- مساء الورد جميعا ..
- الموضوع عن شارع في الرباط
- الشارع "البلدي"
مساء الورد جميعا ..
الموضوع عن شارع في الرباط
عجيب هو شارع محمد الخامس بالرباط عاصمة المغرب، فلو أنك وقفت في رأسه من الجهة الغربية للمدينة تقريبًا فسترى طرفه الآخر يعلو عليه مسجد السنة، وإذا عبرته فستعبر زمانين متباعدين: زمن ما بعد الاستعمار، وزمنًا يمتد من عهد المرابطين إلى عهد العلويين؛ فتمر من مدينتين: مدينة الرباط القديمة، ومدينة الرباط الحديثة، يفصل بينهما بالضرورة شارع الحسن الثاني
ويسعفك هذا العبور لتطرح شجونًا من الشهادة على العصر الذي يكرهنا على ثنائيات الأصالة والمعاصرة، الشعبي والرسمي، الإنسان المحافظ والإنسان العصري المتحرر، الروح والمادة، أو كما يقول المغاربة تعبيرًا عن الأصالة والمعاصرة: "البلدي" و"الرومي".
الشارع "البلدي"
يفرض علينا حيرة الاختيار الموهوم، والصراع بين مجتمعين، هما تحت سقف واحد، المعمار المتمايز بين الشطرين؛ إذ نجد أنفسنا إزاء نموذجين معرفيين: واحد يتربص بالرباطيين (سكان الرباط) أمام "باب الأحد" التاريخي الشهير، والآخر يحصن الرباطيين داخل المدينة. فالجزء الغربي من الشارع المتواجد في المدينة القديمة يسمى "زنقة الجزا"، عرضه يتسع لحصانين محملين فقط، ويحفظ بقايا حرف تقليدية خصوصًا المتعلقة بصناعة "اللحاف" (الأثاث المغربي التقليدي)، وتجارة الصوف، بالإضافة إلى محلات صغرى لبيع المواد الغذائية، ومحلات العطارين، أو محلات الخياطة التقليدية وفرن وحمام تقليديين، وعدد من المحلات لبيع تجهيزات حديثة، بالإضافة إلى أكثر من أربعة مساجد صغرى، وتتشعب منه أزقة ودروب أخرى بمسميات تحيل على شخصيات كان لها شأن بالمدينة، أو بعلامات تميز كل "زنقة" (زقاق) عن أخرى، وفي أركان متعددة منها تقبع زوايا و لها روادها المخلصون ومواسمها التي تجمع الأهالي وبركاتها الموفورة، تكاد تتشابه الأزقة والدروب في الجزء القديم من مدينة الرباط، وكثيرًا ما يضيع الأغراب بينها. البيوتات التي تؤثث فضاءات هذه المدينة تخضع للنمط المعماري العربي الإسلامي، حيث تقوم وحدة الجوار كخلية اجتماعية عمرانية أساسية تضمن التواصل وروح التضامن الاجتماعي، كما تقوم على التجانس في البناء بشكل يعكس البعد الأخلاقي في الإنسان فتلتزم مباني الأحياء بارتفاع يكاد يكون ثابتًا فيما عدا المساجد التي يجب أن تعلو مآذنها. تعدد الأفنية وتداخلها بين مجموعات المباني وفي داخلها لاستقطاب حياة الناس إلى الداخل.
الشارع "الرومي"
وعند نهاية زنقة "الجزا" جهة "باب الأحد" تفاجئك بناية عالية معضدة بحزام من عمارات الطراز الدولي.. تفاجئك مدينة حديثة على أنقاض مدينة أثرية، لم تبقِ لها الحماية الفرنسية معلمًا، ترمز لجبروت يستصغر الخارجين من باب الأحد ويرغمهم على تحية الحضارة المتفوقة، نموذج معماري هذه المرة يقوم على أساس استيعاب اليد العاملة المهاجرة من القرية إلى المدينة، فالمدنية حديثة ذاتية النزعة عملت على تفتيت الأسرة في شقق معلقة بين السماء والأرض، بعمارة بنيت لهدف استثماري محض، حيث يحتشد فيها العمال والموظفون دون أن يكون لهم اختيار ذوقي في عملية البناء، فداخل البيت يغيب محل الضيوف، ويعوض بتجهيز باحة الشقة الضيقة بمقاعد لضيافة عادية لا تتعدى سويعات، وكأس عصير، غرفة نوم صغيرة، ومطبخ وغرفة للأبناء، وحمام، تتوزع بشكل غير ذي معنى في غالب الأحيان.تغيب في هذا الطراز مجموعة مقاصد الاجتماع البشري، فتحل رابطة المهنية مقام رابطة القبيلة وواجب التضامن الاجتماعي الذي يفرضه الشعور بالانتماء. ويحل "الإتيكيت" محل الأخلاق، وقيم الاستهلاك والتبذير محل الاقتصاد، ولغة الأشياء المستقدمة من الغرب محل لغة الأسماء المحلية.
فالشارع بعد العبور إلى الضفة الأخرى سيتسع قليلاً لمرور الآليات التي ستملأ الفضاء صخبًا، وللعابرين المستعجلين دائمًا في قضاء حوائجهم، يبقى أن ترى واجهة الشارع الذي سيجمع بالإضافة إلى البنايات السكنية المستغلة للمكاتب الإدارية مجموعة مبانٍ حكومية على رأسها مؤسسة البرلمان والخزينة العامة وبنك المغرب ومحطة للقطار، في أشكال معمارية مختلفة ومتفاوتة ومتباينة التصاميم، بالإضافة إلى تزاحم المقاهي والفنادق والمحلات التجارية..