المغرب المسافرون العرب

أكتشف العالم بين يديك المسافرون العرب أكبر موقع سياحي في الخليج و الوطن العربي ، يحتوى على أكبر محتوى سياحي 350 ألف استفسار و نصائح عن السفر و السياحة, 50 ألف تقرير سياحي للمسافرون العرب حول العالم و أكثر من 50 ألف من الاماكن السياحية و انشطة وفعاليات سياحية ومراكز تسوق وفنادق، المسافرون العرب هو دليل المسافر العربي قبل السفر و اثناء الرحلة. artravelers.com ..
eldorado
07-10-2022 - 11:42 am
  1. “زيد زيد يا الشيفور … زيد شوية في الموتور.”


انطلقت الحافلة في الوقت المحدد بالضبط! الثامنة مساء بالدقيقة و الثانية! معها انطلقت صيحات فرح مراهقة مرفقة بالزغاريد. عربدت الفوضى الممتعة في كل مكان. ما إن خرجت الحافلة من زحام السيارات الخانق و انخرطت كلية، في الطريق السيّار تاركة وراءها ضجيج المدينة الشاسعة و أنوارها المتلألئة، حتى ارتفعت أصوات تحث السائق على الزيادة في السرعة، مرددة في إيقاع موسيقي متناغم:

“زيد زيد يا الشيفور … زيد شوية في الموتور.”

أعادني هذا الشعار المرتبط بالرحلات، ثلاثين سنة إلى الوراء. إلى الحياة الطلابية في تلك المرحلة الذهبية التي عاشها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أوائل السبعينيات. من الأهداف التي كانت تلك المنظمة العتيدة قد سطرتها و التزمت بها، المساهمة في تعريف الطلبة بربوع بلادهم و زرع حب الوطن في نفوسهم عن طريق تنظيم الرحلات إلى كل مناطقه. رحلات رائعة لا تنسى أبدا، جمعت بين السياحة و الترفيه و الثقافة و الوعي و نمّت لدى الطلبة الإحساس بالانتماء إلى كل ذرة تراب في الوطن من شماله إلى جنوبه و من شرقه إلى غربه.
الأصوات تزداد ارتفاعا و تعددا، لتنتشر في كل أرجاء الحافلة، بعدما كانت متمركزة في الوسط، و تحديدا في المجموعة التي تجلس أمامي. راحت الأصوات تردد الأغاني خلف صوت جهوري رخيم يغمر الفضاء دونما حاجة إلى مكبر صوت. تزداد سرعة الحافلة على إيقاع الغناء المرح و هي تتبع الحزام الأسود اللامع تحت أشعة القمر الذي تحتفي السماء هذه الليلة، ببلوغه مرحلة الكمال. جو السعادة و البهجة يخيم على كل المسافرين.
مع مرور الوقت، بدأت حدة الأصوات تخف. و رغم أني لم أتناول القهوة خوفا من الأرق، إلا أن عينيّ ظلتا منفتحتين و كأنهما لم تتعودا على الانغلاق بمجرد اقتراب منتصف الليل. عذرت عيني اللتين بقيتا طيلة الوقت، مشدودتين إلى السماء الصافية و إلى القمر المشع بنور غريب و هو يسير جنب الحافلة و كأنه حارسها الوفي. وعندما تنحرف هذه الحافلة، متتبعة الطريق الملتوي المتوغل وسط الجبال، يفقد القمر أثرها فيغيب عن أنظاري رغم أن نوره يظل يشي بوجوده في مكان غير بعيد. لكنه سرعان ما يعثر عليها فيعود إلى مكانه مواصلا مهمته النبيلة. و بعودته، تعود السعادة و الطمأنينة إلى قلبي.
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بكثير، عندما توقفت الحافلة عند محطة قروية صفت العديد من المطاعم و الدكاكين الغاصة بالمواد الغذائية على جانب الطريق الرئيسي الذي يخترقها. السيارات متوقفة و المطاعم شغالة. روائح الشواء تسللت إلى الحافلة بمجرد توقفها، مثيرة شهية البطون الخاوية. العديد من المسافرين متحلقون حول موائد الطعام المنتصبة في الفضاءات الخارجية للمطاعم، يلفهم دخان الشواء المنبعث من المواقد المشتعلة. لا أثر لليل في هذا المكان النائي الضاج بالحركة. و لا أثر لتلك البرودة التي تغمر الجو عادة، في مثل هذا الوقت من أوائل الصيف.
مع تباشير الفجر الأولى، ازداد نور السماء توهجا، فإذا به يكشف عن مناظر جبلية رائعة. جبال تختلف كلية عما عهدته من جبال أطلسية أو ريفية خضراء تغطيها أشجار الكالبتوس و اللوز و الجوز و التين و الزيتون و البلوط أو غيرها من الأشجار التي تكون أحيانا من نفس النوع و أحيانا أخرى، من أنواع مختلفة متداخلة متشابكة تفوح منها روائح زكية. روائح عجيبة تمتزج فيها عطور الأشجار المثمرة و غير المثمرة و النباتات و الأعشاب البرية. كما أنها تختلف أيضا، في عريها الصارخ، عن بعض جبال الريف الجرداء. في سفح الجبال يمر نهر- عرفت فيما بعد أنه وادي زيز- تبدو مياهه متدفقة في بعض الأماكن و شحيحة في أماكن أخرى، بحيث تنكشف أرضيته المرصوصة بالحجارة الصقيلة ذات الألوان الرمادية اللامعة. يحف هذا النهر من جهة الطريق الملتوي باستمرار، شريط أخضر من أشجار النخيل الباسقة.
تابعت بكل متعة، هذا الشريط الرائع الذي يظهر في كل تجلياته حينا، إذ يصبح محاذيا للطريق، و يغيب حينا آخر، فلا تظهر منه إلا رؤوس النخيل الشاهقة. كما أنه أحيانا أخرى، يبدو بعيدا جدا، يفصل بينه و بين الطريق امتداد صخري قاحل. كانت تلك الخضرة ملاذ العين من الاصطدام الدائم بنفس الحاجز الصخري الشاهق الممتد عبر الأفق.
وأنا أطارد الشريط الأخضر، رأيت رؤوس دوائر ضخمة من النور تبزغ خلف الجبال. نصف دائرة أرجوانية خالصة تطل الآن، مباشرة من فوق أعلى قمة، تكللها هالة ضخمة من النور الأبيض المشع الذي زادته زرقة السماء الصافية كثافة و لمعانا. استغربت تلك الزرقة الشبيهة بزرقة البحر في صفائه المطلق في هذا الوقت المبكر الذي لا تزال الشمس فيه تتسلق الجبال بصعوبة، للصعود إلى السماء. كل حواسي تجمعت عند هذا المنظر المذهل الذي لا يجود به الزمان إلا نادرا .
توقفت الحافلة فجأة. إنها تضج بالحركة! سمعت صوتا يقول: “مرحبا بكم في الرشيدية!”
هل غفت عيناي أخيرا؟ لا شك في ذلك.أحسست بهما تؤلمانني كلما حاولت فتحهما. تبا لك أيها النوم. هل هذا وقت الهجوم؟ تذكرت المشاهد الرائعة التي فاتت الكثيرين بدون شك .
تبعت الصف المتجه نحو باب الحافلة. و قبل أن أنزل، هنأت- مثل من سبقني- السائق البارع الذي استعاد أنفاسه أخيرا، و استرخى تماما في مقعده… كانت تهنئة من أعماق القلب لأنه يستحقها عن جدارة، ليس فقط، لأن الرحلة التي دامت إحدى عشرة ساعة، مرت بسلام تام و ممتع و لكن أيضا، لأنه التزم بدقة نادرة، بتوقيت الوصول إلى الرشيدية كما هو مسطر في برنامج الرحلة. فقد كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا بالضبط!
استغرق تناول الفطور في بيت مرشدنا الذي هجمنا عليه كالجراد، في هذا الصباح المنذر بحرارة مفرطة، أكثر من ساعة، لم يتوقف خلالها باب الحمام من الانفتاح و الانغلاق!
غيرنا ملابسنا استعدادا لمتابعة الرحلة. كانت وجهتنا التالية “العين الزرقاء” و هي عين متفجرة من داخل كهف صخري استغل ماؤها لإحداث مسبح يعد المتنفس الوحيد لسكان المدينة المحرومة من وسائل الترفيه. الطريق إلى تلك العين التي لا تبعد كثيرا عن المدينة، صحراوي قاحل. الحرارة مفرطة..
ما إن نزلنا الأدراج المؤدية إلى العين- المسبح، الذي يوجد أسفل سطح الأرض، حتى أزال البعض - ممن استعدوا للسباحة- ملابسهم و ارتموا في أحضان الماء المنعش. أما البقية فقد توزعوا ما بين المقهى حيث تنتشر الكراسي فوق الشرفة المطلة على المسبح، أو جلسوا على الأرض داخل المغارة “السوداء” التي فرشت خصيصا لنا، قرب الحاجز الصغير الذي يفصل بينها و بين رأس العين المتفجرة من أعماق الصخرة الهائلة.
رحت أتأمل بمتعة، تلك الأسماك الصغيرة و الكبيرة التي تسبح في الحوض المائي الواقع أسفل العين، بهدوء تام و كأن هذا المكان لا يغلي غليان النحل. كل شباب المدينة تدفق إليه منذ الصباح الباكر، إذ عندما وصلنا قبل العاشرة، وجدناه غاصا عن آخره. جو المغارة منعش و مثير. كأننا داخل خيمة كبيرة. أخبرنا أحد أبناء المدينة أن سواد جدرانها ناتج عن الدخان المنبعث من الشموع . أثار انتباهي بعض الشباب و هم يتسلقون جذوع أشجار النخيل الباسقة ليقفزوا إلى عمق المسبح من ذلك العلو الشاهق. من قال إن سكان المناطق الساحلية هم وحدهم من يتقن فن السباحة؟ في قمم الجذوع علقت بسعف النخيل بعض الحقائب المدرسية التي استبدلت كتبها بالملابس و مستلزمات النزهة الاستجمامية. فكرة ذكية و رائعة! من يجرؤ على الاقتراب من حقيبة أمام كل الأعين المتطلعة، حتى لو كان من أمهر المتسلقين لأشجار النخيل؟ هكذا يسبح الشباب و هم مطمئنون تماما على أمتعتهم.
تركنا هذا المكان المدهش القابع في أعماق الأرض إلى السطح الحارق حيث تنتظرنا الحافلة لمواصلة الرحلة في اتجاه مدينة الريصاني. تمنينا لو تناولنا وجبة الغذاء في هذا الفضاء الساحر لكن البرنامج حافل، و علينا أن نصل إلى مرزوكة – قبلتنا - قبل غروب الشمس.
في الطريق، توقفت بنا الحافلة في الخلاء، قرب عين متفجرة من أعماق الأرض القاحلة، يطلق عليها اسم “عين العاطي”. يتدفق منها ماء أحمر طيني غير صالح لا للشرب و لا للاستعمال. وللحد من قوة تدفقها، لجأت السلطات لبناء نافورة بواسطة قطع حجرية ضخمة على شكل أنبوب يصعد إليه الماء ليتدفق في الحوض الدائري المبلط بالإسمنت. مع الزمن، اكتسبت النافورة و خاصة منها الأنبوب الحجري، لون الماء الأحمر الزاهي الذي أضفى عليها رونقا و بهاء و ملمسا حريريا تحسه العين قبل اليد. أسفل الجبال الصخرية، المواجهة لنا يمتد نفس الشريط الأخضر متبعا ضفة النهر.
وصلنا إلى مدينة الريصاني التي قمنا فيها بجولة خاطفة تحت أشعة الشمس الحارقة، للتعرف على المدينة . ركبنا الحافلة من جديد. ما إن ابتعدنا قليلا، حتى توقفت بنا أمام بوابة مؤسسة تعليمية تنتصب وحيدة في الضاحية، كتب عليها “ثانوية الحسن الثاني”. هنا، سنتناول الأكلة المحلية المشهورة المسماة ب”المدفونة” و التي تقدم عادة، للضيوف. طوال الطريق إلى الريصاني، و أبناء المنطقة الذين رافقونا، يحذروننا من شرب الماء بعد تناولها لخطورة ذلك على الصحة. و حتى عندما دخلنا القاعة الكبرى، طلبوا منا أن نشرب كفايتنا من الماء قبل حضور الوجبة.
تحلقنا حول الموائد و كلنا شوق ممزوج بالرهبة، لرؤية هذه الأكلة العجيبة التي لا يمكن تناول الماء معها علما أننا متعودون على وضع الماء بالضرورة، فوق مائدة الطعام امتثالا للمثل الدارج الشهير: “النعمة بلا ما من قلة لفهاما.”
أكلة “المدفونة” هذه عبارة عن فطيرة محشوة بلحم الغنم المفروم المغطى بطبقة من شحم الجمل الذي يخزن عادة في البيوت كمادة أساسية. تدفن في الجمر بحيث تنضج على نار هادئة، من الوجهين في نفس الوقت. كنت شخصيا، متشوقة لرؤيتها إذ ذكرتني هذه الطريقة في الطبخ بخبز شهي لا يزال مذاقه في فمي من أيام الطفولة المبكرة بالبادية، يسمى ب”المقلوبة”. يوضع قرص الخبز في إناء طيني يسمى الفرّاح و يغطى بإناء آخر، و يدفن في الجمر إلى أن ينضج و يتحمر بشكل لا تضاهيه الأفران العصرية.
قدمت لنا الفطائر الكبيرة المحمرة وهي لا تزال ملتهبة. و مع ذلك، انقض عليها الجميع بعدما بلغ بهم الجوع مداه. أكلة لذيذة حقا، رغم الدهن المفرط. دارت كؤوس الشاي الصحراوي الثقيل الذي استمر مرافقونا في تقديمه من بداية الوجبة إلى نهايتها. ذلك أن مضيفينا الكرماء لم يتوقفوا لحظة، عن إحضار المزيد من الأقراص المحمرة الساخنة إلى أن نال الكل كفايته. فهمت آنذاك، سر التحذير من شرب الماء البارد و ضرورة مصاحبة هذه الوجبة بالشاي القوي الملتهب. إذ ما الذي يستطيع إذابة تلك الشحوم غير هذا الشاي؟ و الحقيقة أن لا أحد منا – حتى الممعودين - أصيب بأي مغص. لقد كان للشاي الصحراوي فعاليته العجيبة.
و نحن على أهبة الانطلاق لمواصلة الرحلة في اتجاه مرزوكة، هبت عاصفة قوية. في تلك اللحظة، تخيلت هذا المكان المقفر أيام فصل الشتاء. يا إلهي، كيف يصل التلاميذ إلى هنا؟ و رجال التعليم، أية ظروف هذه التي يعملون فيها؟ أحسست بتعاطف كبير معهم جميعا.
مرزوكة !الحلم الذي داعب خيالي زمنا طويلا، زاده تأججا ما حكاه لنا أبناء الرشيدية عنها. الشروق الفريد الذي يأتي السياح من أقصى العالم لمشاهدته، الغروب المختلف، حمامات الرمال العجيبة التي تشفي في الحين، مرضى المفاصل مهما كانت درجة المرض… أثارتني حكاية ذلك الياباني الذي جاؤوا به محمولا على كرسي متحرك. دفنوه في الرمال الحارقة، و عندما أخرجوه من الحفرة هب واقفا على قدميه.
الدفن عادة، يتم تحت إشراف الطبيب. يدفن الجسد كله حتى الرقبة، و يغطى الرأس جيدا لحمايته من الشمس. و بعد مدة معينة، حسب قدرة الجسد على التحمل، يتم إخراجه. فإذا بحفرة الرمال مبللة كما لو غمرتها مياه البحر قبل أن تتراجع، و برائحة قوية بل و كريهة تنبعث منها. أما فترة هذا العلاج، فتبدأ من منتصف شهر يوليو إلى نهاية شهر اغسطس حيث تصل الحرارة أوجها.
الطريق ممتد أمامنا وسط صحراء شاسعة تبدو رمالها رمادية أقرب إلى السواد في بعض المناطق. رمال مختلفة تماما عن تلك الرمال الذهبية التي لا تزال عالقة بذاكرتي، و التي انبهرت بها أيما انبهار، ذات رحلة إلى مدينة طانطان.
انتابني إحساس بالرهبة في هذا المحيط الشاسع الذي لا يكسر سكونه سوى العواصف الرملية من حين لآخر، و صوت حافلتنا التي تتهادى متتبعة آثار سيارة مرشدنا. لاحت لافتة كتب عليها: مرزوكة بوابة الصحراء. تعاقبت لافتات أخرى، غرست بشكل فوضوي في اتجاهات مختلفة في أعماق الرمال تحمل أسماء فنادق مختلفة. كل اللافتات مكتوبة باللغة الفرنسية. السيارة لا تزال تتأرجح أمامنا بين كثبان الرمال. الظاهر أننا ضعنا! عدنا أعقابنا نبحث عن الطريق الصحيح المؤدي إلى الفندق الذي تم الحجز فيه. توقفنا أخيرا، أمام بناية واطئة بدون طوابق، لون جدرانها أحمر طيني، تحيط بها الرمال من كل ناحية. انتشرنا في قاعة المطعم الفسيحة، نحتل موائدها في انتظار عملية توزيع الغرف التي تقوم بها اللجنة المنظمة للرحلة. جاء نادل يرتدي ملابس تقليدية حاملا صينية شاي يتبعه آخر بيده إناء كبير مليء بالمكسرات. إنها طقوس استقبال الضيوف. كل شيء في هذا المطعم تقليدي يفوح برائحة الماضي البعيد. الجدران بدون صباغة. الديكور يتكون - في معظمه- من الزرابي التقليدية الخاصة بالمنطقة و آنية الفخار من كل الأشكال و الأحجام. لا أثر لمعالم الحضارة الغربية. فأصحاب هذه الفنادق، لم يستثمروا أموالهم في الصحراء المقفرة من أجل السياح المغاربة و إنما من أجل الأجانب الذين تبهرهم هذه البساطه .
في نفس هذا الفندق، نزل كثير من مشاهير العالم و أثرياؤه! هنا جاءت سيدة البيت الأبيض هيلاري كلينتون لتداوي جراحها و تدفن أحزانها في الرمال، بعد فضيحة مونيكا لوينسكي. لا شك أن الصحراء هي التي ألهمتها حكمة تقبل الخيانة الزوجية و إعطاء الأسبقية للقب السحري:”سيدة العالم الأولى” على حساب الكرامة.
خرجنا من الباب الخلفي لنفاجأ بامتداد شاسع من الكثبان الرملية متفاوتة العلو و ذات ألوان ذهبية فاتنة. لا يزال بعض الوقت، لاستكشاف هذا الفضاء العجيب الممتد شرقا، قبل غروب الشمس. أزلت حذائي الرياضي لأتمكن من المشي بسهولة. يا له من ملمس ناعم يدغدغ باطن قدمي ! انطلقنا في مجموعات صغيرة، نتأمل بمتعة و انبهار، تلك الرمال العذراء التي رسمت الرياح عليها خطوطا غاية في الدقة و الانسجام. تبدو الكثبان في بعض جوانبها، بألوان الذهب، و في جوانب أخرى، بألوان القرفة الناعمة.
الشمس الآن، تقترب من مقرها. تبدو متعبة من رحلتها اليومية الروتينية. قرص كبير خافت، يتقدم بخطى بطيئة نحو الأفق الذي يستمد لونه من لون الصحراء… يزداد لونها اتحادا مع لون الرمال كلما غاصت أكثر فأكثر، في الكثبان… أتابع هبوطها بالثانية، لا يزال رأسها خارجا. و لكن، أين هو؟ غريب! لقد اتخذ من لون الصحراء ستارا يتخفى وراءه عن كل هذه الأنظار المتطفلة التي تحاصره. لا شك أنها تستمتع الآن، عبر خدرها، و هي تتابع رؤوسنا المتمايلة و عيوننا الجاحظة بحثا عن رأسها الذي لم نعد نراه رغم أننا نعلم يقينا، أنه موجود في تلك النقطة من الأفق التي تجمدت فوقها نظراتنا. غروب مختلف تماما، عن غروب الشمس كما تعودت رؤيته على شاطئ المحيط الأطلسي بعين الذئاب. غروب يتسم بالحكمة و الدهاء. لا يستهوي إلا من يمتلك طاقة قوية من الصبر و من الرغبة في النفاذ إلى الأعماق، لا كغروب البحر الذي تبدو فيه الشمس كامرأة لعوب تغري الناظر بمفاتنها الحسناء و ملابسها الحريرية المتطايرة ذات الألوان الزاهية، و التي ما إن تقترب من سطح البحر، حتى تقفز إلى أعماقه، تاركة الحسرة تأكل قلوب عشاقها.
عدنا إلى الفندق للاستحمام استعدادا لتناول العشاء و حضور الحفل الموسيقي الذي سيقام على شرفنا.
الاستعدادات تجري على قدم و ساق. هناك خيمتان رابضتان خلف الفندق على اليسار، تقام فيهما الحفلات عادة، لكننا فضلنا الهواء الطلق و الاستمتاع بهذا الفضاء الشاسع طيلة الوقت.عندما كنا نقوم بجولتنا الاستكشافية للصحراء و نصعد الكثبان الرملية بصعوبة، فوجئنا بأنفسنا نطل على فضاء دائري نصب به عدد كبير من الخيام السوداء المسدلة ستائرها. مكان مثالي لمن يريد أن يعيش إحساس العزلة التامة عن العالم المتحضر. لن ير الجالس هناك، لا الفندق و لا السيارات… لا شيء غير السماء و كثبان الرمال المحيطة به من كل جانب. مكان تابع للفندق خاص بالوفود السياحية.
راح العمال يكنسون الحزام الإسمنتي العريض الممتد على طول البناية، و فرشه بالزرابي المختلفة و تهيئة المكان للفرقة الموسيقية. الجو منعش. النور يغمر السماء. يا للسعادة! ها هو القمر يعود من جديد، ليشاركنا الحفل البهيج، و كله أناقة و جمال. بدا لي قريبا جدا، حتى تخيلت أنه يكفي أن أرفع يدي لأمسك به.
انتهى الحفل على الساعة الثانية بعد منتصف الليل، و علينا أن نستيقظ على الساعة الرابعة صباحا، لنتمكن من رؤية الشروق الذي سيكون على الساعة الخامسة. ذلك أننا سنراه و نحن نمتطي الجمال التي ستوصلنا إلى سفح ذلك الجبل الشاهق، الذي يعد الموقع المثالي. سجلت اسمي في لائحة الراغبين في خوض هذه المغامرة.
كانت الجمال رابضة على بعد أمتار من الفندق، عندما خرجت مع آخر المستيقضين. لم أرد - كعادتي – أن أتزاحم مع الآخرين. فاللائحة مضبوطة و عدد الجمال بعدد الأسماء و القافلة لن تنطلق إلا بعد ركوب الجميع. رحت أتأمل تلك الجمال و هي تنهض بمجرد ما يلكز الحادي جنبها بعد امتطاء الراكب لها، لتقف وراء بعضها في صف غاية في التناسق و النظام!
الجمال الآن، كلها متراصة استعدادا للانطلاق، لكني لا أزال أتأمل المشهد! الظاهر أن خطأ ما قد وقع! خطأ في البشر لا في الجمال. فقد كان عددها مضبوطا حسب لائحة البارحة. اجتاحني نفس الغضب الذي يجتاحني عادة، كلما أبانت لي الأحداث عن سذاجتي المزمنة التي لم ينفع معها تقدمي في العمر. أحسست بالحزن العميق. كيف أقطع كل هذه المسافة من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق لرؤية شروق مرزوكة الأسطوري و لا أراه؟ ما خفف عني قليلا، هو وجود ضحيتين أخريين معي. هون علينا مرافقنا قائلا: “يمكننا رؤيته من هنا أيضا، و لكن علينا أن نسير مسافة طويلة لنقترب قليلا، من ذلك المكان.”
رأينا أطيافا سوداء تتحرك صاعدة في اتجاه قمة الجبل الشاهق. للوصول إلى تلك القمة مشيا على الأقدام، تلزم الشخص العادي القوي البنية ساعتان من الزمن!
رحنا نتقدم بخطى ثقيلة متعثرة إلى أن تعبنا، فجلسنا فوق قمة أعلى تل حولنا. لم يصل من تلك الأطياف قمة الجبل، غير ثلاثة بدت لنا كأعلام منصوبة في قمته. أما البقية، فتجمدوا في أماكن متباعدة و كأنها تلك الأشجار التي تمتد في فضاء عار راسمة معالم الطريق.
أخيرا، ظهرت القافلة التي كانت قد غابت عنا قبل حين. توقفت غير بعيد عن تلك الأطياف. الكل متجمد في مكانه، في طقوس روحية نادرة. العيون كلها متجهة صوب نفس الهدف. لا أحد الآن، يلتفت إلى الآخر أو يكلمه. كل منا متوحد مع ذاته. نظراتي مركزة على تلك النقطة التي سيتفجر منها السحر بعد قليل.
ها قرص الشمس يبزغ خلف الجبل صغيرا لامعا لمعان الذهب بل لمعان تلك القطعة النقدية الذهبية التي كانت أمهاتنا تتزين بها و التي تسمى باللويزة. نور أصفر خالص مشع، لكنه لطيف لا يؤذي العين. مع ارتفاعها عن قمة الجبل، رأيت عناقيد غريبة تتفرع عنها، مكونة من دوائر بنفسجية متداخلة ومتدرجة في أحجامها من الأكبر إلى الأصغر… دوائر عنقودية أينما وجهت نظري ملأت الفضاء أمامي.. ألتفت إلى اليمين…إلى اليسار… لا فكاك منها! إنها تتبعني كظلي. لا. ليس كظلي. الظل واحد، لكن هذه الدوائر لا حصر لها. أنظر أمامي، فأجدها تهبط كسيل جارف باتجاهي، مغرقة الرمال الذهبية لتتوقف عند قدمي!… يا إلهي، ماذا أصابني؟ هل رؤيتي للشروق بدون نظارات شمسية، أتلفت بصري؟ أو لعل الخلل في نظارتي الطبية هذه ؟ أزلتها من فوق عيني لأمسحها جيدا، بطرف قميصي. عدت أنظر من جديد. لكن المشهد لم يتغير. الدوائر القرمزية هي هي، تنتشر في كل مكان و لا فكاك منها البتة. كأنما التصقت نهائيا بعينيّ. اجتاحني إحساس ممزوج بالانبهار و الرهبة. الغريب أني نسيت تماما، وجود الآخرين حولي. سكنني إحساس فظيع بأني وحيد في هذا العالم الشاسع المقفر حيث لا مفر لي من سطوة هذه الدوائر اللانهائية التي تتراقص فوق خشبة الكون و التي استوطنت عيني إلى الأبد! فجأة، انجلى الفضاء دفعة واحدة، متحررا من سطوة تك الدوائر، ليعود إلى إيقاعه الطبيعي الهادئ.
عدت إلى وعيي. رأيت القافلة تتحرك عائدة. تساءلت في داخلي:”ما الذي رأوه هناك و لم أره؟ و أية أحاسيس أخرى غريبة عاشوها و هم متجمدون فوق ظهور الجمال؟”
أكيد سأسعى للعودة ثانية، لأعيش تلك الأحاسيس و لأشاهد - ربما- مناظر أكثر غرابة. أو فقط، و بكل بساطة، لأمارس ذلك الفن السحري الذي انقرض في عصرنا، فن أجدادنا الأوائل: التأمل العميق في صمت الصحراء .
انتهى
منقول بتصرف



التعليقات (4)
سفير الطائف
سفير الطائف
شكراً لك
صور اكثر من روعه

moroclover
moroclover
خويا eldorado ونعم التصرف
بارك الله فيك التصاوير روعة

سعيد ومبتسم
سعيد ومبتسم
جميل جميل جميل جدا. تقرير ادبي رائع سجنني الى اخر سطر بل الى اخر حرف. اتمنى ان يحذو الاخرون حذو الكاتب في تقاريرهم. اشكرك جزيل الشكر

بنت أغادير
بنت أغادير
الخيال...روعة الصور
مشكور خويا إلدوادو


خصم يصل إلى 25%