- حِفْظ القرآن في سراديب..!!
إنهم أكثر الشعوب الإسلامية في وسط آسيا مرحًا، مشاعرهم دائمًا دافئة وعواطفهم أبدًا جيَّاشة، الابتسامة لا تفارق شفاهم، يَمْزِجون المرح بكل شيء حتى بجنائزهم!! إنهم شعب القرقيز، في اليوم الأخير من رمضان تصنع النساء في بيوتهن نوعًا من الكعك الضخم المدهون بدهن الأغنام؛ حيث تجتمع العائلة كلها حوله ويشعلون الشموع، وينشدون بعض الأدعية الجميلة والرقيقة والمؤثرة التي تعلموها علي أيدي الصوفيين، والملاحظ أن أغلب أفراد هذا الشعب المسلم يتميز بحلاوة الصوت، وفي نهاية الأدعية والابتهالات يطفئون أنوار المنزل ويتسارعون لإطفاء الشموع ومزجها بالكيك، ويأكلون فمن كان حظه سيئًا يقضم قضمة من الشمع بدلاً من الكيك، كل ذلك وضحكاتهم تتوالى، وسعادتهم بصيام الشهر الكريم غامرة وفرحتهم بقدوم العيد طاغية.
دخل الإسلام بلاد القرقيز في النصف الثاني من القرن السابع عشر على أيدي الدعاة الذين قدموا من إمارة كوكاند الأوزبكية المجاورة؛ فتحولوا تدريجيًا من عبادة الجن والنار والملائكة إلى عبادة الله الواحد جل جلاله.
وتبلغ مساحة قيرقيزستان 198.5 ألف كيلو متر مربع، ويحدها من الشمال كازاخستان ومن الغرب أوزبكستان وطاجيكستان ومن الجنوب طاجيكستان ومن الجنوب الشرقي الصين. ويبلغ تعدادهم الآن حوالي 3.5 مليون نسمة، وبعد أن كانوا قبائل رُحَّل طيلة تاريخهم؛ استوطنوا القرى والمدن واتخذوا من "بش عاصمة لها.
ويحدثنا "روشان" أحد طلبة العلم من قيرقيزستان عن الإسلام هناك:- تنقسم قيرقيزستان إلى قسمين: شمالي وجنوبي، ويتميز أهل الجنوب بشدة تمسكهم بتعاليم الإسلام خصوصًا في مدينة "أوش"، وهناك بعض المناطق التي تلحظ السمت الإسلامي على سلوك الرجال والنساء بمجرد نزولك إليها، مثل: منطقة جبل سليمان، وبئر عزرت أيوب، وقرية صافين بولند قرب مقاطعة علاء بوكين. والعجيب في هذا الشعب كما يخبرنا روشان أنهم لا ينسون موتاهم أبداً، ويستغلون المناسبات المختلفة لتذكرهم والدعاء الجماعي لهم، ومن هذه المناسبات شهر رمضان المعظم حيث يجتمع في إحدى لياليه أفراد العائلة كلهم بصحبة كبير العائلة سواء أكان الجد أو الجدة أو العم الكبير، وبعد صلاة التراويح يبدأ الجد يقص عليهم طرائف موتاهم.
وحتى في أيام الفرح والسرور لا ينسون الموتى، فهناك عيد يسمي عيد "كرمان آية" تذبح فيه العائلة شاة كبيرة؛ وتجتمع في يوم العطلة، وفي غمرة الابتسامات والضحكات يتوقفون لدقائق معدودة لقراءة الفاتحة على أرواح من مات من أفراد العائلة.
ومن الطريف أن نسبة كبيرة من شعب القرقيز يتخوَّفون من الجن والعفاريت ويتمثلونها في حكاياتهم على هيئة امرأة عجوز شمطاء لها منقار – بديلاً عن الفم – مصنوع من النحاس، ولها مخالب قوية مصنوعة من الزجاج الحاد، تقوم تلك المرأة بقتل الرجال وامتصاص دمائهم من كعوبهم، وجن آخر يظهر أيضًا على هيئة امرأة لها صدر طويل جدًا تهاجم به النساء الحوامل، وتسرق أولادهن عقب الولادة.
حِفْظ القرآن في سراديب..!!
وقصة هذا الشعب مع التعليم -وبالأخص مع كتاب الله عز وجل- قصة عجيبة، فقد كان المتعلم فيهم هو من يحفظ سورة الإخلاص والمعوذتين للصلاة بها، وسورة ياسين لقراءتها على الموتى، وكان التعليم حتى عام 1917م (عام الثورة البلشفية)، يتم بطريقة علنية في الكتاتيب، لكن الحال تغير تمامًا عقب اندلاع تلك الثورة الإلحادية، وإعلان الشيوعية عقيدة للدولة فقد حارب الحزب الشيوعي الأديان جميعها، واعتبرها أفيونًا يخدر الشعوب، ويُمنِّيها بالفوز بالآخرة عن طريق الجنة بدلاً من الثورة على الإقطاعيين والرأسماليين في الدنيا، وانتزاع حقوق الطبقة العاملة منها، وبذلك أصبح الدين - في عرفهم– عامل تثبيط للهمم ومنوِّمًا ومخدرًا للشعوب، فتمت محاربته بضراوة، وكانت قيرقيزستان مثلها مثل بقية الجمهوريات الإسلامية التي ابتليت بالحكم الشيوعي، فتحولت نتيجة لذلك دراسة العلم الشرعي وحفظ القرآن الكريم من الكتاتيب إلى السراديب. يقول عبد الغفار يوسفوف – أحد طلاب العلم الشرعي في اليمن: - حدثني أبي أنه كان يذهب سرًّا إلى شيخه الذي سيحفظه القرآن الكريم، فيأخذه هذا الشيخ ويسير به عبر سرداب تحت أرض البيت الذي يقيم فيه، ويدخله إلى غرفة الحفظ – الكُتَّاب - عبر أبواب وفتحات غاية في السرية، ويجلس مع أقرانه داخل هذا السرداب بضع سنين حتى يحفظ ما ييسره الله له من كتابه العزيز، وكانت جدتي تذهب إليه مرة كل أسبوعين ليلاً محملة بالطعام والملابس النظيفة، وعن المصاحف يقول عبد الغفار :- كانت نادرة جداً وصفراء من شدة القِدَم، وكان الحزب الشيوعي يحاكم من يضبط في بيته مصحفًا بغرامة كبيرة وبالسجن لمدة عام؛ ولذا كنَّا نتوارث المصاحف ونَحملُها برفق خوفًا من تحولها إلى رماد في أيدينا، وكان من يمتلك مصحفًا جديدًا، ويريد أن يبيعه لضائقة مالية قاسية ألمَّت به يقاضه بوزنه ذهبًا!!، أما بعد زوال الشيوعية واندحارها إلى غير رجعة تغيَّرت الحال كثيرًا في السنوات العشر الأخيرة، فأصبح تعداد المدارس في قيرقيزستان يفوق ال 2000 مدرسة، يتعلم فيها ما يزيد عن 400 ألف طالب، وأصبحت العلوم الشرعية ولله الحمد تدرس في العلن.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي حصلت قيرقيزستان على استقلالها بناءً على شروط معينة منها: بقاؤها داخل منظومة دول الكومنويلث، وهو الاتحاد الجديد البديل عن اتحاد الجمهوريات السوفييتية السابقة، ورويدًا رويدًا بدأت الجمهورية الجديدة الاعتماد على نفسها في سد احتياجاتها من الغذاء والطاقة، وظهر البترول فيها شرق وادي "شو" قرب بشكيك العاصمة.
ويعاني القرقيز الآن من بعض المشاكل بعضها خطير، حيث يسود شعور بين سكان جنوب البلاد بأن الشماليين يسيطرون على المناصب الحكومية الرفيعة، فالأمينان السابقان للحزب الشيوعي الحاكم في قيرقيزستان (حزباليف ومصاليف) من الشمال، والرئيس الحالي "عاكييف" كذلك من الشمال، غير أن الملاحظ على سياسة الرئيس الحالي أنه يحاول نزع فتيل الفتنة الداخلية عن طريق تقاسم المناصب بين الشمال والجنوب. وتأتي قضية الاقتصاد لتلقي بظلالها على مجموع المشاكل الداخلية التي تعاني منها قيرقيزستان، حيث الاختلالات واضحة بين الموارد والنفقات؛ وقد أثر ذلك على متوسط دخل الفرد الذي يعتبر من أفقر شعوب آسيا الوسطى، وتجيء مشكلة الأقليات العرقية لتمثل مشكلة أقل حدة داخل المجتمع القرقيزي حيث يوجد فيه سبع أقليات أَشْهَرُهنَّ الروس والأوزبك والصينيون، وعدد تلك الأقليات يزيد عن القرقيز أنفسهم الذين يمثلون 48 % من مجموع السكان، وتتركز المهن العلمية في أيدي الروس والأوزبك مثل: الطب، والهندسة، والتدريس، الأمر الذي يحتم على القرقيز سرعة تنمية خبرات الأجيال الجديدة، ومهارتهم ونظم التعليم الخاصة بهم، ويخشى المتتبعون للوضع في قيرقيزستان من تفجر قضية مدينة "أوشى"، تلك المدينة التي تسكنها الأقلية الأوزبكية، والتي يزيد عددها عن نصف مليون نسمة، ويمكنها في أية لحظة المطالبة بالانضمام إلى أوزبكستان المجاورة، كذلك هناك دعاوى – وإن كانت ماتزال خافتة من قبل الصين وأوزبكستان – باقتطاع جزء من الأراضي القيرقيزستانية، ورغم هذه المشاكل التي لا يخلو منها مجتمع في العالم إلا أن حياة الشعب المسلم في قيرقيزستان تبشر بالتقدم؛ نظرًا لطبيعة الشخصية القيرقيزية نفسها التي من أهم مميزاتها الجد مع بساطة العيش الممزوج بروح الدعابة والمرح.