- قال بلسان عربي مبين , وبملء فمه : هَذَا مَطْعمٌ يَهُودِيّ ..
- صَاحِبَتَهُ يَهُوْدِيّة .. إِنّهم يُقَدِّمُونَ الخَمْرَةَ !!
وَالرِّحْلَةُ مِنْ أَسْبَانْيَا إِلَى طَنْجَةَ .. عَبْرَ مَضِيقِ جَبَلِ طَارِقٍ ..
تثاقلت أجفاننا عن الصحو في وقت السحر حينما طرق والدي باب غرفتنا يستحثنا النهوض والاستعداد قبل حضور الحافلة , فرحلتنا السياحية ستكون إلى المغرب , إلى طنجة تحديدا ..
الزمان .. هو آخر السحر , والمكان مدينة ملقا في منطقة كوستا ديل سول في جنوب أسبانيا . وأما الذكريات فأبدع ما تكون ! لأنها ذكرياتٌ أدار فعالياتها بمهارة مهندسُ الرحلة البارع " والدي " , فكانت - رغم تبرُّمنا الطفولي الساذج أحيانا - أجمل الذكريات , وأعمقها نقشا في عقولنا وقلوبنا وكل أحاسيسنا ..
كان جدول رحلاتنا في أسبانيا يتطلب غدوا باكرا جدا في الصباح , أبكر من الدوام المدرسي . كما يتطلب رواحا باكرا في المساء , أبكر من الغدو إلى البيت في يوم مدرسي كذلك . كنا كالطيور تماما غدوا ورواحا ..
وكان العش الدافئ في المساء يضم الأسرة .. في أجمل ما تكون اللحظات .. القهوة العربية , والتمر الفاخر و.. الحبيبين الوالدين .
لقد كانت لحظات ثمينة , نقتنص فيها راحة بال ربّان سفينتنا "والدنا" من مشاغله التي لم تقطعه عنا يوما , وإنما تقطع عنا رؤيته مرتاحا - متعنا الله ببره وبقائه - .. وكنا أحيانا نذكر الديار , وأخرى نخطط لرحلة الغد . رحلة طنجة سينقلنا إليها حافلتان : حافلة برية في نصفها الأول , ثم أخرى بحرية تحفل بالسياح في نصفها الأخير . صحونا , ثم أخذنا استعدادنا سريعا , والليل لا يزال جاثما بظلمته على مياه ساحل البحر المتوسط المنبسطة أمامنا , رغم أن الشمس تشرق من جهتها تماما .. لا زلنا قبل الفجر .. حتى إذا ما نزلنا إلى بهو الفندق , وجدنا الحافلة تنتظرنا فركبناها , وما زالت أجفاننا تنازع النوم .. كانت الحافلة كبيرة جدا , وتتسع لعشرات الأشخاص , غير أننا كنا في مقدمة من مرّت عليه الحافلة ؛ إذ إن رحلتنا تضم أفرادا من فنادق ومناطق سكنية شتى .
قرُب الفجر , وامتزجت أسمال الليل المغادرة بخيوط النور , تنسج قصة اليوم الجديد . وانتعاشةُ الصبح تدب فينا , وصوت الشيخ القارئ علي الحذيفي يصدح في أرجاء الحافلة بهدوءٍ وسكينةٍ يتلو القرآن الكريم .. يحمل انتعاشة الجسد بين كفي الروح المحلقة في آيات الله . لله درّها من لحظات !!
كان الوقت بعد ذاك مناسبا جدا للنزول وأداء صلاة الفجر , وبعد أدائها ارتاحت نفوسنا إذ خشينا أن لا نجد المكان المناسب للصلاة . توقفنا أيضا لتناول طعام الإفطار في مطعم صغير على الطريق , وكان لهذا الإطار مذاقا خاصا في ساعات الصباح الأولى , وفي أحضان الطبيعة الأندلسية الساحرة !
شقت الحافلة طريقها بين حقول أشجار الزيتون الممتدة تارة , أو على حرف البحر المتوسط تارة أخرى . والنور ينتشر رويدا رويدا , يبسط تباشير الصبح , ويبعث عبق النشاط , وبدأ الناس في الحركة بعد الهجعة . كانت الحافلة تتبع اللوحة الإرشادية إلى مدينة تاريفا , أثار اهتمامنا النغمة العربية التي تصاحب تهجئتنا للكلمة . وتاريفا مدينةٌ ومركز ساحلي في الجنوب الإسباني , تجاور تقريبا منطقة جبل طارق التي تعد منطقة بريطانية , وليست إسبانية .
وعند تاريفا دخلنا مبنىً أشبه ما يكون بمركز صغير . ومنه أخذنا تذاكرنا للصعود في المركب البحري الذي سينقلنا عبر مضيق جبل طارق إلى مدينة طنجة في شمال المغرب . قطعنا المضيق في حدود 35 دقيقة فقط , حتى وصلنا إلى مدينة طنجة في المغرب .
كنا في صحبة مرشد سياحي قد هيّأ لنا برنامجا كاملا للرحلة , وبانتظارنا من سينقلنا إلى داخل المدينة . كان الجو مشمسا جدا , وبدا لي أن الرقعة الخضراء في طنجة أقل منها في الجنوب الإسباني مع كون الجنوب الإسباني لا يتميز بمساحات خضراء مشبعة الاخضرار أو كثيفة الأشجار . ما كان يميز جنوب أسبانيا هو حقولُ أشجارِ الزيتون المتباعدة , التي لا تنازع الشجرة منها مملكة أختها في محيط كافٍ لامتداد الجذور , وامتلاك مساحة أرضية تكفل للشجرة الواحدة قدرا مناسبا من الماء .
وصلنا إلى وسط مدينة طنجة , وهناك بالفعل تغيرت ملامح البلد . وبدت طنجةُ لنا مدينةً عربيةً . وقد تميّز لباس أهلها المغربي الفضفاض بالأغطية الخرطومية الشكل , وألبسة نسائها بالمناديل الصغيرة التي تغطي مساحةً من الوجه , في الوقت الذي تكون أرديتهن مفتوحة الجانب , فتبدو معه أقدام المرأة أو جزءا من ساقها , وهو الأمر الذي شكّل لدي شيئا من المفارقة .
اتجهنا بعد ذلك إلى منطقةٍ ذات أبنية شعبية بيضاء . وأخذنا جولتنا بين أزقتها الصغيرة والمتعرجة , وبين مساحات تتوسط الأبنية وطرقات وسلالم . لقد كانت المنطقة نظيفة مهيأة بشكل جيد للسياح حسب ما أذكر .. أما المرشد السياحي فقد كان مغربيا , مما يلزمنا أن ننصت إليه جيدا لنفهم ما يقول بلهجته المغربية التي لم نعتد عليها .
وكان مما وعدناه خلال جدول الرحلة أن نتذوق الشاي المغربي في أحد المحلات التي تقدم ذلك الشاي , وأن نزور محلات بيع الزرابي ! ثم نتجه إلى أفضل المطاعم هنالك لنتناول وجبة الغداء في أجواء مغربية .
من بين كلماته المغربية كان يردد المرشد على مسامعنا لفظ الزرابي ! ولا شك أنه لفظ قرآني لا نستغربه , إلا أننا بدأنا نفتش في أذهاننا عن موضع ورود اللفظ في القرآن الكريم لنتذكّر معناه . فتذكرنا قوله تعالى في سورة الغاشية في وصف الجنة : " ونمارق مصفوفة , وزرابيّ مبثوثة " فاختلط علينا ماذا تكون , لكننا أيقنا أنها نوع من الأثاث .
وصلنا إلى دكاكين بيع الزرابيّ , وبدا لنا جيدا أن ما يقصده هو السجاجيد , وأعجبنا جدا استخدام هذا اللفظ القرآني . كانت هذه السجاجيد متنوعة متلونة ذات طابع مميز .
تجوّلنا في أسواق طنجة الشعبية , وكنا نرى على طرقاتها الأطفال يلهون ويلعبون هنا وهناك . وصادفنا إذ ذاك طفلا مغربيا بين العاشرة والحادية عشرة تقريبا , تعرف من لمعة عينيه موهبة خاصة , كما تقرأ منهما ألما دفينا . لحظنا أن هذا الطفل يتبعنا أين ذهبنا .. وخمّنا* دافعيةً لديه إلى الحديث معنا .. وبالفعل اقترب الفتى .. تحدثنا معه بحديث .. كان الطفل مسرورا جدا للقيانا , وسَأَلَنا وسألناه . ولقد كان يتكلم لغة عربية فصيحة , فخجِلنا أن نتكلم معه في المقابل بلهجتنا الخليجية , واضطررنا أن نحادثه بمثل فصاحته .. نحاول أن نكون مثله وليفهم منا ما نقول , كما فهمنا منه قوله الفصيح . لفت نظرنا كذلك أنه يتكلم بثقةٍ كالكبار , وحيويةٍٍ يندر أن تجدها في الطفل حين يحادث الغرباء , ومع ذلك كان بالغ التهذيب . لقد اتضح لنا أن هذا الطفل من عائلة فقيرة , كما اتضح لنا كذلك أنه يدرس في حلقات تحفيظ القرآن الكريم , وأنه يحفظ قدرا منه . هنا سُرِرنا كثيرا لوجود مثل هذه الحلقات في طنجة , وزالت بالطبع علامات التعجب لدينا حول فصاحته . تركنا هذا الطفل وقلوبنا تدعو له بالخير والحفظ ..
سارت بنا الطرقات في أزقة طنجة وأسواقها وأبنيتها المتعرجة الجميلة البيضاء .. حتى وصلنا إلى المطعم الذي نسّقت الرحلة السياحية تناول غداءنا فيه ذلك اليوم . كان المطعم ذا طرازٍ مغربي , وقد وجدنا فيه من براد التكييف وظلال الأنوار الهادئة جدا ما أزال عنا حرارة الجو في الظهيرة , وإجهاد أعيننا في شمسها الساطعة .
اتخذنا مجلسنا في المطعم استعدادا للغداء غير أننا أنكرنا فيه أمرا مخالفا , فخرجنا منه . وهنا كانت المفاجأة ! لقد كان الطفل المغربي يرمق من بعيد قد صرّ عينيه ليرى في شمس الظهيرة الساطعة . حتى إذا ما رآنا خارجين توجه إلينا يلومنا :
أَلَمْ تَجِدُوا غَيْرَ هَذَا المَطْعَمِ لِتَتَنَاوَلُوا غَدَاءَكُم فِيهِ ؟
فقلنا : ما المشكلة ؟
قال بلسان عربي مبين , وبملء فمه : هَذَا مَطْعمٌ يَهُودِيّ ..
صَاحِبَتَهُ يَهُوْدِيّة .. إِنّهم يُقَدِّمُونَ الخَمْرَةَ !!
ومضى يتحدث بحرقة وألم , حتى خُيل إلينا أننا أمام خطيب مفوّه – بارك الله فيه – برغم بساطة كلماته وعفويتها . فلُمنا حينئذ أنفسنا , كيف لم نستوثق ! وإن لم نكن في حقيقة الأمر نعرف أصلا أن المغرب فيها يهود ..
في هذه الأثناء خرجت صاحبة المطعم العجوز تبدو من سحنتها الشقراء أنها ليست مغربية الأصل , فنهرت هذا الطفل وأمرته بالابتعاد عنا , زبائنها , ولكن هيهات .. لقد اطمأنت أنفسنا إلى كلمات الصبي العفوية , ثم عافت بعدما سمعت ورأت هذا المطعم ..
انطلقنا لنعود إلى حافلتنا السياحية , ومنها إلى الساحل حيث عدنا إلى تاريفا ثم إلى ملقا , عبر الطريق الساحلي الزيتوني في وقت الأصيل .. ووصلنا قبيل المغرب إلى عشّنا .. إلى الفندق متعبين .. ولكن مشتاقين إلى جلسة المساء الدافئة ..
للامانة .... منقول للتشويق .
ماشاء الله عليك ماخليت للي بعدك شي متميز في مواضيع ...
لو انا مسؤل بها المنتدى كان علقت لك نقيب !!! ههه