1. موريشيوس.. عذراء المحيط الهندي


2. بلاد لا يمكن وصفها بالكلمات

موريشيوس.. عذراء المحيط الهندي

بلاد لا يمكن وصفها بالكلمات

لقد تغنى المؤرخون والرحالة بجمال جزر موريشيوس الواقعة في قلب المحيط الهندي على مدى العقود الماضية، وتسابقوا على مغازلة شواطئها العذراء وسلسلة جبالها البركانية التي تحتضن عند أطرافها مدنا وقرى يعيش فيها شعب امتهن الطيبة والتصقت بوجهه ابتسامة التسامح والترحيب بكل غريب.
البعض وصفها بدرة المحيط الهندي، بينما قال آخرون إنها المكان الأنسب للعشاق ومن يرغبون بالهروب من واقع العالم الصاخب.
ربما كان بُعد المسافة عن موريشيوس وطريقة الوصول إليها من أكثر العوامل التي جعلتها من اقل الدول شهرة في العالم العربي، لكن التطور في حركة النقل العالمية خلال السنوات القليلة الماضية وعزوف بعض العرب عن الذهاب إلى بعض الدول الغربية للسياحة، فتح المجال أمامهم للتعرف على كنز لا ينضب من جمال الطبيعة وكرم سكان المكان.
يتطلب الوصول لموريشيوس السفر بالطائرة 13 ساعة من لندن أو باريس، لكن وبما أنها تقع في الجهة الجنوبية من الكرة الأرضية، فلا تحتاج لأكثر من ست ساعات طيران من منطقة الخليج العربي للوصول إلى هناك.
وما أن يصل الفرد ارض موريشيوس، حتى يشعر بنوع من الندم لعدم زيارة تلك الدولة من قبل.
فإذا أردت البحر والاستجمام فالمياه البلورية الصافية في كل مكان، أما إذا كنت من هواة التسوق فهناك العديد من المتاجر الراقية تبيع أفضل ما أنتجته الماركات العالمية، وحتى الحياة الليلية زاخرة هناك، وكل ذلك في جو عائلي ودود.
اعتبرها المستعمرون الإنجليز مفتاح المحيط الهندي، فقد استخدمت من قبل القوافل البحرية المقبلة من جهة افريقيا كمحطة للتزود بالماء العذب والطعام خلال الرحلة الشاقة بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق، خاصة في الهند. لكن وللعلم فقد كان العرب هم أول من اكتشفوا موريشيوس وبالتحديد عام 975 ميلادي، لكنهم ارتأوا أن يتركوها ويرحلوا بعد أن ثبت لهم خلوها من السكان أو من المعادن النفيسة، فتركوها كما فعلوا في عدد من الجزر الأخرى التي مروا عبرها في المحيط الهندي وغيره. ومن ثم جاء الهولندون ليقضوا على حيوان الدودو، الحيوان الوحيد المقيم هناك في ذلك الوقت، إلى أن انقرض بفضل الصيد الجائر. ومن بعدهم جاء الفرنسيون ونقلوا معهم حضارتهم، إلى أن استقر المقام بأن سيطرت الجيوش الإنجليزية عليها. ساهمت جميع تلك الأمم إلى حد بعيد في تكوين نواة المجتمع هناك، فما زال بعض أسلاف الفرنسيين والإنجليز وغيرهم يعيشون هناك مستمتعين بما تركه لهم أجدداهم من أراض واسعة، بينما بقي العامة يتنافسون على الجزء اليسير.
عندما لاحظ الإنجليز أن أرض موريشيوس خصبة ومثمرة جلبوا العمالة من الهند لزراعة قصب السكر من اجل تزويد الجيوش البريطانية بما يلزمها من طعام، وجلبوا معهم العبيد من افريقيا للعمل في بناء الطرق والبيوت والسفن ومختلف جوانب البنية التحتية. ومن ثم قدم الصينيون طمعا بحياة أفضل، وبالطبع كان اختيارهم الطبيعي امتهان التجارة، وقد أبدعوا فيها. ومن كل ذلك الخليط شكلت موريشيوس وأصبحت دولة تجمع بين ثقافات أوروبا والصين والهند وافريقيا وجمال الجزر العذراء ليخرج للعالم نتاج فريد.
مهما قيل وكتب عن تلك الجزر فلن يفيها حقها، فذلك البلد بالفعل يمثل كل ما يطمح السائح الى زيارته من طبيعة خلابة وبنية تحتية متطورة من شوارع معبدة وأماكن عامة منظمة بشكل حضاري. ولا ننسى أن الشعب مضياف وعزيز النفس، مما يبعث لدى الزائر نوعا من الطمأنينة عند التجول في الأسواق أو التنقل بوسائل النقل العام، هذا بالإضافة إلى الطقس شبه الاستوائي ليجعل موريشيوس واحة الاستجمام والراحة. زيارتي الأولى لموريشيوس كانت خلال فصل الشتاء، لم تكن الشمس ساطعة تبسط أجنحتها على الجبال وعلى الغابات كما توقعت، لكن ذلك لم يشكل خيبة أمل كما قد يبدو، فمياه الأمطار المنهمرة حولت حقول قصب السكر الممتدة على آلاف الهكتارات بالقرب من المطار إلى جواهر تتلألأ كلما شق غصن البرق الغيوم المتلاصقة. كانت تلك اللوحة الطبيعية الحية كافية لأن تثير في داخلي رغبة ملحة باستكشاف هذا البلد الجميل. كانت بدايتي بالطبع في العاصمة للتعرف على الجانب الحضاري للبلاد ولألتقط أنفاسي من عناء السفر قبل البدء في جولة حول الجزيرة.
تحمل بورت لويس بين شوارعها المنظمة وبناياتها الحجرية الطابع المعماري البريطاني من أناقة وحسن تصميم، وتقع على الميناء الرئيسي للبلاد، وباقي الجزيرة طوق بحلقة من الشعب المرجانية، وهذه الميزة بالتحديد جعلت من موريشيوس واحدة من أكثر الدول جذبا لمحبي الحياة البحرية والتعرف على الكنوز التي تكتنفها مياه المحيط الهندي.
تضم بورت لويس جميع الدوائر الحكومية والسفارات الأجنبية وتكون في العادة مزدحمة خلال النهار، لكنها تخلد للنوم باكرا. فعند الساعة الخامسة مساء لا يبقى في بورت لويس سوى بعض أصحاب المحال التجارية وربما القليل من الموظفين بعد أن يكون الجميع قد غادروا منازلهم في البلدات المجاورة.
لكن ذلك لا يعني أن الحياة تموت أو تهدأ في بورت لويس عند انتهاء العمل الرسمي، فالعديد من الشباب وزوار البلاد يتوجهون لمنطقة كودون، عند حافة الميناء للاستمتاع بفنجان من القهوة على وقع موسيقى «السيغا»، بينما يتأمل العشاق بمياه المحيط الشاسعة.
من الأمور التي أثارت انطباعي، الشعب في موريشيوس وقدرته على التحدث بالفرنسية والإنجليزية بطلاقة، كما أن عددا من السكان من الأصول الهندية يتحدثون الهندي والأوردو، بالإضافة إلى اللغة الشعبية المتداولة «كريول»، المستنبطة من الفرنسية، لذا لا أعتقد أن أي سائح سيجد صعوبة في التواصل مع الناس هناك.
لم يكن اليوم الأول لقدومي مناسبا للتوجه إلى الشاطئ والاستلقاء على الرمال، فقد كان من الأنسب أن أتوجه نحو جنوب البلاد المشتهرة بجمال طبيعتها من غابات كثيفة وأنهر و شلالات لا تكف عن صفع الصخور عند حافة الجبال. توجهت من بورت لويس جنوبا بواسطة الطريق السريع نحو بلدة فاكوا المعروف عنها كثرة أمطارها، لارتفاعها عن سطح البحر. من فاكوا كانت الطريق جميلة نحو الغابات فمزارع قصب السكر في كل مكان، ولم تترك الطبيعة شبرا واحدا إلا وأنبتت فيه زهرة أو شجرة.
توجد الغابات في منطقة شاماريل وبالعادة يتوجه سكان موريشيوس في أبريل (نيسان) من كل عام، لالتقاط الجوافة الصينية، حيث تنمو في البراري، تشرب من مياه الأمطار الغزيرة وتتغذى من الشمس الدافئة. حدثني بعض السكان المحليين أنهم ينتظرون ذلك الوقت من العام بفارغ الصبر، حيث تجد الآلاف من الناس يتنافسون في جو ودي للحصول على تلك الثمرة اللذيذة، تجولت في غابة الجوافة قليلا واستمتعت بالهواء النقي، لكن من دون الحصول ولو على حبة واحدة، فالموسم كان قد انتهى منذ فترة. بعد جولة ممتعة في أحضان الطبيعة واصلت السفر جنوبا، مرورا ببعض القرى الصغيرة التي يسكنها صيادون من أصول افريقية إلى أن وصلت الى منطقة سوياك، التي تعرف ب «عروس الجنوب»، ما يفرق سوياك عن باقي مناطق موريشيوس خلوها من الفنادق والمنتجعات السياحية الكبيرة على عكس مدن الشمال مثل لو موند وبلو باي، على الرغم من جمال الطبيعة الخلابة فيها، فبالإضافة إلى الشواطئ الرملية الناعمة والجزر الصغيرة القريبة من اليابسة تنفرد سوياك بإطلالتها المرتفعة على مياه المحيط الهندي التي تضرب الصخور الملاصقة بقوة هائلة ترتفع فيها الأمواج عشرات الأمتار عن اليابسة بعد أن تحدث صوتا لا يقل قوة عن هدير الرعد في مشهد يجسد عظم قوة المحيط. أقفلنا عائدين إلى بورت لويس بعد أن اختفى قرص الشمس خلف الأفق البعيد ليصطحب معه لوحة طبيعية لا تنسى.
كان الوقت ملائما لتناول وجبة عشاء من مطبخ موريشيوس فوقع الاختيار على مطعم في منطقة بلو بي يقدم تشكيلة من الطعام المحلي اللذيذ. تنفرد موريشيوس بمطبخ جمع بين النكهة الهندية المعتمد على خلطات سحرية من البهارات زكية الرائحة والمطبخ الافريقي المعتمد على تجفيف اللحوم والأسماك وأيضا الأوروبي وحتى الصيني.
كان الطعام بكل تأكيد يرضي جميع الأذواق كما هو الحال بالنسبة للجزيرة بمعالمها الجغرافية والحضارية، كيف لا وقد جمعت الدولة الصغيرة في حجمها الكبير جمالها وطموحها بين ثقافات شعوب العالم على سطح جزيرة عذراء وسط المحيط الهندي.