نجم الليل
17-08-2022 - 07:30 am
أخواني أعضاء منتدى العرب المسافرون وأخص منهم أعضاء بوابة إندونيسيا .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:
منذ أشهر وأنا عاكف على تأليف كتاب عن تاريخ الأرخبيل الإندونيسي، وبما قمت به من مجهود في البحث والتحري طالع مباحث على غفله من خلال مراجع عدت إليها، خرجت بحكايات لا حصر لها عن هذه البلاد التي لم أكن أتخيلها سوى رقع من اليابسة محاصرة بمياه البحار من كل صوب، لا تعلم شيئاً عن العالم ولا العالم يدري بوجودها يعني كافه خيرها وشرها .. وهذه الحكايات التي خرجت بها تجسد تاريخ عريق يستحق أن ينال فصلاً كبيراً في تاريخ العالم .. ولا أُطيل الفلسفة، لأنني أدرك تمام الإدراك أن لا أحد يحب الفلسفة مثلما لا أحبها أنا .. ولكن أختصر الكلام هنا بأنني سأعرض شيئاً مما توصلت إليه، وسأعرضه في سلسلة أجزاء، راجياً أن أقدم شيئاً لمنتدى العرب المسافرون وأعضائه الكرام الذين لم يبخلوا علينا ذات يوم بأي معلومة أبد ما نترك الفلسفة .. وأول موضوع عن تاريخ إندونيسيا هو (تاريخ الإنسان في إندونيسيا)
التوقيع أخوكم الصغير نجم الليل.
الإنسان الأول:ترجح دراسات الباحثين في تاريخ الإنسان في إندونيسيا، أن قدم الإنسان قد وطئت هذه الجزر قبل ملايين السنين .. وقد عثر فريق بحث (إندونيسي إسترالي) على سبعة هياكل عظمية عمرها 18.000 سنة، تعود ل"إنسان فلوريس" أو "الإنسان القزمي"، ذلك المخلوق البشري الصغير الحجم الذي لا يتعدى طوله متراً واحداً، ذو العيون الكبير والجسم المغطى بالشعر والذراعين الطويلتين والدماغ الأصغر من دماغ حيوان "الشمبانزي"، الذي احتضنت جزيرة فلوريس حياته منذ نشأت حياته على الجزيرة قبل مليون سنة حتى انقرض قبل 12.000 سنة إثر انفجار بركاني هائل قضى على صور الحياة في الجزيرة التي ألف العيش بها.
ويذكر الباحثون أن الوجود الأخير ل"إنسان فلوريس" تزامن مع وجود الإنسان الحديث في جزيرة فلوريس، وقد تناقل الإنسان الحديث قصص غريبة عن "إنسان فلوريس"، منها أنهم كانوا قوماً منعزلين يسكنون كهوف الجبل البركاني، ويتكلمون بلغة غريبة، ويعرفون من قبلهم ب(أيبو جوجو) أو كونهم عصابات اعتادت سرقة محاصيل وفواكه الإنسان الحديث.
كما عثر الباحثين مع الجثث السبع ل"إنسان فلوريس" على أدوات حجرية معقدة يستخدمونها في حياتهم اليومية، تؤكد تمتعهم بالمهارة في القيام بالحرف اليدوية، ومن تلك الأدوات ما تساعدهم في صيد الحيوانات مثل: الفيل البدائي القزم والفئران العملاقة وسحالي كومودو الضخمة، وكذلك أدوات الذبح والطبخ .. كما أكدت الدراسات أيضاً استخدام "إنسان فلوريس" للنار في الطهي.
وتبقى مسألة من أين أو كيف أتى "إنسان فلوريس" لجزيرة فلوريس أمراً محيراً لم يجد العلماء له إجابة.
كما أن هناك اكتشافات أخرى لأسلاف الإنسان في إندونيسيا والتي منها نوع "هومو إركتوس" الإنسان المنتصب ، الذي عثروا له على بقايا في جزيرة جاوا الإندونيسية يبلغ عمرها قرابة مليون سنة .. وكذلك اكتشاف "ابيمن" أو "هوبيتس" الإنسان القرد ، الذي عدّ اكتشافه أهم حدث في علم الإنسان خلال القرن، ويؤكد العلماء أنه عاش بجانب إنسان ما قبل التاريخ لآلاف السنين، وعاش في غابات إندونيسيا قبل أن ينقرض.
الإنسان الحديث: بعد "إنسان فلوريس" و"الإنسان المنتصب" و"الإنسان القرد"، أتى الإنسان الحديث ليرث الأرخبيل الإندونيسي ويؤسس حضارته التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا عليه.
فبُنيت الممالك في الجزر والمناطق، والتي كان لها دور كبير في تنظيم الحياة داخل حدودها، وحكم هذه الممالك ملوك تعود لهم ملكية كل شيء داخل حدود المملكة، بينما كان عامة الشعب مجرد عاملين لدى الملوك لا نصيب لهم في شيء .. وسيطرت على حياة الإنسان الحديث في الأرخبيل الإندونيسي المعتقدات القديمة التي نادت بأن لكل شيء في هذا العالم روح وقوة، فالأشجار والجبال والبحار والأنهار والأحجار وغيرها لها أرواح يخضع لها الناس، ويجب عليهم أن يحترموها ويعبدوها لكي لا تغضب عليهم فتنزل بهم البلايا، فظهرت بذلك لديهم عبادة الطبيعة كأول معتقد يؤمنون به.
ومارس الإنسان الحديث التجارة لأول مرة في تاريخ الأرخبيل والتي انقسمت إلى قسمين، تجارة داخلية وتجارة خارجية، كانت الداخلية ما بين الممالك في الأرخبيل، في حين كانت الخارجية مع الشعوب الأخرى كالهنود والفرس والأوروبيين والعرب.
الأثر الهندي: وكان للتجارة خارج الأرخبيل الإندونيسي الأثر الأكبر في تغيير مجرى حياة شعب هذا الأرخبيل .. حيث تسنت لهم الفرصة للقاء شعوب أخرى لها أفكارها وعباداتها وتقاليدها وثقافاتها، ومن تلك الشعوب التي التقوا بها شعب الهند الذي امتدت العلاقة التجارية معه لأزمنة قديمة، فتأثروا به أشد التأثر.
فقد تمكن التجار الهنود من التقرب من شعب الأرخبيل الإندونيسي أكثر من أي تجار آخرين في ذلك الزمان، مما ساهم ذلك في تأثيرهم، فقد تمكن الهنود من تغيير معتقد شعب الأرخبيل الإندونيسي القائم على عبادة الطبيعة إلى الإيمان بالديانتين الهندوكية والبوذية الديانتين السائدتين في الهند .. وبفعل ذلك تأثرت اللغة الملاوية لغة الأرخبيل الإندونيسي بلغة الهند القديمة ولغة الديانتين الهندوكية والبوذية اللغة "السنسكريتية" .. كما دخلت أيضاً حروف اللغات الهندية في كتابة اللغة الملاوية مثل حروف "كاوي" التي ظهرت في فترة ما بين عام 400 و750م، وحروف "ونجي" التي نشأت لدى أفراد "بالاوا" المقيمين في بلدة "كورومنديل" جنوب الهند.
وبدخول الحروف الهندية واللغة "السنسكريتية في قواعد اللغة الملاوية تأثر الأدب الملايوي أيضاً، فاقتبست القصة في الأدب الملايوي من حيث الشخصيات والأحداث وحبكة الحكاية والألفاظ، وذلك من الكتب الأدبية الهندية التي أشهرها: "بانجاتنترا" و"رامايانا" و"مهابراتا".
ومع التأثير الهندي في عقيدة ولغة شعب الأرخبيل الإندونيسي، امتد التأثير أيضاً ليشمل جوانب عدة في العادات والتقاليد.
وصول الإسلام: دخل الإسلام إلى الأرخبيل الإندونيسي وتحديداً سواحل سومطرة الشمالية بالقرن الأول الهجري/ السابع الميلادي عن طريق التجار العرب الذين كانت تربطهم بالأرخبيل علاقة تجارية قديمة جداً، نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد، حين كان العرب يقصدون الأرخبيل الإندونيسي برحلات بحرية منتظمة بغرض التجارة للحصول على ما ينتجه الأرخبيل من التوابل والبخور والكافور .. كما كان الأرخبيل يمثل نقطة توقف في الطريق البحري التجاري القائم بين العرب والصين.
ومع ظهور الدعوة الإسلامية، قام التجار العرب المسلمين الذين ترجح كثير من مصادر التاريخ أنهم من بلاد حضرموت والحجاز، بدعوة شعب الأرخبيل الإندونيسي بشكلٍ سلمي للدخول في الإسلام.
واقتصرت الدعوة في بادئ الأمر في إقليم (آتشه) الواقع على سواحل سومطرا الشمالية .. وأخذ الإسلام شيئاً فشيئاً ينتشر حتى بلغت الدعوة الأرخبيل بأكمله نتيجة عدة عوامل من أهمها:
1 أخلاق الدعاة وانتهاجهم النهج السلمي في الدعوة.
2 إسلام الملوك الذين كان لهم بالغ الأثر على شعوبهم.
3 زواج التجار العرب المسلمين بنساء الأرخبيل الإندونيسي، حيث كان يتزوج الواحد منهم بأكثر من امرأة حتى ساهم ذلك في إنجاب العديد من الأولاد وازدياد أعداد المسلمين.
4 انتشار الدعاة في أنحاء الأرخبيل لنشر الدعوة الإسلامية والذين كان أكثرهم من أصحاب الأرض الذين اعتنقوا الإسلام.
وقد لقيت الدعوة الإسلامية من شعب الأرخبيل الإندونيسي كافة إقبالاً عن اقتناع تام قلباً وقالباً، لم يحدث لدعوة ديانة أخرى أن لقيت ذلك، حيث اعتنق الإسلام أعداداً كبيرة وفي فترةٍ وجيزة بدءاً من طبقة الفقراء وحتى طبقة الملوك .. وقد أسس المسلمون عدة ممالك في أرجاء الأرخبيل هي:
1 مملكة آتشه في شمال سومطرا.
2 مملكة برلاك في سومطرا.
3 مملكة بنتام في غرب جاوه.
4 مملكة ديماك في وسط جاوه.
5 مملكة بالمبانغ في جنوبي سومطرا.
6 مملكة متارام في شرقي جاوه.
أثر الإسلام في حياة الشعب الإندونيسي:
كان لاختيار شعب الأرخبيل الإندونيسي للديانة الإسلامية عن اقتناع تام قلباً وقالباً، حيث اعتنق الإسلام أعداداً كبيرة بدءً من طبقة الفقراء وحتى طبقة الملوك وفي فترة زمنية قصيرة، وهو ما لم يحدث لديانة أخرى في تاريخ الأرخبيل .. وقد رضي الإندونيسيين بالشريعة الإسلامية منهجاً شاملاً لهم في الحياة، مما ساهم الإسلام في إحداث تغيرات جذرية في حياة الإندونيسيين دينياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً وأدبياً، ساعدت على ذلك الرحلات التي نظمها التجار العرب لتعليم الإندونيسيين مبادئ الإسلام وعلومه وأحكامه وأدبه .. فقضى الإسلام بذلك على ما رسخته الديانتين الهندوكية والبوذية في عقول شعب الأرخبيل من معتقدات وعادات وتقاليد مليئة بالخرافة أبقتهم في ظلام الجهل عدة قرون.وكان للإسلام دور في توحيد كثير من المناطق والجزر التي ظلت في استقلالية عن بعضها منذ أن وطئت قدم الإنسان أراضيها، حيث دعت العقيدة الإسلامية إلى تحقيق الأخوة والمحبة والوحدة بين المسلمين، ونتيجة لذلك ظهرت الممالك الإسلامية التي حققت ما أرادته عقيدة الدين، فأصبح بالتالي للمسلمين شأنٌ عظيم بعد أن تمكنت من التصدي لمؤامرات وحروب الهندوس والمستعمرين.
كما فتح الإسلام آفاق جديدة في مجال الاقتصاد الخارجي، حيث اتسع نطاق التعاون بين الأرخبيل والشعوب الأخرى كالعرب والهند والصين وأفريقيا وغرب أوروبا أكثر من ذي قبل.
وأضاء شعاع الإسلام طريق الحياة لسكان الأرخبيل ليعيشوا حياتهم على أساس المساواة، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فأعطت لكل إنسان حقوقه في الحياة، بعد أن كانوا في ظلام الهندوكية والبوذية، اللتان أحدثتا المشاكل الاجتماعية كوجود الطبقات والتعصب القبلي ودكتاتورية الحاكم واستغلال الأغنياء ومعاناة الفقراء والكثير من مصاعب الحياة في ظلها.
كما محا الإسلام الخرافات والأساطير التي صورتها لهم الديانتين الهندوكية والبوذية، ودعتهم إلى عبادة إله واحد مقدس.
وساهم الإسلام في ازدهار الحركة التعليمية في الأرخبيل، فأُنشأت المدارس والمساجد والبيوت لتكون مكاناً للتعليم، حتى أن ركناً من قصور الملوك خصص مكاناً للتعليم .. كما ساعد الوعاظ من مسلمي العرب والهند في تدريب معتنق الإسلام على آداب النظافة والهندام ومراعاة العادات الصحية.
ومع التعليم الإسلامي في الأرخبيل دخلت الحروف العربية في اللغة الملايوية، حيث اُبتكرت طريقة لكتابة اللغة الملايوية بواسطة الحروف العربية، وكانت بذلك أول مساهمة ثقافية عربية في ثقافة الأرخبيل، وقد عُرفت هذه المساهمة بالكتابة "الجاوية" .. وبانتشار تعلم الكتابة بالحروف العربية انتشرت المؤلفات الإسلامية والعربية في الأرخبيل، حتى أن مكة المكرمة طبعت مجموعة كبيرة من الكتب الدينية المكتوبة بالحرف العربي للغة الملايوية وأرسلتها للأرخبيل، ومن تلك الكتب التفسير والحديث والتوحيد والفقه والتصوف والآداب وغيرها .. وانتشرت بعد ذلك حركة التأليف والترجمة في الأرخبيل، وبرز أعلام إندونيسيين ينشرون أفكارهم ويرفعون شأن آدابهم ويوثقون تاريخ أمتهم، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل بلغ أن السلطات الإسلامية قامت بتنفيذ كتاباتها ومراسلاتها بالحروف العربية.
وحلّت القصة الإسلامية والعربية محل القصة الهندية في أدب الأرخبيل، كما سمى شعب الأرخبيل أبناءهم بأسماء أبطال القصص الإسلامية والعربية، كما غير البعض أسمه أيضاً لذلك، بعد أن كانت العادة أن تطلق الأسماء من الأدب الهندي الذي كان السائد قبل مجيء الإسلام .. وأثر أيضاً الشعر الإسلامي في الأدب الملايوي، حيث كان الأدب الملايوي القديم قبل وصول الإسلام على أنواع عدة من الكلام الموزون، من أشهرها: بنتون سلوكا جوريندم، وبعد وصول الإسلام عرف الأدب الملايوي نوعاً جديداً من الكلام المنظوم الذي عُرف باسم شعر "SYAIR". وكان للشعر العربي الصوفي فضل بارز في نشأته وازدهر في القرن السادس عشر الميلادي في "آتشه" على يد حمزة الفنصوري الذي كان راشداً في إبداع الشعر الملايوي الصوفي، والذي استوحى في إنجاز شعره من أفكار الشعر العربي وأغراضه بالإضافة إلى إلمامه بالثقافة العربية والفارسية، كما دخل في الأدب الملايوي صور أخرى من الكلام الموزون من نظم وغزل ومثنوي ورباعي وقطعة.
كما أخذ الملايويون المصطلحات الإسلامية من العربية كلها تقريباً في لغتهم الملايوية، مثل لفظ الجلالة وخالق الكون وأسماء الأنبياء عليهم السلام والصحابة عليهم رضوان الله.