«سياحة التاكسي»! نعم، ما قرأته صحيح، ليست هذه نوعاً جديداً من السياحة، ولكنه نوع عتيق، وإن كان كثيرون لا يعترفون به رغم أهميته وطرافته في آن. والسبب في ذلك أنه ليس مدرجاً في الأدلة السياحية، أو في برامج السياح المجهزة مسبقاً، أو في الرحلات المنظمة التي تعرضها شركات السياحة والفنادق لعملائها. فالسياحة - في عرف الغالبية - هي الاجتهاد في الترويج أو تسويق المدينة المُزارة ولكن وهي في «أبهى صورة ممكنة»، أو بمعنى أدق بذل الجهود العاتية ل «إخفاء الحقائق والواقع القبيح (إن وجد)»، وعرض «الجانب الجميل والمبهج والمبهر» من المقاصد السياحية.
لكن لأولئك الراغبين في استكشاف الجانب الحقيقي من المدن التي يزورونها، فعليهم التخلي عن باصات الجولات السياحية، والسيارات الليموزين، وهذا ينطبق تحديداً على مدينة مثل القاهرة القادرة على تقديم سياحة خمس نجوم تبدأ بفندق مكيف تطل غرفه على حمامات السباحة، وتمر بالتجوال المنظم في الأماكن المجهزة مسبقاًَ لاستقبال السياح، وانتهاء بوردة حمراء تعطى لكل سائح قبل صعوده الطائرة.
فعلى السائح الذي يزور القاهرة أن يتحلل من برنامجه سابق التجهيز ولو لمدة يوم ويتوجه إلى ناصية بعيدة عن الفندق الذي يقيم فيه وينتظر وصول تاكسي قاهري بلونيه الأبيض والأسود، وليس تاكسي العاصمة المكيف الجديد، ومن الأفضل اختيار سائق يكون تعدى الخمسين من عمره، وأن يكون ذا وجه بشوش قدر الإمكان. والسبب في اختيار تلك المرحلة العمرية هو أن السائقين من الشباب غالباً ما يكونون من التهور في القيادة ما يجعل تسليم مجرد الركوب في سيارة واحدة معهم وتسليم النفس لهم أمراً غير محمود العواقب، بالإضافة إلى أنه يفقد الفكرة بهجتها نظراً الى الشد العصبي وربما العضلي الذي قد يصيب السائح بسبب القيادة المجنونة في شوارع القاهرة المخنوقة.
وإذا افترضنا العثور على مثل السائق الذي على الأرجح سيكون جالساً خلف عجلة قيادة سيارة عتيقة ولكنها تسير بفضل الله سبحانه وتعالى، وبفضل حنكة السائق، والقدرة المصرية الصميمة في الحفاظ على كل ما هو قديم وإن كان ذلك لأسباب اقتصادية بحتة.
أخبر السائق أنك تود التجول في مناطق غير سياحية لمدة ساعتين أو ثلاث، واتفق معه على المبلغ الذي ستدفعه له مسبقاً حتى لا يكون الباب مفتوحاً ل «الفصال» طوال الرحلة. ويمكنك أن تطلب منه أن يصطحبك إلى منطقة شعبية عريقة، مثل حي القلعة، أو الدرب الأحمر، أو شبرا، أو المميزة. ويمكنك أن تطلب منه أن يتجول معك مشياً على الأقدام بين الشوارع الجانبية والأزقة والحارات، بل يفضل أن تصحبه معك كي تطلع عليها عن كثب، ولكن نصيحة: لا تأخذ معلوماته التاريخية الخاصة بتاريخ بناء المباني والمناطق وأسباب تشييدها أمراً مسلماً به.
ومن المميزات التي ستتمتع بها في حال اختيار «سياحة التاكسي» أنك ستحصل شئت أم أبيت على جرعة مكثفة من النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية المحلية والإقليمية والدولية، هذا إذا اطمأن إليك السائق. ستسمع منه خلاصة خبرته الحياتية، وتقييمه لكل صغيرة وكبيرة في مجريات الأمور في مصر والعالمين العربي والغربي. ستعرف منه الحل الذي تاه عن بال جميع ساسة العالم لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، وسيمدك بتحليل ثاقب لتفصيل الأزمة العراقية، ولا مانع من رؤيته في ما يختص بمستقبل الاحتلال الأميركي للعراق.
وفي حال كنت من المهتمين بكرة القدم، فما عليك سوى ذكر عبارة مثل «يا سلام على مباراة الأهلي والزمالك الأخيرة»، أو «أما جول الأهلي كان حكاية» ولكن حذارِ أن تظهر نبرة صوتك أو تعبيرات وجهك أي تفضيل لفريق من دون آخر، لأن المخاطرة في مثل هذه الانتماءات الكروية بالغة الخطورة، وذلك لحين التأكد من ميول السائق.
مزايا «سياحة التاكسي» لا تتوقف عند حدود التعرف عن قرب على المدينة التي تزورها، أو تثقيفك سياسياً، بل ستجد لديه كذلك ما شئت من مؤشرات بالغة الحداثة للفقر فهو سيمدك حتماً بمقاييس جديدة لخط الفقر، وسبل مكافحته، وهو الموضوع الذين سيقوده بالطبع إلى التبحر في شؤون النظام والفساد، والنصيحة هي أن تجعله يتوقف عند هذا الحد لأن الرحلة قد تنتهي نهاية غير سعيدة.
وإذا كان هناك وقت متبقي في الرحلة المتعاقد عليها، وكانت لديك ميول للتسوق «الشعبي» فهذا هو الرجل الذي تحتاجه، سيكون سائق التاكسي الأقدر على الجدل مع البائعين للوصول إلى أدنى سعر ممكن لأي شيء وكل شيء تود شراءه من الأسواق الشعبية، بدءاً من الجلباب البلدي، ومروراً بالمشغولات الذهبية والفضية، وانتهاءً بالعطور والعطارة.
عموماً، إن لم تعجبك فكرة «سياحة التاكسي» فلا تكررها، ولكنك حتماً ستكون أضفت الكثير إلى مخزونك عن القاهرة وأهلها وسكانها الحقيقيين، وهي تجربة يمكنك استنساخها في كل مرة تسافر فيها إلى وجهة سياحية لا تقدم سوى السياحة ذات النجوم الخمس.
أشكرك على مجهودك الطيب
تسلم الأيادى