- الرباط.. مدينة الأبواب والأسوار والتاريخ
- عاصمة سياسية بنكهة سياحية
الرباط.. مدينة الأبواب والأسوار والتاريخ
عاصمة سياسية بنكهة سياحية
المدن مثل النساء، لكل واحدة منهن، كما يقال، عطرها وسحرها في الذاكرة. والرباط عاصمة المغرب الإدارية تتميز بنكهتها السياحية المستمدة من أسوارها ومتاحفها الأثرية وبواباتها الشهيرة ومعالمها التاريخية الموغلة في القدم. فقد أسسها يعقوب المنصور الموحدي عام 593 من الهجرة الموافق ل1198م.
وإذا كانت المدينة تشكل موقع عبور للقوافل السياحية القادمة من الخارج، فإنها تسجل رغم ذلك نسبة مبيت لا بأس بها، يرتفع عددها بالخصوص في فصل الصيف، بمناسبة انعقاد مهرجانها السنوي «موازين» الذي بات موعدا سنويا مفضلا لدى الكثير من عشاق التردد على فضاءاتها الشاسعة وحدائقها الفيحاء، حيث يعزف الهدوء، وسط الخضرة، سمفونيته الخالدة. مدينة إدارية تخلو شوارعها من المارة في الساعات الأولى التي تعقب المساء، لتستيقظ في الغد على أهبة الاستعداد للحاق بمكاتب الوزارات والدوائر الحكومية، حيث ينساب التوقيت المستمر ثقيلا مثل سلحفاة كسولة مسترخية ومستسلمة لأحلام اليقظة.
وهذا لا يعني أن المدينة تظل مهجورة من الناس، أو خالية من الحركة، بل ان السمة الأساسية لها طيلة ساعات النهار، هي الرواج، فما ان تغمرها شمس الصباح بأشعتها في اللحظات الأولى من الصباح، حتى تتحول إلى خلية حقيقية تموج بالحيوية والحماس، كأنها شابة في العشرين من عمرها مفعمة بالحب والأمل والحلم.
هي مدينة تاريخية عتيقة، هذا صحيح، لكنها تتجدد باستمرار، وتتأهل لمعانقة المستقبل من خلال مشاريع جديدة تتسم في غالبيتها بالطابع السياحي والترفيهي والعمراني، مثل تهيئة ضفتي أبي رقراق وإخراج شاطئها على المحيط الأطلسي من عزلته، بتوفير البنيات السياحية وتعزيز الطاقة الإيوائية لاستقبال ضيوفها وزوارها.
لا تهمل نفسها أبدا، رغم بعض التجاعيد التي تغزو ملامحها بفعل عوائد الدهر والإهمال البشري.
وانطلاقا من الحرص على تدارك بعض الأخطاء والحرص على الحفاظ على موروثها الحضاري، تم مؤخرا البدء بترميم المواقع التاريخية وتجهيز الأسوار بالأضواء الكاشفة.
وقبل ذلك، جرى منذ مدة تبليط أرضية شارع محمد الخامس، بالرخام، بتكلفة مالية كبيرة، أثارت الكثير من الجدل.
وكان الهدف من وراء هذه العملية إضفاء مسحة من التحديث والجمال على هذا الشريان الرئيسي الذي تصب فيه كل الشوارع، وتتقاطع فيه كل الخطوات، وتتلاقى فيه كل الوجوه في المقاهي والمحلات التجارية المزروعة على جنباته بشكل متناسق. والمشهد في مجمله، يبدو مغرقا في الرونق والتناغم، ابتداء من مسجد «السنة» الشهير، ومرورا بمحطة القطار، حيث تحط أسراب الحمائم قرب النافورات الدافقة بالماء، مما يعطي للمكان المزدان بالخضرة وأشجار النخيل، ألفته وحميميته، ويتيح بالتالي للمصورين المتجولين التقاط صور للذكرى، لبعض الزوار والسياح العابرين للحديقة المواجهة للبرلمان، وفي شارع محمد الخامس ينتصب فندق «باليما» كمعلم سياحي وسياسي في نفس الوقت، إذ ارتبطت به سلسلة من الأحداث التاريخية للمغرب المعاصر.
لقد ظل فندق «باليما» لفترة طويلة مأوى ومحجا لوجوه سياسية وإعلامية من داخل الوطن وخارجه أيضا، كانت تحط فيه الرحال لوجوده وسط البلد وقربه من الإدارات.
ولطالما تناسلت فيه الإشاعات السياسية مثل نبات الفطر، فسقطت حكومات، وصعدت حكومات أخرى محلها! كل ذلك في جلسات حول فناجين القهوة، أو كؤوس الشاي بالنعناع، في سطيحة المقهى، قبالة البرلمان.
ولعل هذا الموقع الاستراتيجي لفندق «باليما» هو ما اكسبه شهرة كاسحة في المخيلة الشعبية المغربية، وجعله يدخل التاريخ المعاصر من بابه الواسع، كفضاء تلتقي فيه النخبة السياسية والصحفية والثقافية، تتفق وتختلف وتفكر بصوت عال في نقاشات حول قضايا الساعة وشؤونها وشجونها.
وفي مرحلة من المراحل، كان هناك «سلطان باليما» يروج ويجيء، يصول ويجول، كحاكم حقيقي، مرتديا لباسه التقليدي الأصيل، بسلهامه وطربوشه، بينما هو في الحقيقة، مجرد مواطن بسيط اتخذ من هذا المظهر الموحي بالتباهي بالسلطة، وسيلة ومصدرا للدخل والاحتيال.
حكايات كثيرة تروى عن مقالبه وإيقاعه بالعديد من الناس، كبيرهم وصغيرهم، مستغلا سذاجة البعض منهم وثقتهم في شكله الشخصي الخارجي الذي يعطي الانطباع، لمن لا يعرفه جيدا، بالجاه والنفوذ. وفيما بعد اختفى «سلطان باليما» كما اختفت ملامح أخرى مسها التغيير الأخير، الذي طال أشهر وأكبر شارع في المدينة، بدعوى التطوير.
في وسط المدينة تنتشر المقاهي والمطاعم الشعبية، التي تقدم لروادها كل شيء، من الكسكس إلى العدس، ومن السمك إلى «البيصارة» مع كؤوس الشاي. ومن أشهر الفضاءات في هذا المكان، فضاء «النقابة»، بالقرب من محطة الحافلات بساحة «باب الأحد» التي تخضع حاليا هي الأخرى للمسات التجديد، عبر تغيير مساراتها.
وهذا الفضاء المسمى ب«النقابة » ليس مكانا للتجمعات والنضالات النقابية والعمالية، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه مقهى، بل أقدم مطعم شعبي، أبوابه مفتوحة ليل نهار، في وجه المقيمين والزوار على السواء. الكراسي طويلة، والأكل متنوع، بتنوع ألوان الطبخ المغربي، لكن «البيصارة» او حساء الفول، التي يشكل الفول عنصرها الأساسي، هي العنوان الرئيسي لقائمة الوجبات الغذائية التي يكثر عليها الطلب هنا. المكان تبدو عليه آثار الزمان الغابر، وإن بدأ الرخام يغزو مؤخرا جدرانا لم تلمسها الصباغة منذ حقبة زمنية لا أحد يتذكر تاريخها بالتحديد. هنا في هذا المطعم الشعبي الشهير جدا، كان المثقفون والفنانون المغاربة، في وقت من الأوقات، يأتون إليه فرادى وجماعات، بعد منتصف الليل، فيكملون جلساتهم ونقاشاتهم الصاخبة، حول مختلف التنظيرات الفكرية والتيارات النقدية حول النص والتناص، وغير ذلك من المصطلحات التي سادت ثم بادت...! أغلب الرسامين والشعراء والنقاد مروا من هنا، أكلوا وشربوا وتسامروا، وخرجوا في آخر الليل، وهم يتمازحون ويمزقون ستار الليل، المرصع بالنجوم، بالضحكات والقهقهات، ومنهم من سجل تلك الذكريات في بعض الكتابات، فأصبحت مرجعا لمرحلة تسكن تلافيف الذاكرة.
وحتى الآن ما زال بعضهم يتردد على المكان، بين فترات زمنية متباعدة جدا، مدفوعا بالحنين، أو ما يسمى ب «النوستالجيا»، لإحياء صلة الرحم مع مقهى كان ذات يوم،مكان اللقاء المفضل، لتتويج السهرة، بأكلة «كوارع» أو وجبة دجاج ساخن في طاجن متنوع الخضر كلوحة تشكيلية حقيقية.
وحدها القطط لا تبرح المقهى، تظل آناء الليل وأطراف النهار، تروح وتجيء أسفل الموائد، عند إقدام الزبائن. وعندما يداهمها النعاس، تستسلم لسلطانه آمنة مطمئنة، لا يعكر صفوها سوى صوت الملاعق فوق الصحون، ونداءات النوادل المرحبة بكل الضيوف.
هذا المطعم الشعبي يحق له كما قال عنه ذات يوم أحد المثقفين، أن يرفع شعار «ديمقراطية الأكل». كل الفئات الاجتماعية تجد فيه مبتغاها، حسب ميزانيات جيوبها، من المتسولين، إلى الموظفين والرسامين والمسافرين وعابري السبيل. والرباط، كنقطة إلتقاء عريقة للحضارة والتاريخ، هي أيضا مدينة الضيافة بكل خصائصها وأشكالها، وتنفرد مطاعمها العصرية المنتشرة، عبر مختلف الأحياء، بتقديم كل الأطباق الشرقية والغربية والأوروبية، إضافة إلى الأكل المغربي الذي يضرب به المثل في اللذة، لكونه يرضي جميع الأذواق. وثمة مطاعم على الشاطئ الراقد على المحيط الأطلسي، مختصة أساسا في طهي السمك الطري الوارد عليها للتو من البحر.
وإذا كانت «كل الطرق تؤدي إلى روما» فإن الدخول إلى مدينة الرباط القديمة المسيجة بالأسوار، لا يتم إلا عبر بواباتها التاريخية الخمس الشهيرة: «باب الأحد»، «باب لعلو» «باب شالة»، «باب البويبة»، «باب الملاح».
كل باب يفضي إلى فضاءات تعبق بأريج الماضي البعيد، وتتفاعل مع تحولات الحاضر ومستجداته.
ومن بين تلك الاماكن «السويقة» الذي يشكل عالما غريبا وعجيبا، يتدفق بالحركة والناس والزحام، حيث تتكدس البضائع القادمة من كل الأصقاع، بكافة الأنواع، سواء منها الأصلي أو المزيف، على أرفف الحوانيت الضيقة التي تتسع بالكاد لأصحابها، وسط ركام السلع.
سوق شعبي وعصري، في نفس الوقت، يبيع كل شيء وأي شيء، جنبا إلى جنب في الدكاكين المجاورة، كأنها تسند بعضها بعضا: الفواكه واللحوم والخضر والتوابل والعطور، الملابس التقليدية القديمة وأزياء أخر صيحة في عالم الموضة، والأواني البلاستيكية والصحون المقعرة، والتليفونات المحمولة، والحواسيب والأجهزة الرقمية، وأحدث مستجدات التكنولوجيا الحديثة، وفي «الجوطية» بالخصوص الكثير منها.
ويمكن لعشاق المصنوعات والمنسوجات اليدوية والحلي ان يعثروا على ضالتهم المنشودة، وكل ما يحلمون به من تذكارات، فالمدينة القديمة تشتهر بحرفها التقليدية المتوارثة أبا عن جد، تسكبها أصابع من ذهب في بوتقة الروعة والجمال.
إن صناعة الزربية الرباطية، مثلا، ضربت شهرتها الأفاق بحسنها وجودتها، حتى غدت بمثابة سفيرة للأصالة المغربية في الخارج.
ولذلك يحرص السياح الأجانب على إقتنائها، واصطحابها معهم، عساها تبعث الدفء في بيوتهم الباردة بألوانها الفاتحة وبساطة رسومها وزخارفها وتنويعاتها. والرباط هي مدينة عربية بإمتياز، فتحت ذراعاها لإحتضان واستقبال أفراد العائلات المهاجرة من الأندلس، بعد سقوط غرناطة، فوجدوا فيها الحصن الحصين والمأوى والملاذ، وانصهروا مع سكانها في إندماج تام، واصبحوا جزءا منهم، وكان لهم تأثير واضح في المعمار والهندسة والتراث والأدب والموسيقى والطرب، مازال ماثلاٌ للعيان حتى الآن.
- مزارات سياحية
- معالم الرباط التاريخية ومزاراتها السياحية التي لا تكتمل الزيارة بدونها، عديدة ومتنوعة، ولا بأس هنا من التوقف عند أبرزها:
- صومعة حسان السائح القادم إلى مدينة الرباط، من مطار مدينة سلا، عبر قنطرة وادي أبي رقراق، لا بد أن يثير انتباهه، لأول وهلة، وجود صومعة مسجد حسان التي يمتد طولها شامخا في الأعالي بعلو يصل إلى أربعة وأربعين مترا. بنى المسجد السلطان يعقوب المنصور الموحدي، قبل أن يداهمه الموت سنة 1199، وكان يهيئه لأن يصبح من أكبر مساجد العالم الإسلامي، وما زالت الأعمدة المنتصبة في الساحة والزخارف المنقوشة وفق النسق الأندلسي شاهدة على هذا التوجه، صامدة في وجه عاديات الزمن وعوامل التعرية الطبيعية.
- ضريح محمد الخامس
- على مقربة من مسجد حسان، ينتصب ضريح محمد الخامس برخامه الأبيض الناصع، وقرميده الأخضر.
ويحج إليه يوميا عدد من السياح الذين يقفون منبهرين بمعماره المستوحى من الهندسة العربية الإسلامية، في جو يعبق بالبخور المنبعثة من داخله، مع صوت مقرئ يتلو آيات من الذكر الحكيم، ترحما على الراقدين داخل الضريح: وهم الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله.
- شالة
- من بعيد، تبدو قصبة شالة الرابضة فوق ربوة عالية مطلة على نهر أبي رقراق، كقلعة مسكونة بالأساطير، وفي وقت من الأوقات كانت مقصدا للباحثين عن «كنوز الذهب» اعتقادا منهم أنها مدفونة في ترابها.
ولدت شالة كمدينة في العهد الروماني، وتحولت في القرن العاشر الميلادي إلى ثكنة لتجمع المجاهدين لمواجهة قبيلة برغواطة، حسب كتب التاريخ، ثم أصبحت مقبرة للملوك المرينيين خلال القرن الثالث عشر.
يغلفها سكون رهيب في ممراتها، لا يقطعه سوى رفرفة أجنحة العنادل التي اختارت السكن في جدران بناياتها، حيث الأبهاء والمرافق والقباب تبعث في النفس ذكريات مجد غابر بناه الأجداد، وظل عربونا على دقة الإتقان وروعة البنيان .وفوق صومعة مسجد شالة وجد طائر اللقلاق أن هذا هو المكان المفضل لبناء عشه في الأعالي، بعيدا عن شغب الأطفال وصخب المدينة.
- قصبة الأوداية
- تعتبر قصبة الأوداية من أجمل الأماكن الأثرية في الرباط، بحديقتها الأندلسية الفيحاء، وبمقهاها التقليدية لشرب الشاي المغربي، وبأزقتها الضيقة المصبوغة باللون الأزرق، والمزينة بالنباتات المتدلية من الشرفات، وبموقعها الفريد من نوعه فوق مرتفع صخري يطل على النهر والبحر معا: وادي أبي رقراق وشاطئ المحيط الأطلسي، ومدينة سلا وحي حسان أيضا.
ومرة كل عام يلتقي عشاق موسيقى الجاز في مهرجانها السنوي.
ونظرا للهدوء الذي يسودها، لجأ إليها فنانون وسياسيون ورسامون وموسيقيون للسكن فيها.
وكانت الأوداية مؤخرا في قلب جدل حاد، إثر ما نشر وقيل في الصحافة عن تعرض بعض معالمها للتشويه على يد مسؤولين سرعان ما أصدروا بيانات حقيقية لرفع التهمة عن أنفسهم!.
ومن باب البحر قرب قصبة الأوداية تتواصل الأشغال حاليا لتهيئة كورنيش الرباط على الواجهة الساحلية لمسافة تمتد 12 كيلومترا في اتجاه شاطئ الهرهورة، وعلى مساحة 330 هكتارا.
ويوم استكمال هذا المشروع الجديد المسمى «سفيرة» بمساهمة رأس مال إماراتي ستتعزز البنية التحتية للتجهيزات السياحية بميلاد مركبات فندقية ذات مرتبة عالية ودور للسينما ووحدات ترفيهية ومجالات تجارية من شأنها النهوض بالمكانة السياحية والثقافية للعاصمة السياسية، التي توفر أيضا لعشاق الرياضة والتفسح مساحات شاسعة كذلك لممارسة هواياتهم، سواء في السباحة، أو لعبة الغولف، أو الفروسية أو التنيس، أو ركوب الأمواج، أو التزحلق على الماء، وكل ذلك تحت أشعة شمس دافئة، في مناخ معتدل أغلب فصول السنة.جريدة الشرق الاوسط
كحوله