- أم كلثوم اعتبرتها الجنة على الأرض ومحمد عبد الوهاب أغرم بها فغنى لها
«وادي العرايش» على نهر البردوني قبلة السياح الصيفية
أم كلثوم اعتبرتها الجنة على الأرض ومحمد عبد الوهاب أغرم بها فغنى لها
إذا زرت مدينة زحلة المعروفة بعروس البقاع، لا بد أن تحط رحالك في «وادي العرايش» الواقع في الحي الغربي على نهر البردوني، الذي لا ينضب طيلة أيام السنة، وتتوزع على ضفتيه المطاعم التي تقدم اللقمة اللبنانية الأصيلة، فيمضي روادها أجمل الجلسات على صوت خرير المياه وفي جو بارد في عز الحر، لا تقل حرارته عن ال20 درجة مئوية.
ما إن تطأ قدماك مدخل الوادي حتى تسترعي سمعك موسيقى لبنانية يختلط بعضها ببعض، فهذا المطعم تصدح منه أغاني فيروز ووديع الصافي، وذاك تدندن معه أغاني وردة الجزائرية، وآخر يستقبلك بأغاني نجوى كرم ووائل كافوري، وهما من أبناء زحلة. وقبل أن تجول بنظرك يمينا ويسارا لتنتقي المطعم الذي يعجبك فتتناول فيه الغداء أو العشاء، يمكنك أن تزور البسطات الخشبية المنتشرة على باب الوادي، التي تبيع التذكارات اللبنانية المحفورة على الخشب، أو المصنوعة من الزجاج المنفوخ، إضافة إلى العباءات المطرزة، والأعمال اليدوية والحرفية على أنواعها، وكذلك الصدفيات والفخاريات، وكلها لها دلالة على معالم لبنان الأثرية والسياحية.
وتكمل مشوارك في الوادي الذي يبلغ طوله حوالي 400 متر، ودائما سيرا على الأقدام، كونه يمنع دخول السيارات إليه، فتتسلل إلى أنفك روائح الطعام اللبنانية الشهية التي يسيل لها اللعاب، كاللحم والدجاج المشويين، والنقانق المقلية، والكبة الزحلاوية، مما يجعلك تستعجل خطواتك لترخي نفسك على أحد كراسي القش المحيطة بأقرب طاولة في واحد من المطاعم هناك، كال«النمير» و«مهنا» و«كازينو عرابي»، وهذا الأخير يعتبر الأقدم بينها، إذ تأسس في العشرينات، وكان مركز التقاء أشهر الباشاوات المصريين وعمالقة الفن الأصيل، كأم كلثوم، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، ومحمد عبد الوهاب الذي غنى لها في جلسة حميمة مع شعراء من المنطقة «يا جارة الوادي»، التي كتبها له أمير الشعراء أحمد شوقي.
ويروي جان عرابي ل«الشرق الأوسط» قصة ولادة هذه الأغنية، فيقول: «كان أحمد شوقي في رحلة صيفية في قطار يشق طريقه على خط صوفر – رياق، ليصل إلى فلسطين، فأعجب الشاعر المصري بمدينة زحلة وقرر النزول فيها، فاستقبله أعضاء النادي الرياضي العربي، وفي مقدمتهم نجيب أفندي شمعون، أحد وجهاء المنطقة، وبمعيته شعراء آخرون، كنجيب بركات، ود. إبراهيم شحادة، وشبل دموس، عضو في البرلمان اللبناني في تلك الحقبة، وذلك عند (عين البخاش)، حيث يقع (مقهى العرابي)، وافتتحت حفلة الشعر التي كان أحمد شوقي يعتقد أنه لن ينافسه فيها أي من الموجودين، كونهم يعملون في مجالات عدة إلا الشعر، فألقى المؤرخ عيسى المعلوف كلمة تحدث فيها عن علاقة لبنان بمصر عبر التاريخ، ومن ثم ألقى د.نجيب أبو سليمان قصيدة لبنانية، ثم وقف عمر الزعني وألقى قصيدة أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة لشكري البخاش، وكان يشغل رئاسة تحرير جريدة (زحلة الفتاة)، عندها ضرب أمير الشعراء بيده على رأسه وقال للموجودين، بعدما ذهل من إجادة الحضور للشعر: (انتظروني العام المقبل.. سأعود بقصيدة أكرم بها مدينة زحلة وأهلها). وبالفعل عاد في عام 1927 ومعه رواية الزمان التي عرفت ب(جارة الوادي)، وكان برفقته محمد عبد الوهاب الذي أغرم بمدينة زحلة، ما إن سمع الأديب المصري فكري أباظة يلقي القصيدة، حتى راح يتمتم اللحن، فغناها بعد أن حفظ مطلعها الذي يقول: يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك ومن ثم اشتهرت الأغنية وغنتها الراحلة نور الهدى وبعدها فيروز.
أما أم كلثوم التي اعتادت زيارة وادي العرايش، وبالتحديد مقهى (كازينو العرابي) في كل مرة، غنت في مهرجانات بعلبك أو في بيسين عالية، توجهت في إحدى المرات لصاحب المطعم يومها، جان عرابي، (عم صاحب المطعم حاليا) قائلة له: شكرا لك يا رضوان، فالتفت إليها وقال: اسمي جان يا ست الكل، فردت: رضوان هو حارس الجنة، أولسنا نحن في الجنة وأنت حارسها؟».
وتشتهر مطاعم الوادي بتقديم أكثر من 90 صنفا من المزة اللبنانية، بدءا بأطباق التبولة والحمص بطحينة والبابا غنوج، مرورا بالفاصوليا واللوبيا المتبلة، وصولا إلى الشنكليش والهندبة المقلية مع شرائح الليمون.
أما أكثر الأطباق المعروفة مطاعم وادي العرايش بتقديمها على الأصول، فهي الكبّة على أنواعها: المحشوة باللحم والبقاعية، والمشوية، والمتبلة مع الثوم، والنيئة، وهذه الأخيرة كانت المفضلة لدى أم كلثوم وعبد الوهاب.
ويؤكد جان العرابي أن مطاعم وادي العرايش كانت أساس تعريف اللقمة اللبنانية للعالم، وأنه عام 1984 دعي مطعم العرابي الذي نال عام 1972 الميدالية الذهبية في مسابقة la bonne bourchette في الألعاب الأولمبية في ميونخ، إلى قصر الأمم في جنيف، لمأدبة خدمت 2500 شخص، استعين فيها يومها لتلبية طلباتها بجسر جوي نقل ستة أطنان من الأطباق الزحلاوية المشهورة فيها.
يذكر أن نهر البردوني ينبع من جبل صنين ليصب في مدينة زحلة، التي ترتفع 950 مترا عن سطح البحر، وتبعد 54 كيلومترا عن العاصمة بيروت، تبلغ مساحتها 150 هكتارا، معروفة بطقسها البارد في الشتاء، وبتساقط الثلوج التي تغطي سطوح منازلها المشهورة بقرميدها الأحمر.