- شهادة كويتي زار ليبيا
- ليبيا متحف حضارات العالم
- قصة شيخ
- إلى سلوق
- أنوار درنة
- إبداع خجول
بقلم: زكريا عبدالجواد
مجلة العربي
عدد مارس 2002 ..... الكويت
شهادة كويتي زار ليبيا
ليبيا متحف حضارات العالم
أدهشتنا ليبيا, فهذا البلد قادر على منح زواره ذهولاً لا ينقطع منذ أن تطأ قدمه أرضها البكر وحتى موعد المغادرة, ولعل هذا ما حدث معنا تماماً. كانت ليبيا في الذاكرة محاطة بغلالات خادعة, حجبت في أحايين كثيرة القدرة على (تلمس) عطر حضاراتها القديمة ونموذجها الفريد, فغابت عنا وغيبتنا عنها, حتى فاجأتنا تلك الزيارة بما يدفع إلى الروح ألق الاكتشاف, وما يدخل في النفس عبق التاريخ ودفء صناعة الحضارات. جئنا إلى ليبيا على محفة أجنحتها العروبية, وانطلقنا نجول فيما أذن الوقت لنا به. ما أجمل تلك البكارة التي وجدنا ليبيا عليها. أرض في كل شبر تختزن أثرا لحضارة, ويزين بحرها الطويل البيضاوي شواطئ باهرة الزرقة, كأنه الحلم حين يدهش, وكأنها المفاجأة... مفاجأة الابحار في الغامض حين يكتسي سحراً وغرابة.
علت زغاريد النساء وصرخات الاطفال المبتهجة, متزامنة مع قفزات الرجال الى الأعلى, عندما قال قائد الطائرة بصوت أجش متقطع (لقد عدنا بسلامة الله الى مطار طرابلس الدولى).
كانت لحظة يصعب وصفها, فرحة التقاط حياة كان ميئوسا من استمرارها قبل دقائق معدودة.
وفى صالة الانتظار التى عدنا اليها, تساءلت وزميلى المصور, عما اذا كانت قفزاتنا قد لامست سقف الطائرة أم لا?, كنا مذهولين تماما لدرجة اننا اعتبرنا ان حياة اضافية كتبت لنا, بعد ان رأينا بأم أعيننا جناح الطائرة وهو يحترق ويتصاعد الدخان منه بكثافة بعد ساعة واحدة من مغادرتها بنا المطار الدولى, لم ينتبه الركاب الآخرون لما يحدث قبل ان يقول قائد الطائرة, (بسبب عطل طاريء نحن مضطرون للعودة من حيث جئنا), عندئذ حبس الجميع أنفاسه, وبقيت وزميلى ناظرين الى جناح الطائرة ودخانه الكثيف, فيما كانت الساعة القادمة التى تفصلنا عن المطار أكثر بعدا وأصعب احتمالا من قرون, قرأنا كل الآيات القرآنية التى نحفظ, وتمتمنا بأدعية نلجأ لها فى مواقف شديدة الصعوبة دائما ما تصادفنا فى عملنا الذى عادة ما يكون فى المناطق ذات البؤر الساخنة فى العالم, أو تلك التى لاتخلو من خطورة.
سألت زميلى لأستمد بعض جلد فيما اللحظات التى سبقت هبوط الطائرة تبدو وكأنها كسيحة, إن كان قد شاهد من قبل احتراق جناح طائرة خلال سفراته التى انتشرت على مساحة ربع قرن وغطت أرجاء الكرة الارضية, كنت احاول استجداء مايعين الروح على ادعاء الشجاعة, ومايدفع الى القلب المضطرب لمسة من دفء زائف, ولكن كيف لكل هذا الخوف الثقيل ان ينداح بكلمة, فيما مصيرنا ومصير من معنا مرهون بتصرف رجل يقود الطائرة ويسابق زمنا وحريقا كان لايزال متأججا فى الجزء الأيسر المدبب من جناحها.
كلفنا هذا الجناح ساعات طويلة من المكوث فى المطار انتظارا للمغادرة من جديد, لكن حلاوة الروح التى اكتشفنا لحظة الاختبار أهميتها دفعتنا للاحتمال, اذ ان الساعات التى أخذنا نقضيها أعقبت فقدان الأمل فى الحياة أصلا, لكن ما أبهج الروح حقا, كان اكتشاف بلد مثل ليبيا له كل هذا الحجم الهائل من الغموض, وبه كل هذا التراث الانسانى الممتد عبر حضارات عدة, وبه كل تلك الامكانات الكبيرة التى تؤهله لتحقيق قفزات كبيرة فى مجالات مختلفة.
جئنا الى ليبيا التى اصبحت جماهيرية, يتبعنا الغامض منها, والقليل من الحقائق اقتنصناها من مراجع عصية على من يطاردها, لكن هذا البصيص الخافت, كان دافعا للركض فى انحاء هذا البلد العربى الشقيق بحثا عن حقائق غيبها لزمن طويل ركام الشعار وتداعيات السياسة والمصالح الدولية.
قصة شيخ
عندما يأتى ذكر ليبيا, يقفز على الفور الى الذاكرة اسم بطلها العربى الرمز عمر المختار, فالشيخ الذى اختار مجابهة محتلي بلده فى سنوات عمره المتأخرة, ارتضى الاعدام على يد الغاصب الدخيل كي تظل شعلة رفض المهانة متأججة فى الصدور, حتى ينتهى الأمر باستقلال الوطن وطرد الدخلاء المستعمرين, بطل مثل عمر المختار كان لابد من ان يطاردنا تاريخه طيلة رحلتنا الى ليبيا التى امتدت بين الكثير من مدنها, والتى حاولنا فيها ان نقرأ فى صفحات هذا البلد العربى المهم, تراثا وحضارة وعطاء وزمنا بهيجا ظل يرفرف على مساحته الهائلة, ويلقي بشعاعات ضوئه على جيرانه ومحيطه عربيا واوربيا وافريقيا ومتوسطيا, ان ليبيا التي تبلغ مساحتها مليوناً و957 ألف كيلومتر مربع والتي تتعدد مناخاتها هي قصة جميلة لحضارة مضيئة, ظلت تشع طويلا , ومازالت قادرة على الاشعاع.
بعد ثلاث ساعات من الطيران انطلاقا من القاهرة, حطت بنا الطائرة فى مطار طرابلس الدولى, الذى افتتح قبل عام من وصولنا بعد رفع حظر الطيران الدولى عن الجماهيرية, كانت شعارات (الكتاب الأخضر) تدور فى كل ركن فيه بلونها الأخضر, فيما كانت لافتات أخرى كثيرة تصطف خارج بوابة المطار وتظل ترافق الزائرين طيلة الطريق المتسع الطويل الى وسط العاصمة, كل شيء كان أخضر من اللافتات الشعارية الى ملابس الضابطات اللواتى يتولين الكثير من المهام الأمنية والادارية فى المطار, الى نوافذ البيوت وأسوارها, حتى الجداريات الكثر التى تتحدث بود عن المصير المشترك مع افريقيا (السوداء) كان لونها أخضر أيضا. قبل وصولنا الى (الفندق الكبير) وهو فندق جميل تديره هيئة تنشيط السياحة فى الجماهيرية الليبية, الى جانب العديد من المرافق الفندقية الراقية, والتى تستعين فيها بالخبرة الوطنية, كان التنظيم الرائع للطرق والنظافة اللامعة فى الشوارع من بين ما لفت انتباهنا, طلبنا من السائق ان يدور بنا فى ارجاء المدينة, لاحظنا عندئذ هذا العدد الكبير من الأفارقة ببشرتهم المميزة وهم جالسون على الأرصفة حاملين أدواتهم الحديدية, غسالون للسيارات وحدادون وصباغون فى انتظار الزبائن, كان الجو رائعا فى بدايات الشتاء, مادفعنا الى وضع امتعتنا فى غرفة الفندق, والانطلاق الى (كورنيش) طرابلس الممتد والعريض في دولة تمتد شواطئها البحرية مسافة 1900 كيلومتر, كان منظر البحر ساحرا وكانت أفواج البشر تسير رواحا وغدوا, بينما تتصاعد أصوات أجهزة التسجيلات لباعة الشرائط الغنائية المسجلة, مرافقة للسائرين فى ذلك الأصيل البحرى البهي على البحر الأبيض المتوسط. حين طلبنا من أحد أكشاك الباعة مشروبا باردا, أشار لنا الى عدة أصناف منها: (كوثر) و(سعادة) و(مرادة) و(روعة) و(بومس), وهى بدائل للمشروبات الغربية المثلجة والمنتشرة بكثرة فى بلادنا ودول العالم, ومع انها تحمل اسما مغايرا أو معربا الا انها تحتفظ بنفس العلامة التجارية ونفس حجم العبوة وأيضا نفس المذاق.
وقد لمسنا فيما بعد ان التعريب لم يشمل المشروبات الباردة وحدها, فسيارات الأجرة هى الأخرى تحمل مسمى (ركوبة), وأعلى التاكسيات ذات اللون المميز هناك لافتة مثلثة صغيرة تشير الى انها (ركوبة عامة), تمييزا لها عن الركوبات الخاصة الصغيرة عادة وقديمة الطراز فى معظمها, فيما لم نشهد طيلة رحلتنا أى سيارة من طراز أميركى تجوب الشوارع, ولايتوقف التعريب عند هذا الحد فهو يشمل كل شيء من الفنادق التى لايوجد منها أى نوع من تلك المنتشرة والمعروفة فى معظم دول العالم, والشركات مهما كان مجال النشاط الذى تزاوله, والمجمعات والأندية الترفيهية والسياحية.
حتى الشهور أيضا لها قاموس ليبى متفرد, وكذلك الأعوام, فشهر يناير الذى نعرف, اسمه فى ليبيا (النار), وفبراير (النوار), ومارس (الربيع), وابريل (الطير), ومايو (الماء), ويونيو (الصيف), أما يوليو فاسمه (ناصر) على اسم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتيمنا بثورته التى شهدها شهر يوليو, وأغسطس (هانيبال), وسبتمبر (الفاتح) وهو اليوم الأول من الشهر الذى قامت فيه الثورة الليبية بقيادة العقيد معمر القذافى, واكتوبر (التمور), ونوفمبر (الحرث), وأخيرا ديسمبر ويطلق عليه (الكانون).
ولايقتصر الأمر على الشهور, فالسنوات أيضا لها ما يناسبها وفقا للرؤية الليبية, فالتقويم الليبى يبدأ اعتبارا من وفاة الرسول محمد (IMG:html/prefix/p1.gif)
لم نمكث طويلا فى طرابلس التى ادهشتنا بساطتها, وود اهلها وجمال شوارعها, وساحتها الخضراء الجميلة التى تتحول كل مساء الى نهار مضيء, تصبه كشافات في أبعد نهايات الأعمدة الكهربائية المرتفعة, وقد حضرنا فيها الكثير من الأعراس التى كان يأتى اليها الاهالى لالتقاط الصور التذكارية للعروسين فوق عربات خشبية مغطاة تجرها الاحصنة تدور بهم فى الميدان الفسيح قبل ان تعود لإقامة الزفة الليبية المميزة وسط أبواق السيارات المبتهجة التى تزينها زركشات ملونة من ورود طبيعية واوراق شفافة وبالونات منتفخة , ومن هذه الساحة انطلقنا الى السوق القديم, حيث باعة الذهب والمشغولات اليدوية والملابس التقليدية والجلود والتحف, الذى كانت تصدح فيه مسجلات للصوت بأغاني أم كلثوم. ومن الساحة ايضا انطلقنا ولساعات طويلة نسير فى شارع عمر المختار الممتد طويلا والذي يبدأ من مبنى وزارة الداخلية ومصرف الامة, وفى شارع أول سبتمبر وهو شارع تجارى مهم تباع فيه الملابس الايطالية الراقية و تتناثر على جانبيه محلات العطور والمكتبات والأجهزة الكهربائية, سرنا الى شارع آخر اسمه الكاظمية, فظللنا ندور حتى اعادنا التعب الى الساحة من جديد ومنها الى الكورنيش الذى كانت أصوات الموسيقى الغربية تعلو فيه رويدا رويدا على صوت حنجرة أم كلثوم, فيما طريقة الملابس التى يرتديها الشبان صغار السن وقصات الشعر, تشير الى ان هناك جديدا يزحف وان كان بطيئا, وان تغييرا ما رأينا بداياته فى مؤشرات كثيرة كان يحث الخطى لاقتناص موقع له.
إلى سلوق
من طرابلس خرجنا ذات صباح منطلقين إلى بنغازي, كان عمر المختار لايزال يطاردنا, وكأنه يدفعنا دفعاً للذهاب إليه, وكأننا ونحن الذين نذكره مع كوكبة من نجوم العرب اللامعين, قد أخذنا بسحره فقررنا الانطلاق إلى حيث كان يناضل, وحيث أعدم, وحيث يرقد الآن في مقره الذي أصبح مزاراً.
بعد ساعة من الطيران, حطت بنا الطائرة في مطار بنغازي, انطلقنا بعدها إلى شوارع المدينة مع مرافقينا خليل العريبي أمين (نقيب) رابطة الفنانين في شعبية بنغازي, وسعد نافو أمين (رئيس) تحرير مجلة الثقافة العربية وأمين فرع المؤسسة العامة للصحافة في بنغازي, وهو كاتب ساخر ومذيع نشط.
ومن بنغازي انطلقنا معا إلى الغرب, فيما كان صوت رخيم للمطرب الليبي الشهير محمد حسن ينطلق من مذياع السيارة بإيقاعات جميلة للغاية لائما الحبيب الذي تتأخر خطاباته). بعد 40 كيلومترا بالتمام والكمال, قطعناها وسط مزارع بها خزانات مياه تستفيد من مياه النهر الصناعي, وصلنا إلى (سلوق) وهي قرية تعتمد على الرعي, والزراعة بها موسمية, ولا يزيد عدد سكانها حالياً على 20 ألف نسمة, لكنها تضم مقبرة عمر المختار, في الساحة الترابية المسورة التي تحيط بالقبر لافتات إحداها يقول (مازلنا نقاتل يا شيخ المجاهدين), في هذا المكان الذي شهد إعدام عمر المختار يوم الاربعاء 16 سبتمبر عام 1931 تم قتل 22 ألف مواطن ليبي, كان قد ألقي بهم في معتقل سلوق, ندخل إلى منطقة المقبرة, المكان مفتوح لا سقف به, وحول ضريح المختار أشجار قليلة ونخيل وأعمدة كهرباء مرتفعة ترفرف أعلاها أعلام خضراء دون كتابة عليها, فيما سور المقبرة مطلي باللونين الأبيض والأخضر, نسير على بعد خطوات قليلة حتى نصل إلى مكان الإعدام الذي يشهد كل عام احتفالاً سنوياً بالذكرى بعد أن تقرر نقل رفات المختار عام 1981 من مدينة بنغازي التي كان مدفوناً فيها إلى سلوق حيث المكان الذي أعدم فيه.
نخرج إلى القرية, شوارع صغيرة, هدوء حتى يخيّل للمرء أنه لا أحد هناك يتحرك, بيوت واطئة وقليلة, ولكن من هنا وفقاً لما يقوله التاريخ مرت جميع الغزوات إلى ليبيا, فهذه القرية بموقعها هي ممر للقبائل, ولعل اختيار الاستعمار الإيطالي إعدام عمر المختار فيها لم يكن عبثاً على الرغم من أن المختار ولد في منطقة الجبل الأخضر وهي المنطقة التي شهدت كهوفها أيضاً ملاحم كفاحه, فقد قصد المستعمر أن يكون الإعدام على مرأى الجميع بهدف ردع أي محاولات جديدة للثورة.
من سلوق خرجنا باتجاه الشرق قاصدين (درنة) التي سنقضي فيها ليلتنا, كان الطريق طويلاً جداً يتوسط أراضي سهلية جرداء على جانبيه, تلوح المرتفعات, فتصعد السيارة بنا, ثم تعاود الهبوط وتدور حول الجبال غير الشاهقة, وتلف في وسطها, جمال ترعى وحيدة سائرة على الطريق الإسفلتي, فيما لاتزال الصحراء شاسعة, ها نحن أخيراً وصلنا إلى أول مدينة تصادفنا, إنها (الأبيار) التي ترتفع عن سطح البحر نحو 300 متر.
أعشاب صحراوية تنبت بكثافة في الأراضي السهلية, وظلال تلقى بها السحب المارّة على الأرض الجرداء فتبدو كبقعة داكنة فوق بساط أصفر, نمر بقرية (المليطانية) حيث البيوت ضامرة ومتناثرة على قلتها, بعدها ندخل في صحراء بنية اللون لا تتركنا قبل أن تسلم موكبنا إلى مدينة (المرج) المشهورة بأنها إحدى المدن الإغريقية الخمس التي تأسست في شرق ليبيا, وكان اسمها (بارشي) أو (برقة) كما كان يطلق عليها خلال الاستعمار الإيطالي, وفي ليبيا برقتان الأولى برقة البيضاء وهي الآن (المرج) وبرقة الحمراء والتسمية في كليهما تعود إلى لون التربة وإن كانت من أخصب الأراضي التي تضمها البلاد ومشهورة بالقمح, قطعنا نحو 90 كيلومترا من سلوق حتى مدخل مدينة المرج حيث الورش الصناعية والمدارس ومحلات تجهيز الأعراس, هذه المدينة تعرضت لزلزال كبير عام 1961 وأعيد بناؤها من جديد على النمط الحديث.
نترك المرج ونسير وسط طريق مليء بالأشجار الضخمة التي تظلله, هناك مزارع كبيرة, قبل أن يواجهنا مرتفع جبلي, إنه (الجبل الأخضر) الذي يرتفع في أعلى منطقة (الحمرى) إلى 850 مترا يمتد طوله 200 كيلومتر ويصل عرضه إلى 75 كيلومتراً, تماماً مثل مساحة لبنان, في هذه المنطقة كان الاستعمار يسعى لتوطين خمسة ملايين من جنوب إيطاليا وتسليمهم مزارع جاهزة فيها.
ظللنا سائرين في طريق يصل امتداده إلى 225 كم مواز للجبل الأخضر الذي يبدأ من (عقبة الباكور) غربي مدينة المرج ويتنهي عند (وادي البقر) الواقع شرقي مدينة درنة بنحو 5ر1 كيلومتر, هنا تحديداً كانت المنطقة التي شهدت الجهاد ضد الإيطاليين.
ندخل إلى تلك المنطقة التي تنتشر في أواسط سلسلتها الجبلية مئات الكهوف التي أصبحت مزارات للسياح, حيث كان عمر المختار والمجاهدون الليبيون يتخذون منها مخابئ خلال هجماتهم المتواصلة ضد المستعمرين, نمر الآن بمنطقة وادي (الكوف) الجبلية, ونقف قليلاً تحت جسرها الذي تم بناؤه خلال تصوير الفيلم العالمي (عمر المختار) الذي أخرجه مصطفى العقاد وقام بالبطولة فيه (أنتوني كوين).
قبل هذا الجسر الذي علقت عليه الآن صورة لعمر المختار وتحتها عبارة (هنا أودية الجهاد وعرين الأسد المختار) رأينا من بعيد جسرا يصل بين جبلين مرتفعين, كان المنظر بديعاً من أسفل الجبل, إنه من أجمل جسور العالم المعلقة حقاً.
وادي (الكوف) الذي تم اعتماده دولياً باعتباره منطقة محميات طبيعية, به عدد هائل من الكهوف, ولا أدري لماذا سمى وادي (الكوف) وليس (الكهوف)... ولماذا حذف حرف الهاء منه?
أنوار درنة
اقتربنا من (درنة), مساء بعد أن قضينا اليوم منذ صباحاته الأولى في السير على الطريق, كنا لانزال نعاني من انسداد الأذن نتيجة الضغط الذي داهمنا ونحن في السيارة أعلى الجبال ثم الهبوط فالصعود فالهبوط مرة ثانية, ساورنا إحساس المسافر في الطائرة, فتحمّلنا الألم, وانطلقنا ندور في شوارع المدينة, المضاءة والمتسعة, حتى وصلنا إلى الفندق, فألقينا حقائبنا, وانطلقنا نستكشف ليل المدينة وناسها وعبق حاراتها.
في هذه المدينة التي يشطرها مجرى أحد الأودية الكبيرة المعروفة في ليبيا وهو وادي درنة يعيش 121 ألف نسمة, معظمهم من التجار, وبها جامعة حديثة بها كليات للعلوم الاجتماعية والتقنية والطبية, إضافة إلى المركز العالمي للمهن الشاملة ومعهد المعلمين.
ودرنة أنشئت في القرن الثالث عشر, واستعمرها البيزنطيون لفترة, ثم جاء الفتح الإسلامي واستمر حتى جاء الأتراك إليها, قبل أن يحتلها الإيطاليون عام 1914, ليقوموا بعد ذلك ببناء سور كبير حولها يمنع دخول المجاهدين إليها, ويمنع أيضاً عنهم أي إمدادات من أهاليها.
كان لابد لنا إذن لمعرفة المزيد عن (درنة) من الذهاب إلى مؤرخها الشيخ مصطفى الطرابلسي (80 عاما) وهو مؤلف كتاب (درنة الزاهرة), وقد ذكر لنا حين زرناه في منزله في اليوم الأول لوصولنا إلى المدينة, أن هناك درنة القديمة, ودرنة الجديدة, وإذا كانت الأولى قد ورد اسمها لأول مرة في التاريخ على لسان بطليموس الفلكي اليوناني, حين ذكر أن البطالمة خلفاء الاسكندر ضمّوا إليهم برقة, فإن درنة الجديدة نشأت وازدهرت بعد مجيئ العائلات الأندلسية, واستقرارها في الشمال الإفريقي إثر طردهم من الأندلس, وقد كان المكان المختار للاستقرار هو درنة, وفي هذا الوقت ازدهرت الزراعة فيها.
في هذه المدينة, يوجد مقابر للصحابة ال 77 الذين استشهدوا في درنة, عقب عودتهم من فتح بلاد المغرب, كما أن فيها الكثير من دلائل التأثر بالأندلس, لدرجة أن طراز البناء يتجلى في بعض البيوت إلى جانب المساجد خاصة المسجد القديم, وقد وصف مؤرخ آخر هو (عثمان الكعاك) في كتاب له عن درنة طراز البناء الأندلسي قائلاً: (إن الخوف الذي كان يلاحق الأندلسيين نتيجة خروجهم من هناك, ألقى بظلاله على طراز العمارة الأندلسية في مدينة درنة).
ودرنة هي مدينة الفنانين في الجماهيرية, فيها عدد كبير منهم, وقد شاهدنا فرقاً مسرحية وأخرى للفنون الشعبية أثناء تأدية بروفات يومية لهم, ومن المعروف على المستوى الليبي أن بداية انطلاقة المسرح كانت في مدينة درنة عام 1930.
قضينا الليلة في فندق يطلق عليه (الجبل الأخضر), وهو فندق متواضع يقع في ميدان الثورة, الذي يضمه حي (البلاد) وهو واحد من عدة أحياء تضمها مدينة درنة, منها الجبيلة والساحل الشرقي وشيحا الشرقية والغربية.
في الصباح انطلقنا لزيارة مقابر الصحابة ال77 الواقعة في حي سيدي بو منصور ويضمها مبنى ملحق بمسجد كبير ذي ساحة عريضة يطلق عليه مسجد الصحابة, المسجد واسع جداً وملحق به غرف كثيرة لتحفيظ القرآن وتدريس اللغة العربية, وبه بهو واسع جداً وكراسي خشبية للانتظار, وساحته يزيّنها الرخام, وللمسجد مئذنتان تتوسطهما قبة ضخمة مطلية باللون البني, ويحيط به من الخارج أسوار حجرية, كما أن بابه مرتفع على شكل أقواس النصر تحيطها قباب صغيرة خضراء اللون, في هذا المكان مقام (سيدي زهيربن قيس البلوي) قائد الفاتحين, وفي المبنى نفسه توجد حجرة مجاورة يطلق عليها (حجرة الشهداء) رضي الله عنهم, كما يوجد مقام سيدي عبدالله بن بر العيسى (مساعد قائد الفاتحين) ويطلق عليه أهل درنة اسم (سيدي الزوام) رضي الله عنه, وإلى جواره حجرة أخرى باسم قاضي الحملة (سيدي أبو منصور الصحابي) رضي الله عنه, وإلى جوار هذه الحجرات مكان به بئر ماء, وفي المبنى نفسه توجد حجرة للصوفية من الطريقة (العروسية) وزاوية للصحابة العروسية, وزاوية أخرى لابن عيسى وأخرى بها قبر الشيخ عبدالسلام الأسمر.
ندخل إلى (سوق الخرازة) أي سوق المصنوعات الجلدية, الذي يقع في وسط (حوش) مربع تتوسطه (فسقية) قديمة متهالكة, وتدور حول جوانبه المحلات واطئة فتكون الأبواب على شكل أقواس, لا بديل للمرء عن الانحناء قليلاً عند دخولها, محلات ضيقة كأنها علب الكبريت, وبها ماكينات لصناعة الجلود وإصلاحها.
على الأرجل نسير من مسجد الصحابة سائرين في شارع مسجد الصحابة عابرين السيارات المنطلقة بسرعة, ثم نلتف إلى اليمين لنصل إلى شارع زليتن أقدم شوارع درنة, فنجد في مواجهتنا المسجد العتيق وهو أكبر المساجد على الإطلاق فيها ويكتسي باللونين الأصفر والبني القاتم.
إبداع خجول
في ليبيا ثمة ظاهرة مدهشة, قد لا نبالغ إذا قلنا إنها لا توجد في غيرها, ففي هذا البلد يكثر الشعراء والأدباء ويتكاثر الخجل والتواضع إلى درجة قد تكون مرضية, فلم تحط أقدامنا ببلدة من مدن وقرى ليبيا إلا وجدنا حركة لافتة في المسرح وحركة الشعر والقصة والرواية, حشد هائل من المبدعين, ومن بين هؤلاء الجديرون باحتلال مكانة مرموقة في مضمار الإبداع العربي, لكن الأمر المحيّر حقاً هو هذا الخجل الذي ربما كان (غير حميد) في عرض ما يكتب المرء على الآخرين.
حيّرتنا هذه الظاهرة - وهي ظاهرة بالفعل - وتساءلنا كثيراً عن السبب, ولم تقنعنا الإجابات التي دارت معظمها عن طبيعة الإنسان الصحراوي التي تمنعه من السعي لعرض ما يكون نتاجاً لقريحته على الآخرين, ويشير هؤلاء إلى إنه في حال إذا ما أرسل أي منهم قصيدة إلى صحيفة ولم تجد طريقها للنشر, فإن عدم النشر هذا يكون كفيلاً بتوقف الشاعر عن المحاولة مرة ثانية, وربما يتوقف أصلاً عن الكتابة.
في اليوم الأول لوصولنا إلى مدينة بنغازي, قضينا الليلة بين مسارح المدينة التي كانت فرقها مشغولة بالاستعداد لموسم مسرحي جديد, وقضينا آخره في استوديوهات التلفزيون التي كانت محتشدة بكبار نجوم التمثيل الليبي, الذين يقومون بأداء أدوارهم في تمثيليات كانت ستعرض في شهر رمضان (الماضي).
وفي بنغازي وحدها هناك 13 فرقة مسرحية منها 12 فرقة أهلية بالإضافة إلى فرقة وطنية ترعاها الدولة, وإلى هذه الفرقة جاء فنانون من مصر (عمر الحريري عام 1967 وسيد راضي ومحمد توفيق) وقاموا بتدريب الفرقة وإخراج عدة مسرحيات لها.
والغريب في الأمر أن كل العاملين في تلك الفرق من ممثلين ومخرجين وكتّاب وعاملين آخرين هم من الهواة, فلا يتقاضى أحد منهم مكافأة عن مشاركته, وتقوم تلك المسارح بتمويل نفسها ذاتيا, وعلى الرغم من ذلك, فإنه لا تكاد تخلو مدينة ولا قرية من فرقة مسرحية.
وحول الفن في ليبيا, قال لنا (نقيب) الأمين العام لرابطة الفنانين وعضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفنانين العرب جمال اللافي: إن في ليبيا تسعة مهرجانات تقام سنوياً تختص بالطرب والغناء والموسيقى والفنون التشكيلية والبصرية والمسرح والفنون الشعبية, مشيراً إلى أن الفن الليبي ليس جماهيريا بسبب عدم الاحتراف, رغم أن هناك نحو 40 فرقة مسرحية على مستوى الجماهيرية.