- رحلة إلى اليمن.. (1)
- > > >اهلا بك في صنعاء
- «باب اليمن» يفتح باب
- الحب والحسرة
- بيت ماركو وعرس الشيراتون
- عرس نسوي
- زيارة المقالح
- سوق باب اليمن
- مقيل النساء..
بقلم الأديبة الكاتبة ليلى العثمان وقد نشرت هذه المقالة في جريدة القبس الكويتية
رحلة إلى اليمن.. (1)
استقبلني فجر صنعاء موشى بلون الشروق الخجول، شعرت بنداوة السماء تمسح هم الرحلة الطويلة، توقظ النعاس الذي لم تتح له فرصة لنوم مريح. خوفان كانا يتناوبان عليّ ويقلقان بالي. هذا الخوف ناتج عن أمرين:
أولهما قناعتي ب «فوضى وزاراتنا العربية» وكثيراً ما اشتكى ضيوف الملتقيات الثقافية وغيرها في الوطن العربي من هذه الفوضى فينتظرون في المطارات حيث لا يجدون احداً في انتظارهم. ماذا لو حدث معي هذا وأنا المتعبة الجائعة الغريبة عن بلد لا تعرفني ولا أعرفها إلا بالأسماء؟ من سينقذني؟ وان كان لي فيها أصدقاء فأنا لا أعرف عناوين بيوتهم، وبعضهم لديّ أرقام هواتفهم لكنني لا أجرؤ على الاتصال فجراً لأزعجهم. سيتوجب عليّ اذاً ان اتصل بالجهة الداعية مركز الدراسات والبحوث اليمني لكن المركز لم يفتح بعد وسأنتظر أكثر من ساعتين وسيفسد عليّ هذا الانتظار صباحي وربما الصباحات القادمة كلها!
ظللت في قلقي وأنا انحدر من سلم الطائرة، وما ان نزلت الدرجة الأخيرة حتى صافحني اسمي مكتوباً على لوحة يرفعها أحدهم ويهديني تحية الصباح وترحيباً لطيفاً. شهق الفرح بداخلي وانتشرت أذرع الراحة تغذيني بعد جوع وتطرد القلق المسيطر.
دخلت صالة الشرف، استقبال يفتح شهيتي ان ارتمي على كل وجه لأشكره. كنت بحاجة لفنجان قهوة تركية ينشط نعاسي ويتناسب مع فرحي، فالقهوة بالنسبة لي رفيقة الفرح، وحين فاحت رائحتها تنشقتها بشهية عارمة، لكنني ما استطعت الا رشفة واحدة منها، فقد كانت «سكر زيادة» ومنعني خجلي ان اطلب غيرها. تعليمات ابي الصارمة تلاحقني «يا غريب كون اديب».
الخوف الثاني انني دائمة القلق من لقاء المدن للمرة الأولى، الوهلة الأولى، النظرة الأولى، الاحساس الأول، فالمدن كما البشر لها طبعائها المتناقضة، هناك مدن ترفضك، وهناك التي تفتح ذراعيها باتساعهما وتسقطك في وسط القلب. هي تحب أو تكره، تحتوي أو ترفض، تعد لك فراشاً أو تتركك تنام عند عتبة الباب دون لحاف.
هذا الخوف استعمرني منذ ان قررت السفر، وتمنيت بداخلي كثيراً ألا تصد صنعاء عني بوجهها ولا بعواطفها. فاستقبال المدينة إن كان كارهاً سيجعلني أبادله الكراهية وهذا ما لا أريد واستقبالها المحب سيفتح كل قنوات الحب اليها.
ركبت السيارة، الشمس لم تشرق كاملة بعد، لكن ضفائرها البرتقالية بدأت تتناثر من خلف الجبال وتصب ذهبها على أسطح البيوت الهاجعة. لا تزال الشوارع هي الأخرى لم تستقبل ضجيج الأقدام والعربات وعيناي تتأملان ما حولي في «لحظة حاسمة».
> > >اهلا بك في صنعاء
عادة لا أحب المدن التي لا بحر فيها، كان هذا أحد هواجسي، فالبحر هذا العشيق النادر الدائم يأسرني. رائحة زفره تثير بروحي اشتهاءها للحياة رغم مصائبها، هو برأيي الرجل المتحرك، الثائر حيناً، الحنون أغلب الأحيان. هو الخائن الغدار وهو الوفي المعطاء. وحيث يكون البحر يكون الحب، يكون الأمان. فكيف سأقضي أيامي في صنعاء التي بلا بحر؟ خشيت ألا أحبها وخشيت أن ترفضني، ان تتعالى عليّ وهي التي بلا بحر، ان تضغط على روحي للدرجة التي أقرر فيها ان أعود من حيث أتيت، ولكن! يا لسعادتي فما ان جلست في السيارة ونسائم الصباح الباردة تلسعني حتى أحسست بذلك الشعور الرهيب، شيء ما يغمرني بحنان عذب، شيء ما يتسرب الى سمعي وكأنه صوت أمي التي غابت دون ان أودعها يهمس لي: «أهلاً بك في قلبي» أحسستها بذراعيها تحتوياني وتلصقاني بصدرها. آه ما ألذ ان تحضنك أم لحظة وصولك ونعاسك. ما أشهى ان تحس قبلاتها تدفئ وجنتيك وقلبها المفتوح يتسع لك كله، بهمومك الشاهقات التي لا ترى، بأحزانك الدامعات عصية الهطول وبفراغ قلبك رغم امتلائه.
صنعاء أحبتني منذ الوهلة الأولى لاحقاً كتبها لي صديق بإهداء كتابه صنعاء دعتني بإصرار ورفق ان أحبها منذ ان بددت خوفي من الانتظار. استللت أنفاس الراحة، انتشر بصدري التفاؤل كرذاذ بارد. تأكدت انني سأقضي الأيام سعيدة، وهيأت نفسي أن أرد جميلها منذ اللحظة الأولى، ان أنسف كل عوالق الهموم الباقية، ان أصفي ذهني ليكون مستعداً لاستقبال كل جديد من ثقافة، سياحة، معرفة ومحبة ايضاً.
> > >لم أفكر يوماً بزيارة اليمن، حتى حين تسنى لي ان أرافق ذات مرة بعيدة وفداً من رابطة الأدباء رفضت السفر، لا أدري لماذا وكم أنا نادمة الآن ولا أدري لماذا حين نفكر بالسياحة لا نفكر بدول الجوار أو البلدان العربية البعيدة. لماذا نهرع الى دول العالم ونصطفيها متصورين انها الأجمل والأكمل والأوفى؟ ثم حين نزور بلداً لم نهتم ان يكون على خارطة اسفارنا نفاجأ ونشعر بالأسى من تقصيرنا.
هكذا جاءت الدعوة الى صنعاء لتكون فاتحة خير، فرصة ان أرى اليمن الذي لا أعرفه، فرصة اخرى ان اشارك في ملتقى أكبر ضيوفه الكاتب الالماني الكبير غونتر غراس، وفرصة ايضاً لألتقي بأصدقاء من اليمن وآخرين كثر يلبون الدعوة مثلي من ارجاء الوطن العربي.
اطمأننت انني أحببت صنعاء في اللحظة الأولى وهي أحبتني، فردت شراع روحي يحلق في فضائها وأنا أقطع الطريق الى الفندق، رغم الارهاق والنعاس والجوع كان حنان صنعاء يتبعثر عليّ فأدلل قلبي «آه يا قلبي لا تحزن».
وصلت الى الفندق تاج سبأ الذي ظللت أنطقه تاج محل فيضحكون عليّ، وحين خرجت في اليوم التالي لأتمشى صباحاً وأبحث عن مكتبة ابتعدت فضاع مني طريق العودة صرت أسأل المارة عن تاج محل، ولا أحد يعرفه حتى تنبه أحدهم وهو يغفر لي خطئي: «أنت غريبة، هو تاج سبأ» ورافقني حتى وصلت.
كعادتي لا يمكن ان أنام أو آكل قبل ان أفتح حقيبتي أو أرتبها، ثم اندسست في الفراش وغبت في نوم عميق لم أصح منه إلا في الساعة الثانية عشرة والنصف. ماذا ينتظرني في هذا الملتقى؟ بحثت عن الأخت الشاعرة أمل جبوري «لم أكن أعرفها من قبل»، هي المسؤولة التي يجب ان أراجعها، استلمت ملف الملتقى والبرنامج والتقيت ببعض المنظمين: الشاعر علي الشلاه والشاعر اليمني الوديع احمد العواضي وغيرهما مما سخروا أنفسهم لخدمة الملتقى وللضيوف.
عادة أكره الفنادق الكبيرة، أكره وجبات البوفيه المتشابهة، لكن ما يحدث اننا نخضع لهذه التقاليد الواردة، عادات استبدتنا وساهمت في ان تفرض علينا قوانينها فرضينا بها، بل ربما حرصنا عليها بعد ان «أترفنا النفط». كان الجوع اخذ مني مأخذه، فأكلت بشراهة ضاربة بالريجيم عرض الحائط.
«باب اليمن» يفتح باب
الحب والحسرة
كنت قد وصلت صنعاء قبل الوفود كلها، ذلك بسبب ان الطائرة اليمنية تغادر من الكويت يوم 7/1 أو ان أغادر على الطائرة الكويتية يوم 13/1 وتكون عندها قد بدأت فعاليات الملتقى. لذلك غادرت مبكرة وكان هذا من حظي لأكون حرة في الأيام الأولى، ألتقط ما اشتهيه من جولات في المدينة القديمة وأسواقها. ويا لتلك المدينة وأسواقها، فلا تلوموني ان كتبت بهذا العشق عن اليمن، ففي قراها البعيدة وأحياء صنعاء القديمة ببيوتها الطينية المتلاصقة شبه كبير بالكويت القديمة. تلك البساطة في البناء، الروح الخالية من سيطرة الحديث والتزويق المفتعل، ثوبها القديم يطغى بلونه ورائحته وعفويته. الأطفال يملأون الأزقة الضيقة يلعبون حفاة احرارا من التجمد امام الانترنت وغيرها من الألعاب التي فصلت أطفالنا عن حصن الأهل. حظائر المعيز والأبقار والدجاج قرب البيوت تفوح روائح خيرهم، والنساء جالسات على دكة البيوت تواكب أنظارهم فلول السياح القادمين المنبهرين بكل شيء.
بيت ماركو وعرس الشيراتون
دعتني الصديقة الشاعرة أمل جبوري لسهرة في بيت سبق ان تعرفت عليه في زيارتها السابقة، اعتذرت بأنني لست مدعوة، فأنا انتقد من يدخل بيوت الناس بلا دعوة أو يفرض نفسه في ملتقى ثقافي دون دعوة، وهذا يحدث من بعض الكاتبات بالذات، مما يحرج المنظمين ويزعجهم، لكنها أكدت لي ان صاحب البيت قال لها ان تدعو من تشاء. وحمدت الله انني وافقتها ورافقتها، فقد عبرت بي الى أجواء ساحرة في بيت ماركو العجيب.
وماركو هذا خبير ايطالي في فن العمارة الطينية، يعيش لسنوات طويلة في اليمن، فقد كان والده طبيب الامام الخاص. اختار هذا البيت الرائع بطرازه اليمني القديم، ولم يفسده بأثاث حديث. لا نجد سوى: المطارح، الوسائد والسجاد، حتى معلقات الضوء سراجات قديمة. وتوزعت على الطاولات شمعدانات قديمة بشموعها التي أضفت جواً رومانسياً. امتلأت ارجاء البيت ذي الطوابق الثلاث بتحف نادرة خشبية وفضية، أبواب قديمة، صناديق، أوانٍ ومرايا ولوحات.
انه بالفعل متحف يحوي حضارة اليمن وتقاليده، لا مكان لأي جديد تنفر منه العين ويكسر جماليات العمارة، الحركة تغدو صعبة لكثرة الأشياء، حين تجولت فيه أرهقني السؤال: كيف تتم عملية التنظيف خاصة ان زوجته لا تشاركه الإقامة في اليمن. لم أترك السؤال يرهقني كعادتي سألته فضحك طويلاً قبل ان يجيبني:
يحتاج البيت لشهر كامل لتنظيفه لذلك تتغير العاملة في بيتي سريعاً، لا أحد يحتمل هذه المشقة.
كان ضيوف ماركو كثيرين ومن جنسيات مختلفة ومن أهل اليمن. كان د. عبدالكريم الأرياني المستشار السياسي لرئيس الجمهورية وكان مدير المتاحف والسفير الالماني وسيناتور صقلية وابنته المستشرقة فرانشيسكا قوراه وخليط العرب والفرنسيين والنمساويين والألمان، بعضهم عشق اليمن واستقر بها، وبعضهم يتواصل سنوياً بالزيارات اليها لشدة اعجابهم وعشقهم لها.
وإن كان ماركو قد تشبع بالطبائع العربية وأتقن اللغة الا انه تمسك بعادة من عادات الأجانب الجميلة، فالمائدة بسيطة رغم تعدد أصناف الطعام، لا بذخ ولا إسراف في كميات الأكل. كان تعليقنا نحن العرب انه لو كانت الدعوة في بيت عربي لطبخ أضعاف عدد المدعوين وأسرف. لقد أكلنا جميعناً وشبعنا وفاض القليل ايضاً.
عرس نسوي
في الليلة ذاتها كانت أمل مدعوة الى عرس يمني وطلبت مني ان أرافقها، وقبل ان اعترض أكدت لي انها اتصلت بأهل العرس ورحبوا بحضوري. كانت فرصة ذهبية لي ان أرى طقوس العرس اليمني لكن فجيعتي كانت كبيرة، إذ كان الحفل بالشيراتون، ولا شيء من الطابع القديم، لا الغناء ولا الرقص، ولا حتى ثوب العروس وبدلة العريس. وأكثر ما أحسست به من حرج ان العرس كان نسوياً وكل النساء منقبات بالسواد ما عداي، ما جعلني أبدوا نشازاً. وأسفت انني تركت بيت ماركو الذي اشاع الفرح والراحة بروحي، فقد قتل عرس الشيراتون تلك الفرحة.
> > >في الليلة التي وصل بها وفد «مؤتمر الديموقراطيين العرب» طلب من منظمي «ملتقى الرواية العربية والالمانية» ان ينتقلوا بوفدهم الى فندق آخر يبعد عن قلب المدينة وحركة أسواقها.
شعرت بالحقد ان يحتل السياسيون مكان المثقفين ولم أخجل ان أبدي استيائي وأنا أرافق وفداً عربياً في المصعد، فاعترض أحدهم: وهل تتصورين ان الوزراء غير مثقفين؟ قلت: قليل من الوزراء العرب خاصة وزراء الثقافة من يتسمون بذلك. هناك اعتبارات عديدة لاختيار الوزراء لا تكون ثقافتهم من أولوياتها. وبقدر استيائي من تغيير الفندق لأن هذا سيضطرني لمحنة إعادة أغراضي الى الحقيبة ثم إعادة ترتيبها هناك إلا انني ورغم حقدي على الوزراء المحتلين شكرتهم بحرارة حين وصلت واستقررت بالفندق الجديد «فندق شهران» الواقع في ضاحية «حدة» احدى ضواحي صنعاء الهادئة، والذي يحوي 35 غرفة فقط، وهو مبني على الطراز اليمني القديم وفيه كل ما قد يتمناه الانسان في الفنادق الكبيرة من الابرة حتى الانترنت.
في مدخل الفندق تجلس «شرطيتان» يمنيتان مهمتهما تفتيش الداخلين، كان الوفد معفيا من التفتيش، ولو فُرض علينا لما اعترضنا عليه، فمصائب الارهاب التي انتشرت في وطننا العربي والعالم بأشكاله المتعددة يجعل الاحتياط واجبا. كنا نشعر بالأمان دائما، ليس بسبب التفتيش ولا لأن سيارات الشرطة تتقدم الحافلات لتفسح لنا الطريق، بل كنا نشعر به لسبب واحد، ان اليمن بلد آمن نتجول فيه ليلا كمثل النهار دون خوف حتى وان تأخر بنا الوقت، وكان هذا الاحساس بالأمان مريحا تماما كما واني في الكويت الآمنة.
لفت نظري ونحن في الطريق الى فندق شهران، ذلك الجبل الغريب المنقسم وكأنه صدر امرأة، فقيل لنا ان هذا المكان يدعى «النهدان»، نسبة لشكل هذا الجبل، وهناك مكان يدعى «الردفان»، لا بد ان جبله يشبه الردفين، وآخر يدعى «العيبان»، ولا ادري ما اقترفه جبل ذلك المكان من عيب؟ ومكان آخر يدعى «الكوكبان»، ربما لأن جبله برأسين يضيئان كالكوكب، اسماء فيها شاعرية الضوء والجنس والجمال، واي جمال أحلى ان تُشبه الجبال بالنساء والكواكب، وقد لفتني ان الاسماء على وزن «إنسان» أكيدا ان الإنسان اليمني الذي لم يفقد انسانيته البكر ولا عذوبة روحه يستحق هذا البلد رائع الجمال، اللهم لا حسد.
زيارة المقالح
يوم السبت كان يوما مميزا، في الساعة العاشرة صباحا قمنا بزيارة الى مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي يرأسه الشاعر الكبير د. عبدالعزيز المقالح ، والداعي ايضا لهذا الملتقى، هذا الشاعر العذب الذي كان حريصا على الالتقاء بكل وفد يصل حتى وان كان في وقت متأخر من الليل يأتي الفندق، يرحب بنا ويثلج قلوبنا بهذا الود، كان حريصا على راحة الوفود، لم نشعر بأي نقص أو تقصير او ازعاج، كل الموظفين كانوا نشطاء في تحقيق الراحة والسعادة لكل فرد منا.
استقبلنا د. المقالح في مكتبه بهدوئه الشديد وبحزنه الذي أثار فضولي، حزن شفيف يبدو من العينين وفي الصوت، هل هو حزن الشعراء ام حزن الإنسان؟ هل هو حزن ولد معه واعتاده أم هو حزن سببته ويلات الحياة وهمومها؟ فضولي يتعبني في كثير من الأحيان بل يقلقني ويلح عليّ، فان أرضيته بطرح الأسئلة وسمعت الاجابات أخرسته وارتحت منه، وان لم احقق له هذا يظل يقلقني وقد تمضي شهور وسنوات قبل ان يلقى الاجابات وارتاح منه.
بعد ان شربنا القهوة اليمنية والشاي في مكتبه، قمنا بجولة في ارجاء مكتبة المركز المليئة بكل أصناف الكتب، قديمها وحديثها، عطور الثقافات من كل الجهات والاتجاهات الفكرية، عربية وعالمية تثير عبقها فينتشي العقل حتى دون ان يتيح الوقت فرصة لتقليب كتاب أو قراءة تعريف على الأغلفة الأخيرة، شعرت بالحزن، والمسؤول عن المكتبة وأرشفتها يقول لي: ليس لدينا شيء من كتبك، فأعلمته أنني احضرت معي مجموعة كاملة مهداة إلى المكتبة، وطمأنت نفسي ان كتبي ستحظى بالشرف الكبير حين تجد لها مكانا بين روائع ابداعات الإنسان من كل مكان.
سوق باب اليمن
اليمني أبي النفس رغم حاجته للزبون، إن دعاك وتجاوزت حانوته فلا يغضب، وان دخلت عنده ولم تجد حاجتك يدلك بصدق على حانوت آخر يبيع البضاعة التي تريدها. ولا يخلو طبع اليمني من الطرافة والفطنة فهو ذكي بالفطرة يفهم الإشارة بلبابة نادرة، وهو مثله مثل كل «فحولات الرجال العرب» يعشق الجمال، يهدي كلمات الغزل الجميل لكن دون وقاحة ولا خروج عن الأدب، ولا يستغل الزحام لتمتد كفه بحركة شائبة.
ما ضايقني في البدء أنهم حسبوني أجنبية فكان الغزل بلغات عديدة التقطوها من السياح ورفعوا سعر البضاعة، وما ان تكلمت العربية حتى تغير الحال وأرضى غروري.
وفي السوق اليمني كما في الاسواق العربية القديمة الممتلئة بالسياح، الفصال في الشراء يجعل السعر غير ثابت، وان كان اليمني لا يتهاون مع السائح الغريب إلا انه مع العربي غير ذلك فهو كريم، وبعد ان تشتري حاجتك منه يقدم هدية صغيرة بحجمها، كبيرة في معناها.
سوق «باب اليمن» من الأسواق المذهلة التي لا يمكن لك ان تمل منها او تنساها، لا يمكن لشيء ان يعبر عينيك عبور الكرام، كل لقطة ترسخ جمالها في عدسة عينيك وانت تلتقطها بعدسة الكاميرا، كل جماليات البناء يتشبع بها وجدانك العاشق لكل قديم لم يفسد.
كل رائحة غريبة او أليفة تفوح من الحوانيت، من الأرض المتربة، من الناس الذين يمرون تزاحمهم ويزاحمونك، روائح لا تثير التقزز والضيق، وبصدق أقول لم تلفتني ظاهرة الروائح البشرية في اليمن كما يحدث في المدن والبلدان الاخرى، لم أنفر لأنني لم أشتم ما ينفر وان كان الشكل الفقير ربما يوحي بذلك. حيرتني هذه الظاهرة، وان كان من السخف ان أتحدث عنها، ظاهرة أحسها غيري من الوفود.
الزيارة لذلك السوق لا تشبعك، تجد نفسك مشدودا للتجول فيه ثانية. هناك أسواق اخرى تعج في الليل بروائح الخضرة والفواكه والبهارات ولا تفقد فيها إلا مقاهي الرصيف التي تقدم «الشيشة» ويبدو انها لا تلقى الاهتمام الكبير من اليمنيين، وقد يكون القات هو الأثير بطقوسه المعتادة، لكن إلحاح من يطلبها يتحقق لأن اليمني صاحب المقهى البسيط لا يريدك ان تغادر مقهاه ولك أمنية فيه لم تتحقق.
مقيل النساء..
لا يقتصر مقيل القات على الرجال وحدهم، ولأن الاختلاط غير وارد فقط اهتمت النساء بإقامة مقائلهن الخاصة التي يتجمعن فيها. هكذا دعيت وزميلاتي الكاتبات «لمقيل نسوي ثقافي» ضم العديد من المبدعات، شاعرات، قاصات وروائيات، فنانات تشكيليات، باحثات وأستاذات في الجامعة. أغلب تلك الوجوه كنا نلتقيها في ملتقى الرواية لكننا تشككنا بمعرفتهن داخل بيت المقيل فقد تغيرت الأشكال والملامح، في الملتقى محجبات ولا أثر للماكياج على وجوههن. وفي المقيل كان الجمال الالهي المستور يكشف عن نفسه بالملابس الزاهية وتسريحات الشعر.
ومقيل النساء لا يختلف عن مقيل الرجال، الجلوس على المطارح الأرضية، النبات يوزع بأكياس النايلون الشفافة بعكس مجلس الرجال حيث توضع مثل مداور الجت أمام الجلوس. «للمرأة دائماً تفانينها» وتبدأ النساء بالتخزين، بعضهن اعتدن عليه والبعض الآخر لا يمارسنه. البعض يؤكدن ان للقات مردوداً ايجابياً على المرأة أكثر من الرجل، والبعض لا يؤثر عليهن ويمارسنه بفعل العادة.
لم أجد رغبة في التجريب ثانية، لكن الإلحاح جعلني وزميلاتي نجامل الداعيات بشيء بسيط سرعان ما بصقناه.
ولا يقل مقيل النساء المبدعات عن مقيل الرجال المبدعين أهمية، فهن لا يسرفن الوقت كله للحديث الاعتيادي أو إلقاء الطرائف، بل يقرأن الشعر، يتبادلن الاصدارات، يناقشن كل ما يهم المرأة والمجتمع من قضايا. ثم لا يمنع الأمر من بعض الطرب والرقص «روحوا القلوب ساعة بعد ساعة» ولا حرام في ذلك.
قضينا ساعتين في مقيل النساء، وغادرنا الى الملتقى سريعاً، فقد كانت الجلسة الأخيرة وقراءة البيان الختامي بانتظارنا. عدنا محملات باصداراتهن الجديدة وهداياهن ايضاً
نكد نرتب حقائبنا في فندق شهران الجميل ونرتاح حتى فوجئنا بطلب ترتيبها مرة أخرى، فغدا نغادر إلى حضرموت، وحين نعود إلى صنعاء سننتقل إلى فندق آخر - الشيراتون - لعله الشيء الوحيد الذي كان يعكر صفو الرحلة، فالانتقال من فندق إلى آخر بالنسبة للضيف ليس أمرا سهلا، فقد كان لدينا كميات من الكتب، سواء كتبنا التي حملناها لنهديها أو تلك التي أُهديت لنا خلال الأيام الثلاثة ثم تلاها بعد ذلك. هذه الكتب احتاجت لإضافة حقيبة أخرى مما ضاعف الحمل، وزاد في تعب الترتيب، وقد لا تشكل العملية همّا للرجال - المحترمين - فهم بالطبع لا يحتاجون ما تحتاجه النساء - المحترمات أيضا - من ملابس وأغراض و«نثريات نسائية» نحرص عليها لتكمل الأناقة.
كثيرا ما أتمنى لو أسافر بلا حقائب، أرتدي بنطلون «الجينز والتي شيرت» وحذاء الرياضة، وأظل طوال الرحلة حرة من كل شيء. لكن هذا مستحيل أن يحدث، خاصة أنني قد مررت بتجربة مريرة يوم وصلت اسطنبول ذات مرة ولم تصل الحقيبة ففسدت كل رحلتي رغم أنني اشتريت الضرورات من هناك.
الحقيبة صديقة رغم متاعبها ويدرك قيمتها من تضيع حقائبه. الطريف الذي حدث في الرحلة أن حقيبة الأديب الجزائري - مرتاض عبدالملك - لم تصل، وحقائب الروائي العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي وصلت قبله فقد تأخر عن الوصول أياما بسبب مشاكل الفيزا، وظللنا نمازح مرتاض الذي هو معروف بأناقته أن يرتدي ملابس عبدالرحمن فيقول: هو طويل وأنا قصير! ثم انه أبدى نشاطا كبيرا وكان - رب بيت - ناجح، يغسل قميصه وجواربه وملابسه الداخلية ليلا ويلبسها في اليوم التالي. قال: في الأمر مشقة كبيرة، قلت: حتى تعرفوا أنتم الرجال ما تقوم به المرأة من مشقات.
في اليوم الأخير للرحلة وصلت حقائبه، كان يحمل لأصدقائه - مثلي وغيري - كمية من برتقال الجزائر الكبير، لكن البرتقال فسد وبدا مرتاض في الليلة الأخيرة سعيدا بأناقته الجديدة.
كان علينا أن نغادر الفندق إلى المطار في السابعة صباحا، ورغم أننا لم نكن شبعنا من النوم بعد، إلا أن الوفود كانت نشيطة، ملتزمة بالمواعيد، فالأجانب بطبيعتهم حريصون على النظام، ونحن بدورنا العرب أردنا أن نثبت أننا شعوب حضارية تحترم الوقت. كان للانسجام والحب والألفة بين الجميع دور كبير في جعل أجواء الرحلات سعيدة ولطيفة وأجواء الملتقى حميمية ونشاطا.
«لا تعرف صديقك إلا في السفر» لم يكن بين الوفود من هو نشاز أو ثقيل أو متعال أو حاسد أو متذمر من أبسط الأشياء، ولا أنكر هنا أن الموظفين المناط بهم التنظيم كانوا يساهمون في تسهيل العوائق وإشاعة الراحة في نفوس الجميع.
من الطائرة تأملت صنعاء الحنون، شعرت بأن حبال وصل متينة تربطني بها، ماذا صنعت بي صنعاء؟ ماذا غرست في قلبي من شتلات؟ وما الذي ستحفره بقلبي بعد ذلك من ذكريات وجمال؟ وما الذي سأشاهده في «مدينة سيئون وشبام وتريم» ليجعلني أغطس أكثر في حب اليمن وأهل اليمن؟
فن العمارة
يبدأ التفاؤل من الفندق، كان المقر - قصر الحوطة أو الحوطاء - الذي يذهل من اللحظة الأولى قصر بُني من الطين والطمي، يبرز فن العمارة العريق في وادي حضرموت، يقع وسط واحة من النخيل مغطاة بالأشجار والخضرة ونماذج من النباتات المحلية النادرة. في ممراته الواسعة والضيقة تكشف فنون العمارة وأناقة الأبواب القديمة. أما الغرف فهي غاية في الجمال، كل ما تشتهيه النفس من جمال الأثاث، صندوق قديم، أريكة عربية مفروشة بالسجاد اليمني والنوافذ صغيرة يعتليها تاج الزجاج الملون مما يضفي على الغرفة أجواء الخيال الشهرزادي. ولا ينسى اليمنيون أصول الضيافة، في كل فندق دخلناه كنا نجد طبق الفاكهة والحلوى وقوارير الماء.أما الملاحظة المهمة التي أسعدتني في اليمن فهي الحرص على وجود «الشطافة اليدوية» ليس في الفنادق فحسب، بل حتى في المطاعم وأماكن السياحة مما وفر لنا الراحة الجسدية والنفسية.
بعد الاستراحة توجهنا في العاشرة إلى مدينة شبام للاطلاع على المعالم الأثرية والعمرانية القديمة ولقاء غونتر غراس ببعض أساطين البناء المختصين بالعمارة الطينية0 ومدينة شبام منطقة في محافظة حضرموت يسكنها 50 ألف نسمة، فيها أربعة تجمعات حضرية واحد منها هو المدينة التاريخية التي تعدها منظمة اليونسكو تراثا عالميا نادرا.
عليك أن تقطع المسافة مشيا على الأقدام في أزقة ضيقة ترابية تصطف البيوت الطينية على جانبيها، وطبعا يحتفظ كل بيت بحظيرته. رائحة التراب المتطاير وروائح الحظائر تنتشر لكنك أبدا لا تشعر بالضيق فبالك واهتمامك ينصبان على جمال العمارة وما حولك من أطفال كثيرون ذكورا وإناثا لا أحد يقلق جمعهم ويفرق بينهم باسم العيب أو الحرام، طفولة تنشأ سليمة في التعرف على بعضهم دون خوف أو عقد أو عُصي تلسع القلوب.
صلابة الأرض.. والرجال
تجولنا في المكان، دخلنا أحد البيوت القديمة الأشبه بمتحف، لكن ارتفاع الدرجات وضيق المكان جعلني ومثلي - من يعانون ضيق الشرايين بسبب التدخين - جعلنا نكتفي بالدور الأول. خرجت إلى الأطفال، جلست معهم على دكة أحد البيوت، صورتهم وتصورت معهم، حاورتهم، طلبت منهم الغناء فغنوا وغنيت معهم. كانت معي الفنانة اللبنانية جاهدة التي كانت حريصة جدا من الأتربة المتطايرة حتى لا يتعب صوتها، رغم ذلك غنت مع الأطفال. لاحظت أن أكثرهم حفاة يغطي التراب تفاصيل أقدامهم، ولم أستغرب ذلك فقد كانت طفولتي في الكويت القديمة مشابهة لطفولتهم، أخذنا من الأرض مناعة وجلدا. اعترضت فقط مرة على أحد الآباء وهو يمسك بكف طفله الصغير ونحن في «سوقطرة» الأرض جبلية قاسية، قلت له : لماذا تدعه يمشي على هذه الأرض حافيا؟ غضب من سؤالي وقال: هذا ابن الجبل لا تهمه قسوة الأرض. ربما هو على حق فلا تأتي صلابة الرجال إلا من صلابة الأرض، وتذكرت مثلا تونسيا «ما يتفرس إلا إذا تهرس» أي لا يصبح فارسا إلا إذا هرسته الحياة.والأطفال حولي تغمرني السعادة طلبت منهم أن يغنوا أغنية وطنية، ففوجئت بهم ينشدون أغنيتنا «يا كويت يا رمز الحياة، كلمة جريئة شعلة مضيئة يا كويت» ضحكت وجاهدت، قلت لهم أريد أغنية وطنية يمنية ففعلوا دون أن أحفظ الكلمات ثم سألتهم أن يقرأوا ما يحفظونه من سور القرآن الكريم وكنت أقرأ معهم، وحين تلكأ أحدهم بآية الكرسي أكملتها عنه فاستغرب وقال: كيف وأنت كافرة تحفظين القرآن؟ قلت : وكيف حكمت علي بأنني كافرة؟ قال: لأنك تخرجين دون حجاب.
قد يفرح الآن المتزمتون أن طفلا يعطيني درسا في الإيمان، لكن ما حدث بعد ذلك سبب لي رعبا تجاه هذه الطفولة البريئة حين سألت الأطفال : هل تفرحون بقدوم السياح؟ صرخوا بصوت واحد: نعم نفرح بالسياح العرب. قلت : والأجانب؟ صرخوا جميعا: لا لا هؤلاء كفار. من قال لكم هذا؟ قالوا: المطوع يقول. سألتهم : هل تعرفون سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام؟ هل تعرفون سيدنا موسى عليه السلام؟ أجابوا بنعم فأكملت : وما هو كتاب عيسى وموسى؟ أليس التوراة والإنجيل كتابي هذين الرسولين فهل تسمونهما كافرين؟ هما من أهل الكتاب الذين دعا ديننا الإسلامي الكريم الى أن نتعامل معهم معاملة حسنة ونحترم أديانهم ومشاعرهم؟ تألمت لهؤلاء الأطفال. ماذا غرس هذا المطوع وسواه في عقول الأطفال هنا وهناك في كل بلداننا العربية الإسلامية؟ أي زرع سيفجر ألغام الإرهاب والأحقاد والكراهية التي تنشر سمومها بين البشر وتعطل ركب التطور والتقدم وتثير الحروب والويلات؟ حزنت على الأجيال القادمة، تلك الورود التي يمتصون عطر عقولها ليملؤوها برائحة البارود.
مدينة تريم
بعد هذه الجولة وبعد وجبة الغداء توجهنا إلى مدينة - تريم - لمشاهدة القصور الطينية ومعالم المدينة الأثرية، وتعتبر هذه المدينة من أشهر المدن اليمنية التاريخية التي تزخر بالموروث الثقافي المتنوع، لذلك اندرجت ضمن المدن التاريخية اليمنية في قائمة التراث العالمي، وحظيت باهتمام المنظمات الدولية.حين زارها الكاتب الكبير غونتر غراس في العام السابق قرر أن ينشىء مدرسة لفن العمارة لتخريج أجيال تعتز بتاريخها وتواصل البناء الطيني واختار مركزا لذلك في قصر السلام أطلق عليه «مركز غونتر غراس للعمارة الطينية» وقد تم الافتتاح في الساعة الرابعة والنصف عصرا بكلمة من د0عبدالكريم الأرياني ثم كلمة غونتر غراس.
بعد ذلك استمعنا إلى الشعر الشعبي ثم استمتعنا بالموسيقى والرقص اليمني الشعبي الشهير. كان اليمنيون حريصين على التعريف بفنونهم شعرا، غناء ورقصا. في كل تنقلاتنا من مدينة لأخرى كانت تستقبلنا الفرق الشعبية بأهازيجها وفرحها مما يثير البهجة في قلوب السكان وقلوبنا. تلك البهجة كانت كفيلة بأن تنسينا تعب التنقل وصعوبة المشي على التراب والأحجار.
في مدينة تريم عدد كبير من المساجد الطينية القديمة التي تشتهر بها المدينة، ولذلك قامت الباحثة المعمارية - ريم عبدالغني - زوجة الرئيس اليمني السابق علي ناصر بإعداد كتاب علمي تاريخي عن المساجد يحتوي على مقدمة تاريخية عن حضرموت ومنها - تريم - وتوثيق شامل لجميع المساجد التي تتجلى من خلالها عظمة وروعة فنون المعمار الطيني وعبقريته ك«منارة المحضار» التي تعتبر أعلى منارة طينية في العالم. سيصدر الكتاب خلال الأشهر القادمة ليقدم نموذجا لنشاط واهتمام المرأة واعتزازها بتراث وطنها.
اليمن يهدي الفرح
لا يترك لك اليمنيون مسافة ما بين الفرح والفرح، الكرم والكرم، يأخذونك حيث لا تدري وتفاجأ بالمكان. كل يوم مفاجأة وكل رحلة اكتشاف وكل اكتشاف إضافة للعقل والقلب والوجدان وإثراء لزمن قادم نكون فيه أو لا نكون، لكنه يبقى عبر الكتابات لأجيال قادمة نتمنى أن تحب أوطانها وتبذل روحها لأجل أن تعيش هذه الأوطان بخيرها، سلامها، أمانها، حرية إنسانها وحرية فكرها.في اليمن نسيت كل أحزاني، نسيت وجه رجل أحببته ولايزال يتربع في قلبي وقلب أولادي، لأنني هناك أحببت كل الوجوه فاتسع القلب لها، وأَحب كل الأمكنة فتمددت بروحي على عشبها وترابها وحنان قلوب ناسها الذين كانوا كرماء في هداياهم في كل مكان نزوره كما كانوا كرماء بالحب والترحيب.
سوقطرة المفاجأة
ماذا ينتظرنا بعد؟ كان يوم الاثنين 12/1 هو يوم المفاجأة الكبرى، يوم الأحلام والجمال، كان السفر إلى جزيرة «سوقطرة» الحالمة وسط المحيط. أقلتنا طائرة خاصة إلى هناك. في داخلي توقعت شيئا كبيرا فقد اعتدت خلال الأيام السابقة أن أتوقع كل جديد مثير. كنت واثقة من أنهم لا يتعبوننا بالسفر والتنقل لأجل شيء اعتيادي رأته العين في أسفارها أو قرأت عنه.من المطار ركبنا سيارات الجيب التي كانت مهيأة بالماء وعلب الكلينكس فهي ضرورية للطريق الذي استغرق ساعتين ونصف الساعة، قطعنا المسافة المرصوفة أولا بمدة ربع ساعة ثم أخذ الطريق شكلا آخر. السيارات تسير على الحجارة والصخور في طرق ضيقة رهيبة بين الجبال والبحر والأشجار ومنظر الوديان المخيف تهزنا هزا لا رأفة فيه، وتمتلىء أنوفنا وصدورنا بغبار الأرض لكننا ننسى التعب وغصتنا في التراب، فقد هبطنا من الطائرة إلى قطعة اقتطفها الله الحنون من الجنة وأهداها إلى اليمن التي تستحق الهدية.
عذراء وفحولة المدينة
آه يا سوقطرة! ماذا فعلت بي؟ يا حلما لم يراودني يوما، يا شادية بين الجبال العالية، يا صمت البكارة الخجلى التي لم تمسها فحولة المدينة وأنيابها، ضاوية بالغيم، معربشة بالأخضر والأزرق، ناعسة تحرسها جبالها، رجالها الشاهقون العاشقون ونخيلها المحتار ما بين نسمة تزف إليه الندى وريح تزأر في قلبه. يستقبل أطفالك السياح بتلويحة أكفهم السمر، أبرياء من سموم المدن وصراعات جشعها غيومك إكليل الجبال وحصاك نعالها الحنون.كيف يا سوقطرة انبثقت من جوف الأرض؟ أمرجان أنت تحدى العمق وانفرش جميلا؟ أم لؤلؤة نادرة عافت صدفتها لتتعرى طامعة بصدر السماء وشفاه القمر؟ هل أنت جنية البحر أم تراك عروسته التي تاقت روحها إلى الضياء ! كم أنت باهية رائعة كقلب الأم حين يحضن ابتسامة الطفل البكر.
بيوتك تشم كل فجر رائحة التنور وأقراص العجين المخمر بانتظاره ثغور الأطفال الناعسين، تكفكف الأم جوعهم وتنثر للطيور بقايا الفائض من خبز يابس، ويا لضفافك الزرقاء تورق أجمل الدرر، صخورك الحمراء والبيضاء، قواقعك، مرجانك قلوب نساء تترامى مكشوفة لفضول العيون، تتشهى الأكف أن تلمسها، تسرقها وتخبئها، تهرب بها بعيدا لتكون " تحفا " ترص على المناضد والرفوف، لكن عيون حراسك واعية تحميك، تصادرك فيبكي كل من فقدك.
إيه سوقطرة: من لي ولو بخيمة صغيرة أسكنها هنا بين بحرك والجبل أو تحت «دم الأخوين» (شجرة قايين وهابيل) في - حم حل - 3 (المنطقة الاعلى في الجزيرة التي تناولنا فيها طعام الغداء) أصلي لبهائك ولله الذي صنع هذا الجمال. فكي يا سوقطرة حبالك كلها وضفائرك، قيديني بها، أسجنيني في قلبك، لا أريد حرية الدنيا كلها، أريد قيدك، سجنك. آه كم يكون السجن شاسعا وسعيدا في قلبك؟ أي حجة إذن أبتدعها لأظل في حضنك؟ هل أحب رجلا فيك لأبقى؟ أم أتحول رجلا لأحب امرأة فيك وأبقى؟ لن تثمر أحلامي بالبقاء، لقد خلقك الله بعيدة ليعبرك السائحون والعاشقون ويرحلوا كي لا يلوثوا طهارتك وجمالك.
سوقطرة : يا بهاء الدنيا، كحلها، فضتها، زينتها، ورودها والينابيع، أحبيني مثلما أحببتك، ناديني مرة أخرى لأرتدي من غيمك سترة طفولتي المحرومة وصباي السجين وعمري الذي يشيخ الآن، أفرشي لي عشبك ورملك، دثريني بشعر نخيلك الحنون، سرّبي إليّ أحلام نسائك الصامتات أتجول في جنانها، ألتقط لي زوادة للرحيل. كم أحبك وأنا في قلبك الآن وغدا حين أكون بعيدة عنك سأحبك أكثر وكل السنين القادمة.
سوقطرة: أنت في البحر قلب أم وفي القلب أنت أشهى الرجال، أودعك الآن وأنسى قلبي كله بين ذراعيك، صكي عليه، قبليه كل ليلة ليظل يخفق فأعيش حتى وأنا بعيدة عنه. ويذكر ان سوقطرة محمية لا يسمح للسياح بأخذ شيء من روائعها البحرية النادرة.
مقيل القات تجربة مرة وحلواها الشعر والأدب
زرنا «مقيل» د. المقالح بدعوة كريمة منه، سعدت بهذه الدعوة سعادة كبيرة، فقد كان لديّ فضول كبير وشغف عجيب لمعرفة طقوس المقيل، والتعرف على هذا الذي تنفرد فيه اليمن، وتهدأ فيه فترة القيلولة هدوءاً ملفتاً، ما هو شكل النبتة وما طعمها؟ وكيف «يخزن» في الفم لساعات طويلة؟ ما تأثيره على الإنسان سلباً أو ايجاباً؟ ما هو مفعوله عليهم رجالاً ونساء؟ هل هو نوع من المسكرات المحرمة أو هو لمجرد المتعة كالشيشة؟ أسئلة كثيرة كانت ترادوني مسبقاً، وها قد جاءت الفرصة لأرى بأم العين ما يطفئ لهيب الأسئلة. كل واحد من الوفود كان يسأل الآخر: هل سبق ان جربت هذا؟ وهل تنوي ان تجرب؟ تفاوتت الإجابات لكن المحك كان حين ولجنا المقيل الذي امتلأ بنا وبمن سبقنا من شخصيات ثقافية وسياسية وشعراء وغيرهم، المكان واسع، الجلوس على الأرض فوق المطارح والشجيرات الصغيرة توزعت أمام الجالسين.أول ما بهرني شكل النبات، كنت قد تصورته أشبه بالبقدونس أو الكزبرة بالحجم وشكل الورقة، لكنني رأيت شيئاً مختلفاً هي اغصان من شجر طويل، رأيته لاحقاً في احد البساتين، الأوراق السفلى كبيرة وصلبة، والأعلى صغيرة طرية وكأنها زهرات النبتة وهي التي تخزن وتخرج العصارة.
هناك مثل في ايطاليا يقول: «إذا كنت في روما فافعل ما يفعله الرومان»، الفضول الانساني لا يقف عند حد، وفكرة التجريب لكل جديد لا تترك لك خيارات إلا ان تجرب، خاصة انه ليس نوعاً من الحشيش أو الافيون.
تلامزنا وتهامزنا وتشاورنا بالهمس قبل ان نقدم على التجربة. ما كدت اضع وريقتين صغيرتين وأمضغهما حتى شعرت بالطعم المر ينتشر في فمي رغم عطر النبتة المقبول. بصقته في ورق الكلينكس فلم أكن مقتنعة بمهمة «المباصق» الموزعة أمامنا. فعملية «البصق العلني» فيها لم تعجبني وقد أثارت لدي بعض التقزز.
ليس المقيل وقتاً للتخزين فقط، انه أشبه بملتقى أدبي ثقافي وسياسي، ربما في صفته العامة يشبه الديوانيات في الكويت والتي لا يسمح فيها بوجود النساء.
في المقيل تتشعب الأحاديث وتطرح الآراء وتناقض السياسات وتستعرض الاصدارات الجديدة ويتم الحوار حول كل الشؤون والقضايا. ولأن مقيل د. المقالح يستقبل ضيوفه المدعوين، فقد كان لنا نحن النساء حظوة في دخوله، ولأن أغلب الضيوف لم يزر اليمن من قبل فقد ارتأى صاحب الدعوة ان يعبر كل منا عن مشاعره الخاصة لهذه الزيارة، هكذا بدأنا.
وكان من الشعراء الموجودين من عبر شعراً مما صاغه جديداً أو مما كتبه في زيارة سابقة. وأبدع بذلك الشاعر الكبير سليمان العيسى. ساد جو الحب والتنافس في إعلان المشاعر الصادقة، فأنت في اليمن لا تجد نفسك مضطراً للمجاملة الفجة لأنك حقيقة تحس بالحب لهذا البلد ولأهله، ولأنهم يتعاملون معك بصدق فلا تسول لك نفسك ان تكذب عليهم وتخدعهم بالكلمات فهم فطنون أذكياء ولا يغرهم الثناء الذي لا يأتي من القلب.
«باب اليمن» يفتح باب الحب والحسرة
كنت قد وصلت صنعاء قبل الوفود كلها، ذلك بسبب ان الطائرة اليمنية تغادر من الكويت يوم 7/1 أو ان أغادر على الطائرة الكويتية يوم 13/1 وتكون عندها قد بدأت فعاليات الملتقى. لذلك غادرت مبكرة وكان هذا من حظي لأكون حرة في الأيام الأولى، ألتقط ما اشتهيه من جولات في المدينة القديمة وأسواقها. ويا لتلك المدينة وأسواقها، فلا تلوموني ان كتبت بهذا العشق عن اليمن، ففي قراها البعيدة وأحياء صنعاء القديمة ببيوتها الطينية المتلاصقة شبه كبير بالكويت القديمة. تلك البساطة في البناء، الروح الخالية من سيطرة الحديث والتزويق المفتعل، ثوبها القديم يطغى بلونه ورائحته وعفويته. الأطفال يملأون الأزقة الضيقة يلعبون حفاة احرارا من التجمد امام الانترنت وغيرها من الألعاب التي فصلت أطفالنا عن حصن الأهل. حظائر المعيز والأبقار والدجاج قرب البيوت تفوح روائح خيرهم، والنساء جالسات على دكة البيوت تواكب أنظارهم فلول السياح.تشبعت بهذا العطر الذي لا يختلف عن روائح الكويت القديمة، ذلك الزمان الذي مضى وترك في العمق حناءه وأوشامه الجميلة وذكرياته. ليس المكان وحده بل هو الانسان اليمني الطيب الخلوق البسيط بساطة الماء في الجداول، المعبق طيبة كما الرغيف الساخن يخرج من قلب التنور. الإنسان اليمني ظل نقيا لم تلوثه الحياة بعد، لم يكسر صلابة روحه الترف الزائف ولم يتغلغل حقد المدن الحديثة الى قلبه فيفسد روحه المجبولة بالطيبة والتواضع والأمانة، ولست أبالغ في هذا فشعب اليمن الشقيق ليس غريبا عنا نحن الكويتيين، فمنذ ان وعيت وأهل اليمن يعيشون ويعملون في الكويت وكان لهم سوق «سوق المهرة» الذي كنا لا نستغني عن الشراء منه حتى بعد ان من الله علينا بالخير، وكانوا مسالمين لم يحدث ان اشتكى احد من وجودهم، لا مشاكل سياسية ولا أخلاقية، آمنون في وجودهم، ائتمنهم الكويتيون على بيوتهم وأموالهم، وقد عُرف عن اليمني أمانته ووفاؤه لكل بيت عمل فيه. هناك شيء ما يجذبك اليه وكأن ضفيرة من الاطمئنان تجدلك به. أحببنا اليمنيين في بلدنا. وهناك في اليمن أحببناهم أكثر، أحببنا الشعر اليمني وحفظناه واستقبلنا شعراءه الكبار في محافلنا الثقافية كالشاعر الراحل الكبير عبدالله البردوني. أحببنا الفن الشعبي اليمني ورقصاته المميزة، أحببنا الغناء اليمني بكبار مطربيه مثل أحمد قاسم، أبو بكر سالم، كرامة مرسال، عبدالرب ادريس وغيرهم.
في اليمن لا تقابل وجها إلا وتحبه، يستقبلونك بابتسامات حقيقية تعكس فرح قلوبهم، لا يعرفون المجاملة في الحب ولا في التعامل، يفرحون بالضيف، يتحسسون مشاعره تجاه بلدهم، يسترسلون في الحديث فلا تحس حواجز سوداء او بيضاء تفصلك عنهم. يحبون الكويت حبا حقيقيا بعيدا عن السياسات المدمرة والمواقف الطارئة.
كانت الجولة الأولى في المدينة القديمة «باب اليمن»، هذا الباب الذي كان «الإمام يغلقه ويضع مفتاحه تحت رأسه وينام ولا يهمه ان تعطلت حياة الناس وارزاقهم.
حين دخلته شعرت بالفرحة، تذكرت «سوق دعيج» و«سوق واجف» في الكويت القديمة، وملأتني الحسرة على تلك الاسواق التي أزالوها، وكانت تشبه هذا السوق رغم فارق المباني القديمة والآثار لحضارة أصيلة حافظوا عليها فصارت قبلة للسائحين من ارجاء العالم ومصدرا من مصادر اقتصاد البلد، وان كانت كل اسواق المدن القديمة تتشابه الا ان هناك فروقات تترك لكل سوق خصوصيته المتفردة في بنائه وبضائعه.
وسوق اليمن يشتهر بالفضة من مصاغات وأوان جميلة، وكذلك «بالجنبيات» قديمها وما صنع حديثا منها، و«بالشالات» المطرزة تطريزا دقيقا بألوان مدهشة ومنسجمة، بالبخور والمباخر وبالعسل «الدوعني» ويحتار السائح ماذا يحمل معه. كل شيء يغري بالشراء حتى «المكنسة الخوصية» البسيطة التي لم تسلم من رغبتي في اقتنائها فحملت واحدة معي. في السوق تتناغم اصوات الباعة، يؤهلون، يرحبون، يدعونك لدخول حوانيتهم دون ان يزعجوك بالإلحاح اللزج كما في بعض المدن الأخرى.