى قرون خلت شاهدة على أساليب العمران أثناء القرون الوسطى وعصر النهضة. يرجع تاريخ بناء القصر إلى القرن الثامن للميلاد (شارلماني)، وتعود عواميد الغرانيت الأربعة والمنتصبة في باحة القصر إلى هذه الفترة الأولى. يحتضن جناح "أوتو هاينريش" متحفا للصيدلة. في أحد الأقبية العديدة المتواجدة في الطوابق التحت أرضية، يوجد برميل هايدلبرغ الشهير (Großes Fass) ، ويعتبر رمزا لصناعة الخمور في المدينة.
من بين المباني الدينية في المدينة: كنسية الروح القدس (القرن ال15 م)، كنسية القديس بطرس (القرن ال15 م)، والتي قام فيها اللاهوتي البوهيمي (نسبة إلى بوهيميا) "جيروم من براغ" (Jerome of Prague أو Jeroným Pra ský) بإعلان آرائه وعقيدته في البابوية، قبل أن تتم محاكمته ويحرق حيا. الجسر القديم والذي لا يزال قائما إلى يوما هذا، كان في السابق الممر الرئيسي المؤدي إلى المدينة القديمة. تشتهر هايدلبرغ بجامعتها، أقدم وأعرق جامعات ألمانيا، يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1386 م، تم فيها نشر كتاب "مسائلات هايدبرغ"، (1563 م)، وهو وثيقة تاريخية صنفت على شكل أسئلة وأجوبتها، يرجع إلى فترة جرت فيها محاولات لردم الهوة بين أتباع المذهبين الكالفيني (نسبة إلى كالفن) واللوثري (إلى مارتن لوثر).
ورد اسم المدينة لأول في بعض المخطوطات التي ترجع للقرن ال12 للميلاد. ظلت وحتى سنة 1720 م حاضرة منطقة بالاتينات (Palatinat). بعد الإصلاحات (1646 م) أصبحت من مراكز المذهب البروتستانتي في ألمانيا. اجتاحتها القوات الفرنسية أثناء حرب الثلاثين سنة (1618-1648 م) فتضررت كثيرا، ثم أعاد الفرنسيون الكرة سنتي 1689 م ثم 1693 م. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت المدينة مركزا للقوات الأمريكية في أوروبا.
ويحلو الحديث عن هذه اللؤلؤة المتفردة في العقد الالماني الفيدرالي الناظم لمجتمع متنوع يقدر بحوالي 82 مليون نسمة، يتوزعون على 16 مقاطعة، فهي تقع في مقاطعة باد ورتنبرغ، جنوب غربي المانيا، وتتخذ من مدينة شتوتغارت عاصمة لها، وتتميز بروعة مناظرها الطبيعية (الغابة السوداء، بحيرة كونستانس، اودية الراين والدانوب والنيكر). وتستقطب سنوياً افواجا من السائحين يفوقون بكثير عدد سكانها البالغ 4.10 مليون نسمة.
واسم هايدلبرغ نفسه سمح لنا بتمييز اسماء المدن ذات اللاحقة Berg التي تعني "الجبل"، من تلك التي تنتهي باللاحقة Borg وتعني "القلعة"، مثل ستراسبورغ الجارة الفرنسية. يقول الكراس السياحي انها مدينة الصناعة (والطباعة) والعلم. ولكنها ايضا موئل للفن والموسيقى والفرح والتواصل الانساني، كما تسنى لنا ان نشهد خلال الشهر الذي صرفناه في ربوعها.
وداعة الريف وحداثة المدن العصرية
واذا كانت للمدن روح تطبعها بطابعها، فإن روحها رومانسية ودينامية في آن واحد. فهي تجمع بين وداعة الريف الالماني، وانسيابية مشاهده الطبيعية، وعراقة مبانيه، وحداثة المدن الاوروبية الصغيرة المنفتحة والمؤهلة لاستقطاب الوف السياح الذين يقصدونها من كل صوب. فهي على قائمة المدن التي ينصح اليابانيون والاميركيون بزيارتها. والطابع "الكوزموبوليتي" للمدينة لا يتجلى فقط في سحنات وبشرات قاصديها والسنتهم المتعددة، بل ايضاً في مطاعمها المتنوعة التي تشي روائحها وواجهاتها ويافطاتها بتنوع النكهات والمذاقات وتغريك بارتيادها ظهراً ومساء.
شارع المشاة الرئيسي Hauptstrasse الذي نقصده انطلاقاً من وسط المدينة، وتحديداً من ساحة بسمارك، يخترق الوسط القديم للمدينة، ويفصل احياءه الى قسمين: الاحياء المؤدية الى القلعة الاثرية لجهة اليمين، وتلك المشرفة على نهر النيكر أحد روافد الراين لجهة اليسار. هذا الشارع الذي يشهد يومياً الوف العابرين والمنتدين والمتسوقين يحتضن عشرات المخازن والمقاهي والمطاعم الالمانية والاجنبية، بما فيها اللبناني بأراكيله المعسّلة والفلافل والشاورما.شاورما تركية
لكن اسياخ الشاورما المهيمنة هي التركية بلا منازع. فقد اضفى عليها الاتراك لمسة تكنولوجية، اذ استعاضوا عن السكين التقليدي بآخر كهربائي لقص اطراف شرائح اللحم، بيد ان اللحم الذي تذوقناه هو لحم حبش اكثر منه لحم خروف. المهم انهم باتوا مقصداً لمن يرغب في ساندويش شرقي لذيذ ورخيص ومزين بشتى الاطايب. الإيرانيون بدورهم لهم مطعمهم Persopolis الذي جاوز منطقة القلعة الاثرية، ولكن الاكل عندهم سريع (على الواقف).
الاطباق الالمانية التقليدية تذوقناها بالطبع، ولكن في مطعم هو اساساً معمل للبيرة، جعلت حوله الطاولات وبات مقصداً للالمان والسياح على حد سواء. والبيرة مشروب وطني يقبل عليه الالمان من كل الاعمار. ولكن النكهات الالمانية تتعدد، ومنها طبق الحبش اللذيذ، الذي دعانا اليه انا وزوجتي هدى والزميل السوري ظافر يوسف والبروفسور آرنولد، زميل الماني ذي اصول لبنانية وزحلاوية تحديدا هو البروفسور رئيس خوري استاذ الدراسات الاسلامية. فمنذ 27 عاماً، يداوم مع زملائه على جلسة اسبوعية، ظهر كل يوم اربعاء، في مطعم Zum Weissen Schwamen البجعات البيضاء"، حيث يجتمعون حول طاولة معينة للاكل والنقاش محاذرين من ان تضيع العقول عند البطون. والمرة الوحيدة التي خذلهم فيها صاحب المطعم كانت عندما سبقهم الى الطاولة المستشار الالماني السابق هلموت كول، الذي يرتاد نفس المطعم لدى زيارته لهايدلبرغ، والمعروف عنه شغفه بالاطباق اللذيذة.مدينة الفن والموسيقى
وداعة الحياة في هايدلبرغ لا تمنع الاعتراف بأنها تأتي في المرتبة الثالثة بين المدن الالمانية الاغلى بعد برلين وميونيخ ولكنك مع مرور الايام تكتشف مخازن ارخص من تلك التي يتوزعها الشارع الرئيسي، كما انك ترتاد المراكز التجارية، ومنها مركز Kaufhof المشهور في كل المانيا. ويقول اهل المدينة انها الوحيدة التي لم تدمر خلال الحرب العالمية الثانية، لأن ضابطاً من الحلفاء جنبها هذا المصير لشدة ولعه بها. كما انها تنفرد بين المدن الاوروبية بوصفها الاولى التي اكتشف فيها الاثر الاقدم لحياة انسانية. ففي عام 1907 اكتشف الفك السفلي "لانسان هايدلبرغ" الذي يعود لستمائة الف سنة.
وثلاثيها الجمالي المعروف يتمثل في المناظر الطبيعية المتاخمة لنهر Neckar، والمدينة القديمة، والقصر الاثري الذي يعلو هضابها، ألهم قرائح كبار الرسامين، وكذلك الموسيقيين امثال شومان وفون وبر، والشعراء والكتاب المبرزين امثال غوته وهولدرن ومارك توين، فاستوحوا من جمالياتها وخلدوها في مؤلفاتهم الابداعية.
الوسط القديم للمدينة الذي تآلفنا مع معالمه طيلة شهر يحتضن الجامعة التي تقع في مبنى تراثي مجاور لكنيسة اليسوعيين التي بنيت مطلع القرن السابع عشر. واجهة المعهد يزينها تمثال للمادونا تقاوم الشيطان وتصرعه. سجن الفلاسفة
وتكتشف خلال تجوالك سجناً طلابياً اقيم بين الاعوام 1878 1914 لسجن الطلاب الذين يرتكبون خطايا صغرى. واللافت انه من المعالم التي يتقاطر اليابانيون على رؤيتها. للفلاسفة نصيبهم ايضا، اذ ثمة رواق او ممشى يدعى "رواق الفلاسفة" كان يشهد جماعات الفلاسفة والعلماء الذين كانوا يبغون فسحة او خلوة يتبادلون عندها الآراء ويشحذون الافكار، وكان لكل فئة او شريحة المقام المناسب لها في هذه المدينة المتعددة المشارب والاهواء.
ثمة الكثير مما يقال عن هذه الحاضرة الاوروبية التي تضج بصخب الحياة وفتنتها. لذا ادعو القارئ العربي لزيارتها والاطلاع على مفاتن العمران الانساني وتجلياته عله "يضيع قلبه" في ربوعها، او في احضان حسانها وما اكثرهن، وانا كفيل بأنه لن يغادرها "غريب القلب والوجه واللسان"، بل سينضم الى قوافل ابناء الشمس الذين فتنت نفوسهم فجعلوها محطة رئيسية في "اجندتهم" السياحة، وحسناً فعلوا.
منقول
