- ضاقت ثم فُرِجت
- أضنة والسؤال المحرج
- في الطريق إلى أنقرة
- ونزلنا في "جيهان بالاس"
- أزمة اللغة!
- في الطريق إلى إستانبول
- "سبيك أربك"؟!
- قرآن وأذكار.. ولا عربية!!
- الباخرة إلى الشاطئ الآخر
- البحث عن "مصطفى بلجه"
- السكنى في حي شيشلي
- ومنها ما هو مقطع بالفعل وموضوع على السيخ ومعد للشي مباشرة.
زيارتي لسيدة العالم "سابقا"!!
اخترت لكم أجزاء من مذكرات الأستاذ الدكتور القرضاوي عن رحلته عام 1967م يعني قبل حوالي 40 سنة إلى تركيا، التي كانت في يوم من الأيام سيدة العالم، حيث كانت معقل الخلافة الإسلامية.
المصدر: http://www.islamonline.net/Arabic/Karadawy/part3/2003/12/article01.shtml إلى تركيا عوضا عن لبنان
كنا قد حجزنا من قبل للسفر إلى لبنان في منتصف حزيران -يونيو- كالعادة بمجرد انتهاء العام الدراسي، وتواعدنا مع بعض الإخوة الذين يعملون في قطر أن نلتقي في مصيف "سوق الغرب" في "فندق فاروق" وهو فندق نزل فيه بعض زملائنا، وأثنوا على صاحبه "أبو فاروق" وهو مسيحي دمث الأخلاق، وقد سمى الفندق باسم ابنه.
وكان المعتاد والمفترض أن نبقى في الفندق عدة أيام، نبحث فيها عن مسكن مناسب لنا نقيم فيه طوال فترة الإجازة، ولكنا وجدنا الحياة في لبنان كلها شبه معطلة بعد الحرب، ولم تَعُد الحياة إلى البلد من جديد.
لذا أشار علينا بعض إخواننا أن نذهب إلى تركيا؛ لنقضي فيها إجازة الصيف، في مدينة إستانبول خاصة، تلك المدينة الجميلة الرائعة، التي تجمع بين آسيا وأوربا، والتي كانت عاصمة الخلافة الإسلامية لآل عثمان عدة قرون، بل كانت في وقت من الأوقات سيدة العالم!
وقيل لنا: إن عددا من الإخوة الذين يعملون في قطر، قد سبقونا بالسفر إلى إستانبول عن طريق "الباصات" السياحية الفارهة، التي تقلهم من بيروت إلى إستانبول في يومين، على ما أذكر.
ضاقت ثم فُرِجت
وراقت لنا الفكرة، أن نزور تركيا، ونتعرف على آثارها وجوامعها ومكتباتها وأسواقها وشواطئها وجبالها ومضيق البوسفور فيها. إنها فكرة محببة ومطلوبة، ولا يرغب عنها أحد.
ولكن بقيت أمامنا مشكلة، هي أن الذين يذهبون عن طريق الحافلات "الباصات" السياحية، يمرون بسوريا -لا بد- في طريقهم إلى تركيا، وسوريا يحكمها البعثيون العلويون، ومن المؤكد أن اسمي من الأسماء الممنوعة من دخول سوريا، فكيف نخاطر، ونقطع التذاكر، ونذهب إلى الحدود، ثم قد نفاجأ بردنا، وربما قيادتنا إلى الشرطة للتحقيق معنا، وربما حجزونا أياما، قد تقل أو تكثر، فهذه الأنظمة الشمولية القمعية، التي ابتليت بها بلادنا العربية والإسلامية لا يوجد في قوانينها شيء محظور! كل شيء مباح لهم، وإن حرمته قوانين الأرض وشرائع السماء.
وفكرنا أن نأخذ الطائرة من بيروت إلى إستانبول، لكن وجدنا ثمنها غاليا، يرهقنا عسرا.
ثم أشار علينا بعض العارفين بوسيلة أخرى، نتخطى بها المرور على سوريا وما فيها من أخطار، ولا تكلفنا كثيرا، وهي أن نأخذ الطائرة التركية من بيروت إلى مدينة "أضَنَة" جنوب تركيا، بالقرب من الحدود السورية، ومن "أضنة" نأخذ الحافلة إلى "إستانبول" إن شئنا، أو إلى "أنقرة" ثم إستانبول.
ورحبنا بهذا الاقتراح، وقطعنا التذاكر لي وللأسرة إلى "أضنة" ذهابا وعودة، وكان معي في هذه الرحلة من أولها إلى آخرها أخونا وصديقنا الأخ العالم الداعية الحبيب الشيخ علي جماز رحمه الله وأسرته، وكانت أسرته تتكون من زوجته وابنه طارق، وهو في السابعة أو الثامنة من عمره.
وقررنا معا أن نأخذ هذه الرحلة على مراحل: نبقى في "أضنة" ثلاثة أيام، ثم نذهب إلى أنقرة، ونبقى فيها ثلاثة أيام، ثم نغادر إلى إستانبول لنقضي فيها بقية مدة الإجازة.
أضنة والسؤال المحرج
وفي اليوم المحدد امتطينا الطائرة، لتهبط بنا بعد نحو ساعة أو أكثر إلى مطار أضنة، ولقد سرنا أن كثيرين في هذه المدينة يتكلمون العربية، فلم نجد صعوبة في التعامل معهم، ولا ريب أن وحدة اللغة من أقوى وسائل التفاهم بين البشر.
واستأجرنا سكنا في أحد الفنادق، وكان سعره رخيصا إلى حد بعيد، وتعرفنا على بعض المطاعم لنأكل فيها "شيش كباب" هكذا يسمونه، وأحسب أننا أخذنا منهم هذه التسمية. وكثير من أسماء المأكولات نجدها مشتركة، كالبامية مثلا.
أما "المحشي" فيسمونه "ضُلْمة". والبطيخ يسمونه "قَرْبوز" والشمام يسمونه "قاوون" وهذه كلمة مستعملة في بعض أقاليم مصر.
وسألنا الإخوة الذين ينطقون العربية أن يدلونا على أماكن النزهة، فدلونا عليها. وكانت نزها جميلة، لولا ما يعكرها من قرص "الناموس" الذي لدى زوجتي حساسية منه، فهو يترك في جسمها أثرا ظاهرا.
كما كان يعكر علينا صفونا في كل مكان ذهبنا إليه، سؤال صعب يوجهه إلينا الأتراك، بعد هزيمة حزيران "يونيو"، هذا السؤال الذي واجهونا به هو: كيف يُهزَم العرب وعددهم مائتا مليون، أمام إسرائيل وعددها 2 مليون؟! كيف يهزم الواحد من اليهود مائة من العرب؟
بعضهم يقول هذا تشفيا من العرب وشماتة بهم، وهؤلاء هم العلمانيون. وبعضهم يقول هذا حزنا على العرب، أو قل غضبا على العرب، ولم نجد جوابا شافيا، يمكننا أن نجيب به القوم، يقنعهم ويسكتهم، إلا أننا قلنا لهم: لقد دخل اليهود المعركة ومعهم التوراة، ونحن دخلنا المعركة وليس معنا القرآن، لقد دخلوها يهودا، ولم ندخلها نحن مسلمين!.
في الطريق إلى أنقرة
وبعد أيامنا في أضنة، قطعنا التذاكر لنمتطي حافلة من الحافلات السياحية التركية المريحة المهيأة لمثل هذه الأسفار الطويلة، والتي تقوم عليها شركات متخصصة معروفة، ولها مكاتبها في لبنان وسوريا وغيرها من بلاد العرب.
وكانت أجرة الحافلة رخيصة جدا، من أضنة إلى أنقرة، هي تأخذ في الطريق حوالي 8 ساعات أو 10 ساعات، لا أذكر. وهي تمر بنا على مناظر رائعة الجمال، ما بين جبال يكسوها بساط سندسي أخضر، وسهول مزروعة بالمحاصيل، وغيرها من المشاهد التي تمتع العين، وتبهج النفس، وتنعش الفؤاد.
وبعد كل ساعتين، تتوقف الحافلة في أماكن معينة معدة للاستراحة، نشرب فيها الماء، أو العصير، أو "الأيْران" وهو اللبن الرائب، الذي تمتاز به تركيا، ويقدم في كل المطاعم مع المآكل والمشارب.
وقد نشتري بعض "المكسرات" من البندق أو الفستق أو اللوز أو الجوز "الذي نسميه في مصر عين الجمل".
وفي بعض المرات يكون موعد الصلاة، فنتوضأ ونصلي الظهر والعصر في الطريق قصرا وجمعا، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وفي بعض الطرق نجد أكلات خفيفة، تسد رمق المسافر، وأحيانا نجد "المشويات" التركية. ولا بد أن نتزود في الطريق إلى أن نصل إلى مقصدنا.
قضينا يوما كاملا ممتعا حقا، في طريقنا إلى "أنقرة" العاصمة السياسية لتركيا في العهد الجمهوري منذ انقلاب أتاتورك.
ونزلنا في "جيهان بالاس"
وعندما وصلنا إلى هناك سألنا عن فندق ملائم في وسط البلد، فدلنا بعضهم على فندق "جيهان بالاس" فاستأجرنا سيارتين صغيرتين -لنا وللشيخ جماز- لتنقلنا إلى الفندق المذكور.
ونزلنا الفندق الذي كان موقعه مهما في صرة المدينة. ونزلنا للعشاء في أقرب مطعم، وفي الصباح تناولنا فطورنا، وأذكر أنه من ألذ الأطعمة في تركيا "اللبن" الذي يسميه المصريون "اللبن الزبادي"؛ لأنه كان يوضع في "زبدية" وهي وعاء فخاري صغير، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وسمي "الزبادي". وإخواننا في بلاد الشام "سوريا ولبنان والأردن وفلسطين" يسمونه "اللبن". ونحن -المصريين- نطلق كلمة "اللبن" على ما يسمونه هم "الحليب".
وأعتقد أن تسمية المصريين للحليب "لبنا" تسمية صحيحة، وهي تسمية قرآنية، فقد قال تعالى: "وَإِن لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَة نسْقِيكُم مما فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لبَنا خَالِصا سَائِغا لِلشارِبِينَ" .
خرجنا في الصباح نتجول في الشوارع التي حولنا، وإذا بنا نكتشف قرب الفندق حديقة كبيرة، من أكبر الحدائق السياحية، التي تشتمل على ملاهٍ وألعاب متنوعة، فوجد الأولاد فيها ضالتهم، وغرقوا في الألعاب المختلفة، وأخذت هذه الحديقة جل أوقاتنا وشغلتنا عن كثير من الفسح، التي لم تأخذ منا إلا أقل الوقت.
أزمة اللغة!
وكان البعض قد نصحنا أن نأخذ القطار -قطار الشرق- من أنقرة إلى إستانبول، وقلنا: فكرة معقولة، وأردنا أن نجد أحدا نسأله عن محطة قطار الشرق أين تكون، وكيف نحجز أماكننا، أو نقطع تذاكرنا، فلم نجد أحدا يعرف العربية، يفيدنا في هذا الأمر. وحزنت على نفسي أني لم أتقن اللغة الإنجليزية، رغم ما كان لدي من قدرة لغوية غير عادية، واستعداد نفسي للتعلم، فأصبحت لا أملك اليوم من اللغة ما يمكنني من التفاهم في الأمور البسيطة؛ ولذا حرصت على أن يتقن أولادي جميعا الإنجليزية، ومن استطاع أن يتعلم لغة أخرى فهو أفضل.
على أن تعلم الإنجليزية في تركيا لا يفيد كثيرا، فقليل جدا من الأتراك في ذلك الوقت كانوا هم الذين يعرفون الإنجليزية؛ ولذا من الصعب أن تجد من يتفاهم معك بغير التركية، حتى الألفاظ المتداولة من الإنجليزية، التي يعرفها كثير من الناس لا يعرفونها.
وأخيرا وبعد لأي، وجدنا تركيا أصله عراقي، يعرف عربية مكسرة، ففرحنا به، وقلنا: مكسرة مكسرة، المكسر خير من العدم.
وصحبَنا الرجل إلى محطة القطار، فوجدنا القطار يحتاج إلى حجز، ووقت، وليس أمامنا وقت، فنصحنا الرجل أن نأخذ "الباص" ودلنا على شركة للباص، تنقل الركاب إلى "إستانبول" اسمها: "جول هانه". ومن فضل الرجل أنه وصلنا إليها -أنا والشيخ الجماز- وقطعنا التذاكر من المحطة لنأخذ أول دفعة في السابعة صباحا، وكان ثمن التذكرة رخيصا جدا "15 ليرة تركية" أي نحو دولار وربع دولار للفرد.
في الطريق إلى إستانبول
وفي الصباح الباكر ركبنا الحافلة، وقرأنا كالعادة أدعية الركوب والسفر، وقد اجتهدت أن أحفظها لبناتي الصغيرات حتى يتعودن عليها. فكنت كلما أركب طائرة أو سيارة أجهر بصوتي: الله أكبر. الحمد لله. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم بك نصول، وبك نجول، وبك نسير، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد. اللهم هون علينا سفرنا واطو عنا بعده. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
نتلو هذه الدعوات، في الذهاب، وفي الإياب، ونزيد في الإياب: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
وكان معظم الطريق ممطرا، ونحن لم نتعود على هذه الطرق الجبلية الصاعدة والمتعرجة، فكنا نخاف من الزلق مع شدة المطر، فنقرأ الدعاء المأثور: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وكان الطريق إلى إستانبول، كالطريق إلى أنقرة، تمتعك خضرته، وتسحرك نضرته، وتروعك جباله التي ألبسها باريها حلة خضراء، تسر الناظرين. وزاد هذا الطريق أننا نمر فيه على "بحر مرمرة" فنستمتع بالنظر إلى المياه مع الخضرة والوجوه الحسنة، وهي الثلاثة التي يقول فيها الشاعر:
ثلاثة يذهبن عنكم الحزن الماء والخضرة والوجه الحسن
واستمتعنا بالاستراحات في الطريق، وشربنا الأيران، وأكلنا المكسرات، وإن كان نزول المطر قد حرمنا النزول أحيانا.
وحوالي الخامسة مساء -بعد العصر- وصلنا إلى المحطة النهائية في إستانبول، ونزلنا في المحطة الأخيرة، لنبحث أين نذهب؟
"سبيك أربك"؟!
كانت رحلتنا بدون تخطيط، ولا معرفة سابقة، ولا خريطة دالة، ولا دليل يهدي، ولا عناوين أو تليفونات لأشخاص يدلوننا على ما نقصده أو يساعدوننا في تذليل الصعاب التي تواجهنا.
كل ما كان معنا هو تليفون لشخص واحد وعنوانه، أملاه علي الأخ عادل عاقل مدير دار الإرشاد للنشر، حين علم أني ذاهب إلى إستانبول. إنه عنوان وتليفون الأخ مصطفى بلجه، الذي لم أكن سعدت بمعرفته من قبل، وهو في منطقة "الفاتح" أي التي فيها جامع السلطان محمد الفاتح، وهو يعرف العربية جيدا، ومن أبناء الدعوة الإسلامية.
وحين نزلنا -أنا والأخ علي جماز- سألنا عن منطقة الفاتح كيف نذهب إليها؟ ولكن كلما سألنا أحدا لا يرد علينا؛ لأنه لم يفهم ما قلنا له. إنها مشكلة اللغة مرة أخرى!.
ووقفنا في طريق يمر منه الناس، نتوسم أحدا يعرف العربية ولو مكسرة، وكلما مر شخص قال له الأخ الشيخ جماز: "سبيك أَرَبِك"؟ قلت له: وماذا تفيد كلمة "سبيك أربك" هذه؟ إنها لا تفيد إلا من يعرف الإنجليزية. الأولى أن نقول له: هل تعرف العربية؟ فإن كان يعرف أجاب ب"نعم". وإلا لم يرد عليك.
وذكرنا النكتة التي قالها أحد الظرفاء، أن أحدهم كان في لندن، وهو لا يعرف غير العربية، ويريد أحدا يعرف العربية يسأله عن شيء، فوقف أمام إحدى السينمات، والناس خارجون، يقول لكل من يواجهه: أنت رجل حمار! أنت رجل حمار! والناس يمرون عليه، ويسمعون هذه الكلمة ولا يعيرونه التفاتا، إلى أن مر عليه أحدهم، فقال له: أنت رجل حمار! فقال: أنت ستين حمار!.
فهناك أمسك به وقال له: إياك أريد. فأنا ما قصدت شتمك، إنما أردت اكتشافك.
ولم تجدِ معنا طريقة: هل تعرف العربية؟ كما لم تجد: سبيك أرَبِك؟
قرآن وأذكار.. ولا عربية!!
فخطر لنا خاطر -وقد اقترب موعد أذان المغرب- أن نذهب إلى المسجد، نصلي فيه المغرب، لعلنا نجد إمام المسجد يعرف شيئا من العربية، فنسأله عما نريد.
وذهبنا وصلينا وراء الإمام الذي أمنا، وقرأ القرآن فأحسن تلاوته، ثم فرغ من صلاته وصلى ركعتي السنة، ثم ختم الصلاة على طريقة الأتراك، وأعطوا كل واحد منا مسبحة، ليعد الثلاثة والثلاثين تسبيحة وتحميدة وتكبيرة، ثم ختم المائة ب"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ثم قال: "سبحان ربي الأعلى الوهاب" ودعا الناس، كل بما في نفسه، ثم ختم الإمام هذا كله بعُشر من القرآن تلاه بصوت رخيم، وبدأ الناس ينصرفون، فاتجهنا إلى الإمام نكلمه، فوجدناه لا يعرف معنى كلمة في العربية. إنه يحفظ القرآن، وإن كان لا يفهمه، وهذه معجزة هذا الكتاب، وجدناها من قبل في الهنود والباكستانيين والأفغان، ونجدها اليوم في الأتراك.
وظللنا نكلم بعض الناس، عسى أن نجد فيهم من يعرف شيئا من العربية، حتى عثرنا أخيرا بين المصلين على واحد يعرف بعض كلمات من العربية، فكأنما عثرنا على كنز ثمين.
سألنا الرجل: أين منطقة الفاتح؟ فقال لنا كلاما كثيرا بعضه بالتركية، وبعضه بالعربية، عرفنا من خلاصته: أننا في البر الآسيوي من مدينة إستانبول، ومنطقة "الفاتح" في البر الأوربي منها، ولا بد أن نركب "الوابور" أي الباخرة لتنقلنا إلى الشاطئ الآخر، ثم نستأجر سيارة "تاكسي" لتأخذنا إلى منطقة الفاتح، وهناك تسكنون في فندق إلى الصباح، ثم تبدءون البحث عن صديقكم.
وتنفسنا الصعداء، وقلنا: الحمد لله، قد عرفنا طريقنا، وعرفنا كيف نصل إلى مقصودنا.
وهذا مثل حي للإنسان إذا أراد هدفا لا يعرف طريقه، ولا يعرف دليلا يوصله إلى هذا الطريق.
وهذا هو السر في بعث الله رسله إلى الناس حتى يهدوهم إليه، ويعرفوهم الطريق إلى مرضاته، وإلا ضاع الناس، وبقوا حائرين، لا يدرون أيشرقون أم يغربون؟ وربما ذهبوا شمالا وهم يبغون اليمين، أو العكس.
الباخرة إلى الشاطئ الآخر
استأجرنا سيارة أجرة لتنقلنا إلى محطة الباخرة أو "الوابور" كما قال الأخ التركي. وقطعنا التذاكر، وركبنا لأول مرة هذا النوع من البواخر التي تنقل الركاب من شاطئ لشاطئ، وكانت رحلة ممتعة بعد المغرب، ونحن نشق عُباب "البوسفور" في هذه الجو المنعش، ونسمات البحر تهب علينا، وقد قلنا عندما ركبناها ما قاله سيدنا نوح عليه السلام حينما ركب سفينته، وقال لمن معه: " ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِن رَبي لَغَفُورٌ رحِيمٌ " .
ووصلنا إلى الشاطئ الأوربي في محطة أو مرسى يسمى "قاضي كوى" والمرسى في الشاطئ الآخر يمسى "كراكُوي".
ومن "قاضي كوى" أخذنا سيارتين لأسرتينا، وقلنا له: نريد فندقا في منطقة "الفاتح" فذهب بنا إلى فندق، وآخر، فلم نجد مكانا فارغا، فاقترح الرجل أن نذهب إلى "أقصراي" قلنا: لا بأس. ونحن لا نعرف شيئا لا عن أقصراي ولا عن غيرها.
وفي أقصراي وجدنا فندقا مناسبا، يملكه رجل أصله حلبي، ويعرف العربية، وكان هذا كسبا كبيرا لنا، أن نجد من يعرف العربية، ويستطيع أن يفهمنا ونفهمه، ولكن لم يكن صاحب الفندق موجودا في ذلك الوقت.
ونحن نريد أن نقيم في الفندق لعدة أيام فقط؛ لأن تكاليف الفنادق فوق طاقتنا، وإنما هي مرحلة ضرورية حتى نتسأجر منزلا أو شقة مناسبة، فننتقل من الفندق إليها، وكلما طالت إقامتنا في الفندق زاد العبء علينا، وكلما قصرت مدة الإقامة كان في ذلك سعة وبحبوحة لنا.
البحث عن "مصطفى بلجه"
وفي الصباح بعد أن تناولنا فطورنا، شرعنا في البحث عن الشخص الوحيد الذي نعرفه باسم "مصطفى بلجه" واتصلنا بالتليفون الذي أعطاه لي عادل عاقل، وردت علينا امرأة، لم نفهم منها شيئا، ولم تفهم منا شيئا، إلا أن مصطفى غير موجود.
فقلنا: نذهب نبحث عن البيت حسب العنوان، ونترك رسالة مكتوبة، وظللنا نمشي في منطقة الفاتح يمينا وشمالا؛ لنبحث عن الشارع الذي فيه العنوان، فلم نهتدِ إليه، فنفضنا أيدينا يأسا من الوصول إليه، وعدنا إلى الفندق.
وبعد عودتنا إلى الفندق، كان من حظنا أن وجدنا صاحب الفندق، وهو يتكلم العربية بطلاقة، ورحب بنا، وقلنا له: إننا نريد من يساعدنا على استئجار منزلين، أو شقتين في مكان مناسب، وبسعر مناسب، فقال: يسكن بجوار الفندق طالب عربي شهم كريم، من الأردن، وهو يدرس بالجامعة هنا منذ سنوات، ويعرف البلد هنا تماما، وأعتقد أنه إذا عرف بوجودكم فسيسره أن يخدمكم. وأرسل إليه بالفعل أحد موظفي الفندق، يستدعيه إلينا، فلبى النداء مشكورا، وحضر مسرعا، فتعرف علينا، وفرح بلقائنا، وقال: أنا متفرغ لخدمتكم في كل ما تريدون، وليس عندي شيء محدد يشغلني الآن، فنحن في فترة الإجازة.
وكان الأخ محمد فرحان هجاينه "الأستاذ الدكتور الآن" عند حسن الظن به، فوضع جهده ووقته للبحث معنا عن المسكن الملائم، وظللنا يومين نبحث في إستانبول، وهي مدينة كبيرة رحبة، فيها الجانب الآسيوي، والجانب الأوربي، ولكنا اخترنا أن نسكن في الجانب الأوربي، فهو الحافل بالآثار الإسلامية، والجوامع الضخمة، والمكتبات والأسواق المغطاة والمكشوفة، وغيرها.
وبعد معرفتنا بجغرافية المدينة، رأينا أن أكثر الأماكن مناسبة هو ما كان حول منطقة "تقسيم" الشهيرة، التي تعتبر مركز القسم الأوربي من المدينة.
السكنى في حي شيشلي
وفعلا في اليوم الثالث، وفقنا إلى شقتين مناسبتين جدا، لي وللأخ الجماز، وكلتاهما في منطقة تسمى "شيشلي" وهي منطقة راقية وهادئة وآمنة. أشبه بحي العجوزة أو الدقي بالقاهرة الكبرى. وكانت أجرة الشقة معقولة بل رخيصة جدا، فهي في الشهر 500 ليرة تركية، وكان الدولار يصرف ب12 ليرة. يعني أن أجرة الشقة الشهرية -وهي مفروشة ومجهزة بكل اللوازم- نحو 40 دولارا.
وكان للسكنى في حي شيشلي مزايا كثيرة، منها: القرب من حدائق كثيرة، كنا نذهب إليها معظم الأيام، مصطحبين الأطفال؛ ليسرحوا في هذه الحدائق ويمرحوا، ويلعبوا بالأراجيح والأدوات الكثيرة والمتنوعة، المهيأة للأولاد.
ومعظم هذه الحدائق مجانية معدة لخدمة أبناء الشعب، وقليل جدا منها هو الذي يحتاج إلى دفع رسوم؛ لأنها تحتوي آثارا مهمة، وهي رسوم غير باهظة.
ومن المزايا التي اكتشفناها لمنطقة "شيشلي" أنها تتمتع ب"سوق متنقلة" تقام بها كل أسبوع مرتين.
يأتي الباعة بكل الأصناف: الخضراوات والفواكه واللحوم، وأنواع المأكولات والملبوسات، ويفرش التجار، ويعرضون بضائعهم، فيبيعونها بأثمان معقولة جدا، وفي آخر النهار حينما يريد كل بائع أن يصفي ما عنده تباع البضاعة بأقل من نصف ثمنها.
ومن هذه السوق اشترينا كل حاجاتنا، وخصوصا مع رخص الليرة، وقدرتها الشرائية العالية في ذلك الوقت.
وأذكر أننا لقينا الأخ الصديق الأستاذ عبد الحميد طه، زميلنا في قطر، والذي سبقنا مع أسرته إلى إستانبول، والذي أخبرنا أن الأسعار هنا رخيصة بالنسبة إلى لبنان. وكان يقول: اقسِم على أربعة تعرف الفرق. أي أن الليرة اللبنانية تساوي 4 ليرات تركية.
وكان من مزايا منطقة شيشلي أنها قريبة من المحلات الكبيرة المتخصصة في بيع اللحوم، وقد اكتشفنا هذه المحلات التي تبيع اللحوم مصنفة ومقطعة ومجهزة.
فمنها ما يباع قطعا كبيرة، فخذا أو كتفا. ومنها ما يباع قطعا صغيرة تصلح للسلق أو للشي، أو لغير ذلك.
ومنها ما هو مقطع بالفعل وموضوع على السيخ ومعد للشي مباشرة.
وكانت هذه اللحوم في غاية الجودة، وغاية الرخص، وقد دعونا بعض الإخوة الأتراك على غداء أو عشاء، وأطعمناهم من هذه اللحوم، فسألونا: من أين لكم بهذه اللحوم الجيدة؟! لقد عرفنا من خبايا إستانبول ما لم يعرفه أهلها الذي يعيشون فيها؛ لأنهم يعيشون غالبا في مناطق شعبية ليس فيها هذه الإمكانات.
زيارة الجوامع والمتاحف والآثار
اكتشفنا هذه المزايا للمنطقة التي وفقنا الله للسكنى فيها، فكانت قريبة من كل ما ذكرناه.
كما كانت قريبة من مناطق الجوامع والآثار العثمانية الفريدة، التي بدأنا نخطط لزيارتها، فزرنا "جامع السليمانية" الشهير، وهو تحفة معمارية إسلامية، قلما يوجد لها نظير، في أعمدته وقبته وزخارفه.
وكان المسجد أو الجامع عند الدولة العثمانية مؤسسة كاملة، تقام بجواره مكتبة علمية، ومساكن للطلاب، وحدائق تجمل المكان، وتملؤه بهجة، وتجعل منه روحا وريحانا.
وزرنا كنيسة "آيا صوفيا" الشهيرة التي حولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، وغطى الصور والتماثيل الموجودة فيها، وظل المسلمون عدة قرون يصلون فيها، فلما حدث الانقلاب العلماني في عهد أتاتورك، وألغيت الخلافة، وعطلت الشريعة، وحذف كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، حتى الحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية؛ ألغيت واستبدل بها الحروف اللاتينية، حتى الأذان منع
محاولة تعلم التركية
في هذه المدة بدأنا نتعلم شيئا من اللغة التركية، وقد أعطى لنا بعض الإخوة كتابا في تعلم التركية، استفدت منه كثيرا. والحقيقة أن اللغة التركية لغة سهلة جدا، ومما يزيد في سهولتها وجود كلمات عربية كثيرة بها؛ فهي مزيج من العربية والفارسية والطورانية القديمة، وإن كان العلمانيون منذ أتاتورك يحاولون أن يفرغوها من الألفاظ العربية، كما حرموا كتابتها بالحروف العربية، فقطعوا أجيال الأمة عن تراثهم كله، وعزلوها عزلا تاما، وكان هذا مقصودا لهم.عرفت الأرقام؛ فحفظها سهل، وبعضها مستعمل في بلادنا. مثل كلمة "بير" أي واحد، "بيرنجي" أي الأول، وكنا نقول في المدرسة: فلان بيرنجي الفصل، أي الأول عليه.
وكلمة "أون" أي عشرة، و"يوز" أي مائة، و"بن" أي ألف. وفي الرتب العسكرية: نجد رتبة "أون باشي" أي رئيس عشرة، و"يوز باشي" أي رئيس مائة، و"بن باشي" أي رئيس ألف. وهو الذي كان يسمى أيضا: "بكباشي".
وهناك كلمات تركية منتشرة بيننا مثل "أوده" أي حجرة، ومثل "اختيار" أي كبير السن، ومثل: يا واش يا واش، بمعنى: على مهلك... إلخ.
ومن المفارقات اللغوية الطريفة أن الإخوة دلونا على مطعم في أقصراي يقدم أكلات طيبة، ولا يقدم خمرا؛ فكنا نؤثر أن نذهب إليه بين الحين والحين، وكنا نطلب منه بعد الطعام طبقا من البطيخ، فإذا هو يقدم لنا طبقا من الشمام، وتكرر ذلك عدة مرات، ثم اكتشفنا سبب هذا الخطأ، وهو أن الكتاب الذي نتعلم منه التركية كتب أمام كلمة "بطيخ": كلمة "قاوون" بالتركية، وكلمة "بطيخ" عند العراقيين، ومنهم مؤلف الكتاب معناها "الشمام"، أما ما يسمى عندنا "البطيخ" نحن المصريين، فاسمه عندهم: "الرقي".
والبلاد العربية تختلف في بعض الأشياء اختلافا شاسعا، تضلل من لم يحط بها علما، من ذلك ما يسمى به هذه الفاكهة؛ فالمصريون يسمونها البطيخ، وفي معظم بلاد الشام يسمى البطيخ الأخضر، والشمام: البطيخ الأصفر، وفي الحجاز يسمى "الحبحب"، وفي قطر ونجد يسمى "الجح"، وفي حلب وما حولها يسمى "الجبَس"، وفي العراق يسمونها "الرقي" (نسبة إلى مدينة الرقة)، وفي بلاد المغرب كلها يسمى "الدلاع".
المهم أننا عرفنا أن البطيخ (المصري) يسمى بالتركية "قربوز" فبدأنا بطلب "قربوز" إذا أردنا البطيخ، "وقاوون" إذا أردنا الشمام.
جولة في أسواق تركيا
والذي يزور تركيا لا بد له أن يزور أسواقها، وفيها أسواق كثيرة، من أشهرها "السوق المغطى" ويسمى "قبالي تشارشي"، وتشارشي: سوق، وقبالي: مغطى.
وهو سوق كبير حافل، ومنه تُشترَى التحف من النحاس، ومن الرخام، ومن غيرهما، كما تُشترَى منه أشياء أخرى كثيرة.
وهناك أسواق للمأكولات، وخصوصا الأجبان والحلويات وأنواع المَلْبن الذي يسميه إخواننا في الشام "راحة" أو "راحة الحلقوم".
وهناك أسواق الملبوسات، وقد تميز الأتراك بصناعة أنواع من الملبوسات وخصوصا للنساء، بعضها من الصوف، وبعضها من أنواع نسيت اسمها، تصلح في الربيع والخريف، بل في الصيف أيضا.
وكانت الأسعار رخيصة بالنسبة لغيرها من الأقطار الأخرى، ومنها قطر ولبنان.
وبالممارسة والخبرة والمعايشة عرفنا هذه الأسواق، وعرفنا كيف نصل إليها بأقدامنا، وعرفنا الأماكن والمحلات الأكثر رخصا من غيرها رغم جودة السلعة، وقد اشترينا كل ما نحتاج إليه لأنفسنا ولمن نحب أن نهدي إليه.
زيارة جزر مرمرة
واقترح علينا الأخ طه الجوادي أن نزور "الجزر" المشهورة في بحر مرمرة، وهي معالم لا بد لمن يزور إستانبول أن يزورها.وهذه الجزر تزار بواسطة بواخر معينة، دلنا الإخوة عليها، وصحبنا بعضُهم، وكنا وأسرة الشيخ الجماز معا، وتبدأ الزيارة عادة بالجزر الصغيرة، ثم تنتهي بالجزيرة الكبرى، ويسمونها "بيوك أضا" وأضا: معناها جزيرة، وبيوك: معناها: أكبر، أو كبرى؛ فالمعنى: الجزيرة الكبرى، ومن خصائص هذه الجزيرة أنها لا تمشي فيها سيارة، بل يمنع دخول السيارات إليها ولكن ينتقل الناس بعربات الخيل التي نسميها في مصر "الحنطور". فمن أراد أن يطوف بالجزيرة، ويطلع على معالمها استأجر حنطورا، مر به في دورة معلومة، وعاد به إلى حيث بدأ، وهذا ما فعلناه.
ثم تناولنا الغداء هناك، وعدنا آخر النهار بحفظ الله تعالى.
زيارة يالُوَا وترمل
ومن المعالم المهمة التي يجب أن تزار منطقة "يَالُوا" وحمامات ترمل، ومدينة "بورصة" التاريخية. وقد جاء أحد الإخوة معنا ليوصلنا إلى هناك ثم نعود.وركبنا الباخرة السريعة "إكسبريس" من مرساها في إستانبول لتذهب بنا إلى شاطئ يالوا، وقطعنا المسافة في ساعتين على ما أذكر، وهي رحلة بحرية جميلة في ذاتها، تستمتع فيها بالبحر ونسيمه، وحين ذهبت إلى يالوا لم نقم بها؛ فإن قصدنا هو منطقة ترمل بعدها بنحو بضعة عشر كيلومترا على ما أذكر أو أقل من ذلك.
واستأجرنا سيارتين: واحدة لأسرتي، وواحدة لأسرة الأخ الشيخ الجماز؛ لنصل إلى قرية بجوار حمامات ترمل، اسمها "جوكشدرا"، وفيها ستكون إقامتنا لمدة 10 أيام.
والواقع أننا وجدنا هذه القرية بسيطة وجميلة وممتعة، ووجدنا فيها بيتا ريفيا مناسبا، فيه شقق للإيجار، أخذنا شقة لنا، وشقة للأخ الشيخ علي.
وكان أهل البيت من الفلاحين الطيبين المتدينين، كنا نشتري منهم في الصباح اللبن الحليب الطازج بعد أن يحلبوه من البقرة، ونشتري الخضراوات والفواكه واللحوم من السوق، وهي في منتهى الجودة، ومنتهى الرخص. وأحيانا يمر باعة الفواكه والخضر أمام البيت، ونشتري منهم ما نريد.
وكان الخوخ -أو الدراق كما يسمه إخواننا في الشام، ويسمى بالتركية الشفتلي- من أجود الفواكه وأرخصها.
وكنا نذهب إلى الجزار ومعنا الخضار والبصل؛ ليعد لنا "براما" (إناء من الفخار) من اللحم، نذهب به إلى الفرن، لينضجه لنا على نار هادئة، على أن نتسلمه في ساعة محددة، وهي أكلة شهية جدا.
وكنا نذهب كل يوم في الصباح وفي المساء غالبا إلى منطقة ترمل، مشيا على أقدامنا؛ فهي قريبة جدا، ومن أراد دخول الحمامات -وهي معدنية- دخلها. ومن لم يرد جلس في الحديقة الفيحاء، يستمتع بهوائها وأزهارها المنسقة، وما فيها من أراجيح وألعاب للأطفال، وهي فسحة يومية مجانية رائعة.
وفي القرية مسجد نذهب إليه، ونؤدي فيه صلاة الجماعة، وأذكر هنا أن صلاة الجماعة في المساجد التركية جميعا في المدن والقرى لها مراسم تلتزم، ومصبوبة في قوالب لا يجوز لأحد أن يغير فيها شيئا؛ فبعد الأذان تصلي السنة القبْلية الراتبة: ركعتين أو أربعا، ثم تقام الصلاة، ويصلي الإمام، والناس خلفه صامتون لا يقرءون، سواء كانت صلاة جهرية أم سرية، كما هو رأي المذهب الحنفي، وهو مذهب الأتراك الملتَزَم، ثم بعد السلام يقول الإمام والمصلون: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يقومون لأداء صلاة السنة البَعْدية، مؤخرين التسبيح والتحميد والتكبير لما بعد النافلة، كما هو رأي الحنفية، ثم يجلسون لختام الصلاة.
وفي كل مسجد عدد من المسابح يوزعونها على المصلين؛ ليعدوا عليها التسبيحات الثلاثة والثلاثين، وكذلك التحميدات والتكبيرات، ثم يختمون المائة ب"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو على كل شيء قدير"، يقولها الإمام بصوت مسموع، والناس يرددونها معه، ثم يقول الإمام: "سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب"، ويدعو الله، ويدعو المصلون كل بما يحب، ثم يختم بقراءة عشر من القرآن الكريم. ويسلم بعضهم على بعض ثم ينصرفون، وهذا نظام صارم لا يجوز لأحد أن يخالفه، فيخرج بعد صلاة النافلة أو بعد ختم الصلاة، قبل قراءة القرآن، ناهيك بالخروج بعد صلاة الفريضة!
وأذكر أنه زارنا في هذه القرية الفقيه العلامة الشيخ مصطفى الزرقا الذي نزل في فندق القرية لعدة أيام، وقد سعدنا به في جلسة علمية نافعة، وكان مع أهله رحمه الله.
الرحيل إلى بورصة
ومن قرية "جوكشدرا" عزمنا الرحيل إلى مدينة بورصة بواسطة الحافلة "الباص"، وبعد أكثر من ساعة وصلنا المدينة العريقة التي كانت عاصمة العثمانيين قبل إستنابول، ويقال: إنها في موضع "عمورية" التي وقعت فيها الوقعة الشهيرة للخليفة "المعتصم" حين استغاثت به إحدى المسلمات لما لُطِمَت على خدها، فقالت: "وامعتصماه" في القصة الشهيرة المعروفة.ووصلنا إلى المدينة، واستأجرنا فيها فندقا لمدة يومين على ما أذكر، وكان أهم ما في المدينة هو جبالها العالية الشاهقة التي يوصل إليها بطريق هذا الباص الهوائي المسمى "التلفريك" فذهبنا إلى محطة، وقطعنا التذاكر، وانتظرنا دورنا؛ فقد كان هناك زحام ملحوظ.
وركبنا التلفريك الذي ينقلنا إلى محطة، ثم يأخذنا تلفريك آخر إلى محطة أعلى، حتى نصل إلى الجبل المنشود، وفيه برودة ملحوظة، قد حسبنا حسابها، وتلفحنا ببعض الملابس المناسبة.
وفوق الجبل المنشود توجد محلات وأسواق، وباعة لكثير من الأشياء، وأهمها: اللحم المعد للشواء، وأدوات الشي، والفواكه المختلفة، ولا سيما البطيخ الذي يسمى عندهم "القربوز".
والأكل فوق الجبل له لذة خاصة؛ فأكلنا وشبعنا، وقلنا: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين، اللهم لك الحمد على ما أطعمت، ولك الحمد على ما سقيت.
ثم أخذنا "تليفريك" آخر، نطوف به أو يطوف بنا في أنحاء الجبل، ولا سيما في المناطق العليا منه، وبعد أن قضينا يوما كاملا نزلنا إلى الأرض بالتلفريك أيضا، وذهبنا إلى الفندق لنقضي به ليلتنا.
وفي اليوم التالي ذهبنا إلى "حمامات بورصة" المعدنية التي يأتي إليها كثير من الناس للاستشفاء، وما دمنا موجودين في المدينة فلنستفد منها.
وبعدها تجولنا في المدينة وما حولها، وخصوصا الجبال التي يُشترَى منها العسل الطبيعي، الذي قال الله تعالى عنه: "فيه شفاء للناس" .
وبتنا ليلتنا الثانية هناك، ثم عدنا إلى "يالوا" ومنها إلى إستانبول.
وفي يوم من الأيام جاءنا الأخ الصديق د.طه الجوادي بسيارته المرسيدس، قائلا: أريد أن أنقلكم إلى منتجع جميل في البر الآسيوي، اسمه "يكجك" وفيه بيت للأخ مصطفى بلجة، ليس فيه أحد، يمكن أن تقضوا فيه يومين.
وركبنا الباخرة التي تنقل السيارات إلى الشاطئ الآخر، ثم ذهبنا إلى يكجك، وتركنا الأخ طه، وبقينا فيها يومين أو ثلاثة، ثم عدنا إلى مقرنا إلى إستانبول.
رحلة في البحر الأسود
ومما اقترحه علينا الإخوة أن نذهب في رحلة في "البحر الأسود" تستغرق يوما كاملا؛ حيث تذهب السفينة إلى قرب الحدود، وننزل في المحطة الأخيرة؛ لنتغدى ونصلي، ثم نعود إلى الباخرة، لنبدأ رحلة العودة، وكانت رحلة بحرية مميزة، قضينا فيها يوما من أجمل الأيام وأمتعها.الحق أن هذه الإجازة كانت إجازة ممتعة حقا، ومفيدة حقا، استمتعنا بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؛ فقد تعانق عنصر المنفعة وعنصر الجمال في كل مكان نذهب إليه؛ من حيث توافر الحاجات المادية التي تتطلبها المعيشة بأثمان زهيدة، وتوافر الجمال الطبيعي في كل مكان.
وأنا امرؤ أعشق الجمال في كل شيء، وخصوصا جمال الطبيعة الذي أراه بعين رأسي مجسدا في الجبال الخضراء، والمياه الزرقاء، والحدائق الغناء، والجوامع الشامخة، والقلاع الشاهقة، والمتاحف الناطقة؛ فتطربني هذه المشاهد كما يطرب المرء لسماع البلابل، وألحان العنادل، ولا غرو أن يطرب المؤمن للجمال يشاهده، أو يسمعه أو يحسه؛ فإن الله جميل يحب الجمال.
العودة
وكل ما له بداية له نهاية، وكان لا بد لهذه الإجازة أن تبلغ نهايتها، ونودع إخواننا وأحباءنا في إستانبول، وقد أكدوا علينا أن نعود مرة أخرى، وأكدنا لهم أننا حريصون على هذه العودة، فلم نشبع بعدُ من هذه البلاد الجميلة.بل إن بعض الإخوة أغرانا أن نشتري لنا في إستانبول منزلا أو شقة في مكان مناسب، نقضي فيه إجازتنا كل صيف، وإذا لم يقدر لنا المجيء في سنة ما يمكن إجارة هذا البيت، وقالوا لنا: إن عددا من الدعاة والعلماء تملكوا هنا بيوتا، منهم الداعية الكبير الشيخ محمد محمود الصواف وغيره، ووعدناهم بأن ننظر في هذا العرض في ضوء ظروفنا وقدراتنا.
العودة إلى أضنة بالقطار
واقترح بعض الإخوة أن نعود إلى أضنة بواسطة القطار الذي ينقلنا إلى أضنة مرة واحدة، دون أن ننزل منه، ونأخذ غرفة في الدرجة الأولى ننام فيها بالليل، والقطار يأخذ حوالي عشرين ساعة.
وراق لنا هذا الاقتراح؛ لنكتشف هذه الوسيلة إلى جوار ما اكتشفنا من وسائل النقل الأخرى: الحافلات، والبواخر، وسيارات الأجرة الصغيرة "التاكسي".
وفي الوقت المحدد حملنا حقائبنا، أو قل: حملها إخواننا جزاهم الله خيرا، وذهبنا إلى محطة القطار، أسرتنا وأسرة الأخ الجماز، وقد وقف عدد من الإخوة يودعوننا، كما ودعناهم، وأعيننا تذرف؛ فقد توثقت روابط الأخوة في الله بيننا وبين هؤلاء الأحبة الذين بذلوا من أنفسهم ومن أوقاتهم، ومن راحتهم، وربما أموالهم من أجل معاونتنا على حسن الإقامة، وأن نحيا في جوارهم حياة طيبة، جزاهم الله عنا خير ما يجزي المؤمنين الصادقين المخلصين.
وقد وصلنا إلى أضنة بعد رحلة شعرنا بمشقتها، وقد أثر دخان القطار على ملابسنا وعلى أجسامنا؛ ولذا أسرعنا بالذهاب إلى الفندق لنبيت فيه، ونزيل عنا عناء السفر، وآثار هذه الرحلة، فاغتسلنا وبدلنا ثيابنا، وبتنا ليلة في أضنة، نستقل بعدها الطائرة إلى بيروت.
العودة إلى بيروت ومنها إلى الدوحة
عدنا بالطائرة من أضنة إلى بيروت، وانطلقنا من المطار إلى سوق الغرب لننزل في "فندق فاروق" الذي نزلنا فيه قبل أن نذهب إلى تركيا، فأقمنا فيه حوالي أسبوع، حتى يأتي موعد سفرنا إلى قطر.