- تكتبها: دينا العيسى
- استراحة مصرية %100
- ست الكل
- الصحافة المصرية العريقة
- جولة في وسط مصر
- اطلع يا مصطفى
- الفراعنة سبقونا
- مطعم 5 نجوم في الشارع
- يوم المليونير كيف يكون؟
- قلت: والله كلامك كله حكم يا عم محمد وانا بتعلم منك..
تكتبها: دينا العيسى
استراحة مصرية %100
كتبت هذه الاستراحة في شهر ديسمبر الماضي في ذلك الوقت لم استطع نشرها بسبب سخونة الاحداث في غزة الاسيرة فالناس كانوا في كربة من شدة الحصار ولم استسغ ان انشرها مراعاة للشعور بالمشاركة بعدها اشتعلت الاحداث في بيروت وايضا لم انشر لنفس السبب الاخير قررت ان افك الاسر عن استراحتي رغبة مني في تقديم مادة صيفية تخفف على القارئ حرارة الطقس والاحداث التي يبدو لي انها لن تنتهي ولن ننعم بالسلام الدائم الذي نود ومع ذلك لن نيأس فسيأتي يوم ننهض من جديد ولان الحياة يوم حلو ويوم مر اتمنى اليوم ان يكون يوما حلوا للجميع.
ست الكل
بعد فراق طويل دام أكثر من عشرين عاما وجدت نفسي مرافقة لابنتي الطالبة في الجامعة الامريكية لان انضم اليها في سفرة الى ارض الكنانة مصر ولاختلاف اغراضنا واهدافنا فلقد تركت لها الحبل على الغارب كي تستمتع ببرنامجها المعد مسبقا من قبل ادارة الانشطة في الجامعة وكي استمتع بدوري في اكتشاف مصر المحروسة من جديد.. ولذا رافقتني »الاميرة ياسمين« كما تحب ان اسميها ابنتي الكبرى في زيارتي تلك وقد كانت رحلة ممتعة قضيت فيها اربعة ايام كاملة وانا اتجول ما بين تاريخ الفراعنة القديم وتاريخ مصر الجديد.
وكان اول انطباع لي عن البشر ان المصريين شعب حبوب وطيب يتمتعون بلغة ولهجة ذات جرس موسيقي مليء بالمشاعر الدافئة، فكل امرأة او فتاة عندهم هي ست الكل وتلك حالة تغرينا نحن النساء فعندما نتجول في عواصم العالم كلها نسمع عبارات نطرب لها كعبارات التهليل والترحيب ففي لبنان نسمع تكرم عينك وفي سورية نسمع تقبريني وفي مصر نسمع ست الكل وفي البحرين نسمع يا الشيخة وفديتج، ما عدا في الكويت لا نسمع شيء من هذا القبيل ولذا كان اول فكرة تخطر في بالي ان قاموس التخاطب الشعبي يعيش حالة حرمان وربما لاننا لا نعتمد على العمالة الوطنية الكويتية لا في الاسواق او المطاعم والفنادق او حتى سيارات الاجرة.. ولذا نحن نسمع من الهنود »باي ساب« ومن الآسيويين »مادام« باردة، حتى الشرطة او موظفي الجوازات لم يعتادوا على الالفاظ التي فيها اكرام وحشيمة للمرأة واذا حبّوا التلطف قالوا »حجيّة« اعرف سيدة شابة في الاربعين عندما قال لها الشرطي خالتي، قالت له: تخلخلت حنوجك شايفني كبر أمك؟! ولذا نقترح على العمالة الوطنية الذكورية ان تستنبط كلمة رقيقة ولطيفة للتعامل مع المرأة!! كذلك هناك سبب آخر لعدم وجود مثل تلك الكلمات في قاموسنا هو عنصر سوء النية او الحياء والخجل فلا يمكن لرجل ان يقول لامرأة غريبة »يا بعد جبدي« او يا عمري لانها راح تشك فيه!! والبعض المؤدب يستخدم كلمة او مصطلح »طال عمرج« من ناحية اخرى عندما يتحدث اثنان من الرجال عن حريمهم فدائما يتكلمان عن زوجاتهما بصفة ام العيال او النسرة او الحكومة حتى لو كانت زوجته اطيب خلق الله او انه يبادر لوصف نفسه »سكّانه مرته« حتى لو كان سي السيد نترك قاموسنا اللفظي ولهجتنا الغنية بالألفاظ الموسيقية كمهمة للرجال ليكتشفوا الكلمة او العبارة المناسبة لمزيد من حشيمة وكرامة المرأة الكويتية نستاهل.. موصح؟!
الصحافة المصرية العريقة
في أربعة الايام تلك واظبت على قراءة جريدة الأهرام وبعض الصحف والمجلات المصرية، وزرت مكتبة مدبولي الشهيرة واقتنيت عدداً من الكتب القيمة.. وأيضا وجدت نفسي اقارن بين كتّاب الاعمدة والزوايا لدينا وكتابهم. ومع علمي مسبقاً بأن الفرق شاسع فعندما تقرأ لأنيس منصور او أحمد رجب وعطا الله وغيرهم فدائما تخرج بمعلومة مفيدة او خبر جديد حتى لو كانت المعلومة تاريخية او معرفية او علمية او حتى نادرة من النوادر. لذا تجد متعة في القراءة لأن كتابتهم صيد اما كتابنا الافاضل فمعظهم يتجهون للكتابة النقدية البحتة بدون اضافة معلومة قيمة او خبر جديد ومفيد (واخد بال سعادتك) رحمة الله عليه الشيخ شعراوي كان يتكلم ببساطة الفلاحين وفجأة يعطيك معلومة مهمة عن آخر ابحاث العلماء في الغرب.. على العموم لدينا ايضا مميزات جميلة في صحافتنا مثل تمتعنا بقدر عال من الحرية لكن للاسف لم نوظفها صح..
جولة في وسط مصر
في اليوم التالي وبعد عشاء مكون من طبق الكشري (بوتلاته جنيه) في احد المطاعم الشعبية مع شوية شطة معتبرين تحول فمي الى حريق ولكنه حريق لذيذ، فنحن أكلة (المعبوج) لن يخوفنا طبق كشري مع الشطة ووجدتها فرصة لتمرين حاسة التذوق عندي بنوع آخر من الفلفل الحار والشطة يعقبها ثلاثة اكواب من الماء البارد لاطفاء لهيب الشطة مع الكشري.. المهم في وسط الطريق لمحت محل (جروبي)، ذلك المحل الذي كان اشهر محل حلو في الافلام العربية القديمة، وتخيلت نفسي ان اجد فاتن حمامة وعمر الشريف على طاولة يرتشفان القهوة التركية ويتبادلان النظرات والهمسات.. وفجأة التفت الى الاسطى مصطفى لاقول له (وقف عندك.. يااسطه!) قال لي: فين ست الكل، قلت له: هنا عند جروبي.. ونزلت بسرعة البرق قبل ان يغادرا (فاتن وعمر) واتفاجأ بثلاث اربع فترينات حلو خاوية وبقاعة دائرية فسيحة تصفر وموظف غلبان (ماله عادل امام) يغالب النعاس واتجهت ببصري وقدماي تسيران بي لآخر القاعة الدائرية لاجد ممراً طويلاً عريضاً به طاولات وكراسي وبعض الزبائن لايتعدون اصابع اليد الواحدة. وبعد ابتسامتي العريضة وانا ادخل المحل انقلب شعوري لحزن كبير اذ لماذا نهمل مكاناً مثل هذا بإمكانه ان يكون خلية نحل ومقصداً للسياح والزوار.. فقط هو بحاجة لرعاية حكومية ويتحوّل الى مكان يدر ارباحاً على الخزانة المصرية، في الواقع مازال استراتيجيا وبوسط البلد وعدة القهوة والشاي والحلو والجاتوهات حاجة سهلة المهم ان تكون الادارة ذكية وواعية تعرف كيف تستثمر في هذا المكان الذي اصبح شبه مهجور مع انه في ذاكرة كل العرب وحتى الاجانب يعتبر معلماً سياحياً.. ومنا الى وزارة السياحة المصرية او الى احد المستثمرين عشاق الافلام العربية القديمة.
ومن جروبي المسكين.. اتجهنا عبر الشوارع المكتظة بالمحلات والناس ووقفة اخرى عند محل (حلاوة) المشهور بجلابيات القطن المصري او كما يسمونه »الذهب الابيض« وهنا اصابتني حمى الجلاليب لانتقي عدداً من الجلابيات الجميلة السادة والملونة حريمي ورجالي وولادي وشبابي وجلابية نانسي الشهيرة. ومن حسن حظي ان يكون توقيت ذهابي لمحل حلاوة بعد جروبي حتى ترتفع معنوياتي من جديد وافرح بالمستوى الرائع للمنسوجات القطنية المصرية والجلاليب الرجالية الصوفية التي تنافس ارقى الصناعات العالمية.
بعد مشوار جروبي وحلاوة، اقتربت الساعة من الثالثة ظهرا ولي عادة اعتقد انها حلوة ويشاركني فيها كثيرون ففي اي بلد احب ان ا تذوق اطعمتهم من باب التجديد والتغيير والمطبخ المصري مشهور بأصنافه اللذيذة والمنوعة..
أيوه يا مصطفى حنروح نتغدى دلوقتي!! حاضر ست الكل، سمعت كثيرا عن قهوة نجيب محفوظ ولكنني لم ارها من قبل وللعلم فإن قهوة نجيب محفوظ هي ذات نفسها قهوة الفيشاوي هكذا قيل لي سميت نجيب محفوظ تكريما لذكرى تواجده الدائم في القهوة أيام زمان.. المهم وصلنا للقهوة بعد المرور بأزقة خان الخليلي بفتريناته الجميلة وبريق الفضة والذهب يخطف الابصار وجمال ودقة المشغولات الفضية المصرية مع انني لست من عشاق الفضة ولكن اعتقد ان مشغولاتهم مغرية وأسعارهم مناسبة جداً.. المهم ماذا أكلنا في قهوة نجيب محفوظ؟؟ على فكرة في الأيام الاربعة التي قضيتها في مصر ذهبنا مرتين للقهوة، مرة تناولنا السحلب وأم علي وشاي ومرة دبينا الغدا (طبق فلافل معتبر، وكأنني أول مرة آكل فلافل) لأنها كانت مقرمشة وبطنها اخضر وكأنها صنعت للتو لنا، وبعد الفلافل جاء طبق الأوزبكية باللحمة مع الرز عبارة عن قطع من اللحم الضاني غارقة في اللبن الزبادي وفوقها شوية كزبرة ومعاها صحن رز ثم عرجنا على طبق المسقعة بالباذنجان والطماطم البلدي هذا غير صحن المشاوي المشكل كل هذه المائدة العامرة لنفرين فقط.. نعمل إيه في البطن وما يشتهي وعايزين ناكل كل مصر، في اربعة أيام!! وبالعافية ومن قهوة الفيشاوي أو نجيب محفوظ لابد ان نتمشى في خان الخليلي على الاقل حتى نهضم الوجبة الدسمة التي التهمناها منذ قليل ولم أنس وصية الاسطه مصطفى (بصي يا ست الكل أي حاجة عايزة تشتريها من هناك خذيها بنص سعرها يعني اذا قالك ربعماية قولي له مئتين ويمكن أقل شوية) وطبعاً حتى لا تفضحنا لهجتنا اتفقت أنا والأميرة ياسمين نتكلم مصري بقدر المستطاع واذا اتزنقنا بالكلام هي تحول انجليزي اتوماتيكيا أما أنا فلا أدري لماذا ينحرف لساني ناحية لبنان.. المهم أنني وصيت ياسمين إذا ما تعرفش مصري ما تتكلمش علشان ما ننفضحش ونتحول الى فريسة سهلة للبائعين.. أوكي حاضر ماما، المهم بعد ساعة من الجولة انتبهت الى انني أتكلم لوحدي وياسمين بقت طرمة.. ما تتكلمش!! فضحكت وقلت لها شفيج صرتي طرمة؟؟ قالت: مادري ماعرف مصري.. فضحكنا وقلت معلقة على السالفة: لازم تتعلموا لغات.. زمان واحنا ادكوا كنا نتبارى بأننا نعرف نتكلم مصري ولبناني وسوري وعراقي وبحريني وانجليزي وفرنسي، هذا الجيل جيل الهاي hi والباي bye اصبحت لغتهم العربية مكسرة ولا يعبرون عن أنفسهم وعن مشاعرهم جيداً، إلا باللغة الانجليزية وربنا يستر بقى من الايام القادمة!!
اطلع يا مصطفى
وطلعنا من خان الخليلي الى المهندسين وتوقفنا عند بعض محلات الانتيك والمشغولات المصرية وقد لفت انتباهي في احد المحلات وجود شنط صغيرة »أبواك« يعني »محفظة نقود« عليها شغل يدوي يشبه تمام الغرزة الفلسطينية المعروفة فسألت البائع.. ده شبة الغرزة الفلسطينية.. ازاي جات ليكو؟ فقال: دي بضاعة جاية من العريش وطبعا العريش اقرب نقطة مصرية من فلسطين المحتلة.. قلت: يا سبحان الله كيف أننا خير وسطاء لنقل وحفظ التراث وما أجمل أن نحافظ على هويتنا من خلال اشغالنا اليدوية.. المهم اشترينا بعض اللوحات والمعلقات الجميلة والمتقنة وأنا مبسوطة عالآخر أولا لأنها صناعة يدوية متقنة وثانيا لانها رخيصة وغير غالية الثمن على الرغم من جودتها!!
الفراعنة سبقونا
بقي من الرحلة يوم ونص.. وكنا نحاول ان نتفسح ونرى اكبر قدر من الاماكن فكان العزم في صباح اليوم التالي ان نزور المتحف المصري.. وبالفعل توجهنا الى هناك واللي لم يزر المتحف المصري ما شاف شي في مصر لأنه اول شيء انصحكم بفعله هو زيارة المتحف المصري لانه بكل محتوياته عبارة عن تراث انساني عريق وقديم وشيّق والحقيقة اننا على مدى ساعتين كاملتين كنا نمتع بصرنا بالمعروضات والمنحوتات والمومياء المصرية وتراث الفراعنة وحياتهم ومشغولاتهم ومجوهراتهم. المكان يستحق أن تقضي فيه يومين كاملين مو ساعتين وقفت كثيرا عند غرف عرض المجوهرات لأخرج بقناعة (انهم كانوا يلعبون بالحلال لعب) وبالفعل كانت عندهم كنوز لا تقدر بثمن.. والذهب في أيامهم كأنه صابون من كثرته. من ضمن المعروضات لفت نظري صندوق زجاجي بداخله لوح كبير مصنوع من (plexglass) نوع من الزجاج المضغوط غير قابل للكسر داخل هذا اللوح شرائط من الذهب الخالص المنقوشة والمحفورة بأشكال وألوان غاية في الدقة والروعة، والبطاقة اي بطاقة المعلومات تقول إن تلك الشرائط فُقدت في الفترة من سبعينيات هذا القرن ولمدة خمسة عشر عاما ثم وجدت معروضة في السوق السويسري!! والحقيقة انني اعجبت بشطارة السلطات المصرية كيف استطاعت ان تستردها من سويسرا (بلد الاوادم اللي ما يغلطون!) بعد مفاوضات ومشاورات مكثفة وعرفت ان دائما المال الحلال ما يضيع مهما طال الزمن يعود لاصحابه ولو بعد حين وربنا يمهل ولا يهمل!.
ان لباقتهم في الكلام ودبلوماسيتهم ليس لها مثيل وقد شهدت في الصباح اثناء جولتي في المتحف المصري موقفاً يعزز كلامنا في اللباقة المصرية، فقد كنت أمعن النظر في احدى الخرائط المعلقة على احد جدران المتحف وإذا برجل مصري يقترب مني ليسألني بكل أدب: عفوا حضرتك من فين؟ ومع انني شعرت بالضيق لحشريته اثناء تأملاتي الا انني لحسن الحظ لم استعجل في الحكم ولذا اجبته بدون نفس: انا من الخليج، فبادرني حالا: ما شاء الله انتو بتوع الخليج دايما كرما عشان كده ممكن لو سمحت تفسحي لي المجال وآخذ مكانك عشان اشرح للجماعة الاجانب دول واشار بيده إلى أربعة زوّار يلحقون به. آه حمدت الله اني لم استعجل في الرد وابتسمت واعجبتني لباقته في الاستئذان فقلت: تفضل وشكرا على لباقتك.. فابتسم محييا وبدأ فورا بالشرح للاجانب بلغة يمكن هيروغليفية لم اسمعها من قبل، شارحا لهم الجدارية المعلقة على الحائط وافسحت المجال بالكامل لاسعد بالصورة الحضارية للتعامل مع الآخرين.
مطعم 5 نجوم في الشارع
ست الكل د.هبة قطب انسانة ناجحة وذكية ومرحة تفهم في الاصول والفروع الجنسية هذا هو مجال دراستها وتخصصها تابعتها من خلال شاشات التلفاز عبر الفضائيات العربية وهي تدلي بمعلوماتها القيمة حول حياتنا الجنسية وتربطها وفق المنظور الاسلامي الشرعي الفقهي وهذا دعاني لأن تكون هي ضيفة برنامج المقبلين وحديثي الزواج قبل سنتين حيث استفاد منها كثيرون وتشاء الظروف لأن أرد لها الزيارة في مصر وحتى تكون ضيافتها مميزة ولا انساها ما حييت، فلقد احبت ان تفاجأني بدعوة فريدة من نوعها انا والأميرة ياسمين واتفقنا على ان نلتقي في تمام التاسعة والنصف مساء وكان د.هشام زوج د.هبة قطب هو رابعنا وهو بالمناسبة د.عيون ومن نفس دفعة د.هبة من جامعة القاهرة ويشكلان ثنائي يجنن (الله يبعد عنهم عين الحاسدين) طبعا الموعد تحدد قبل يوم حين التقينا ايضا عل وجبة الغداء واكلنا الحمام بالفريك في احد مطاعم أبو شقرة (المهندسين) وطلبت منا د.هبة ان نتشيك كده ونتأنتك علشان مكان العشاء اليوم مكان راقي ومليان من الجماعة السلبرتيز (المشهورين) وغمزتني بعينها ففهمت عالطاير وقلت احنا حنكون عند حسن الظن، وحسب الاتفاق انطلقنا نحن الاربعة ولم اسأل عن المكان ولا اسمه كل الذي اعرفه ان احنا كنا في الجاردن سيتي وبعد اقل من ربع ساعة وصلنا حي السيدة زينب ولفة ورا لفة وزقاق ورا زقاق واذ بنا امام مفاجأة المطعم الخمس نجوم في براحة ترابية يحيط بها بقايا اكوام الحجارة ومخلفات البناء ارضية المطعم مصنوعة من التراب الخالص وسط الازقة الشعبية، طاولات المطعم مصنوعة من الخشب المسكين عبارة عن انتيك بلدي من كثر الاستعمال والكراسي على نفس الشاكلة (النوادل) جمع نادل لابسين زي غير موحد كل واحد على كيفه اللي جلابيه واللي بنطلون جميعهم استقبلونا بابتسامة عريضة.. تفضلوا، اهلا وسهلا انتم ضيوفنا في مطعم عم محمد المعروف باسم الرفاعي هناك.. وحتى لا تصاب بالذعر والخوف من المنظر والمفاجأة غير السارة كانت حركة ذكية من د.هبة ان تدخل بنا الى الصالة الداخلية للمطعم عشان تفرَّجنا على الصور المعلقة على الحائط التي هي لأكبر الشخصيات من مصر وخارج مصر كلها تاكل من عند عم محمد وتحط صورها وتتصور مع الراجل الطيب فهناك صورة للعبقري احمد زويل (صاحب جائزة نوبل) يأكل في مطعم الرفاعي وصورة اخرى لسيادة الرئيس وصورة للفنان المحبوب عبدالله رويشد بدون زوجته لأنها ممكن كانت في شرم الشيخ وصور فنانين وفنانات مصر المشهورين وصور شخصيات عربية سياسية يمكن ما يحبون اذكر اسماءهم كل هؤلاء هم رواد مطعم عم محمد.. تلك الصور هي اداة الاقناع الاجبارية كي نطمئن على انفسنا ووجبتنا المنتظرة في الهواء الطلق وفوق التراب ووسط القطط والعتاوية الجائعة التي تتمختر بكل ثقة بين ارجل الجالسين والجالسات مما اضطرني لأن ارفع اقدامي من على الارض طول فترة العشاء لأتحاشى الاحتكاك بالقطط!! طبعا بجلوسنا على الكراسي أحضروا لنا صحون السلطة والمقبلات عبارة عن حمص وطحينة وسلطة مقطعة بطريقة بدائية، حاولت ان احامل وآكل منها (لم استطع) فابتسمت وظللت اغمس الخبز الساخن في الحمص والطحينة لغاية ما يأتي العشاء المنتظر.. وبعد 10 دقائق رفع الدكتور هشام يده الى النادل طالبا منه احضار 4 اكواب مشروب!! ويصرخ النادل بأعلى صوته: 4 مشروب وصلحوا!! وفي الحال تأتي الاربعة اكواب في صينية معدن انطفأت لمعتها من كثر الاستعمال وببراءة اسأل النادل: ايه الهباب ده؟؟
فيقول: ده مية السلطة مع شوية بصل وخضرة عالوش، بلعت ريقي بصعوبة وقلت في نفسي اصول اللياقة والادب تحتم عليَّ ان ارضخ لكل طقوس العزومة خلاص انا توهقت والاجر على الله، رشفة خائفة.. ليكون المذاق خليط من الخل والليمون والبصل (يعني فعلا مية سلطة) وحمدت ربي على معلوماتي في مدى صحة خل التفاح كقاتل فعال لجميع انواع الميكروبات والبكتيريا وشربنا المشروب وطلبت كأسا ثانية وثالثة فلقد اعجبني هذا المشروب الاسلامي خاصة ومعي شهود اثبات على مدى صحته وفعاليته (دكتوران + خبرة في العزايم المميزة).. بعدها بدأت أتأمل المكان يمينا وشمالا واسعدني جدا ان اكون في حارة مصرية قديمة، وانت تأكل يمر من امامك بتاع العيش (الخبز) يحمل خبزه بصينية فوق رأسه واليد الاخرى على مقبض (القاري) أي دراجته البسيطة ليطوف عليك متجها نحو المطعم لتوصيل الخبز وسط صراخ النادلين تسمع شجارهم وشخطهم وتحلطمهم في بعض.. احدهم اقترب من الأميرة ياسمين يسألها: مبسطوة؟؟ فردت مخترعة: أيوة.. فرد عليها: طب كلُي قبل الاكل ما يبرد!! كلام فظ وخشن ولكنه من القلب يحمل صفة الطيبة والعفوية والبساطة بدون خدش للحياء ولا اتيكيت ماسخ المهم بعد ان احضروا لنا صحنين كبار من المشاوي عبارة عن كفتة وكباب مدفونة وسط جبل من الكزبرة والبقدونس وعلى سبيل المزاح المصري وضع النادل الصحنين على الطاولة ومسك الفوطة ووضعها على ذراعه الشمال وبانحناءة بسيطة وبلغة متقنة قال: بونابتي (bon appetit) باللغة الفرنسية يعني (صحتين وبالعافية) تلك كانت النكتة العفوية التي اضحكتني والجالسين كثيرا، فالمفارقة ان تجلس في مطعم شعبي %100 وتسمع عبارة قمة في الاتيكيت الرسمي!! ولم يمررها د.هشام بسلام فرد على النادل بالفرنسي، فصاح في وجهه: يعني لازم تهزأني امام ضيوفك؟! هما كلمتين حافظهم ومفيش غيرهم سلام ويرنها ضحكة من القلب، يا سلام الكل مبسوط وسعيد وسط اشهر واطيب مطعم للكفتة والكباب على الطريقة المصرية وفي جو مفرط في البدائية والبساطة هذا ما حرك في داخلي الحس الصحافي وفضول الصحفيين في معرفة المزيد عن هذا المطعم وصاحبه وفكرته وسر نجاحه وسبب استمراره على هذا المنوال وهذا الاسلوب الفريد؟
في الحقيقة تمنيت ان ألتقي صاحب المطعم ليجيب عن ما في جعبتي ومعدتي من اسئلة واستفسارات.. واستجاب ربي لرغبتي.. وبدون موعد مسبق ها هو ذا العم محمد يأتي مبتسما نحونا ليرحب بنا في مطعمه الشهير (الرفاعي) رجل في اواخر الستين يبدو رشيقا وهو يرتدي الجلباب البلدي وقد علا رأسه الشيب وبوجه سمح لا تفارقه الابتسامة ألقى علينا التحية وانتهزت دينا الفرصة كي تطلب منه حواراً وجولة سريعة وصوراً تذكارية التقطتها بعدسة كاميرتي الديجتال.
يوم المليونير كيف يكون؟
بعد دعوة العشاء المميزة والفريدة من نوعها قمت بجولة سريعة في براحة المطعم لالتقاط الصور التذكارية ولأحظى بحديث شيق مع العم محمد المليونير بين عدة وادوات الثروة فالوقفة الاولى كانت عند شواية الفحم الضخمة لتستوعب عشرات اسياخ الكفتة والكباب يقف على الشواية 4 عمال متخصصين وبالقرب من مكان الشواية الصالة الرئيسة للمطعم المكتظة بالرواد، ثم عرجنا على غرفة صغيرة على الجنب حيث يتم هناك تقطيع اللحم، كما ترونه في الصورة المرفقة يختلط صوت الساطور ضاربا قطع اللحم بالعظم ليندمج مع صوت الست أم كلثوم طبعا هذه هي عدة مزاج العمل ساطور وصوت أم كلثوم في آن واحد وهنا وجهت سؤالي لعم محمد فقلت له: كيف تبدأ يومك عم محمد؟ فقال: اصلي الفجر حاضر وبعديها على طول انزل اشوف اللحمة بنفسي واشتريها واديها العمال واشرف بنفسي على التتبيلة والخلطة، رأيتم كيف هي عدة الثروة لا سكرتارية ولا مدير اعمال!!
وجاء سؤالي الثاني لعم محمد، هل انت مليونير؟ فأجاب على الفور: مستورة والحمدلله فقلت: هل تغيرت حياتك بعد ان اصبحت مليونيراً؟ قال: طبعا انا ساكن في عمارة ملك وحوالي ولادي واحفادي (طبعا عم محمد رجل بلدياتي بسيط).
فقلت: عم محمد لو اعطيتك عرضاً مغرياً يجي كده مليون جنيه في الشهر وتقعد في البيت مرتاح هل تقبل؟
فأجاب بانفعال: ابدا، ده انا جاللي عرض بالملايين يشتروا مني الاسم أو اني افتح مطعم في دبي لكني رفضت!!
قلت: في حد يرفض الراحة؟ قال: لأ.. لكن ده المحل له فضل عليّه، بعدين انا بوكل كل الناس دول اللي بيشتغلوا معاي. فقلت ما علاقتك بهم، يعني بتعاملهم ازاي؟
قال: شوفي احنا هنا عيلة واحدة وانا بحرص اني اساعد كل واحد فيهم محتاج بديلوه (أي اعطيه) اللي عاوزه يعني اللي عايز يكمل تعليمه واللي عايز دوا أو مستشفى يعالجه، قلت: واللي يغلط تعمله ايه؟ قال: انا بسامح دايما واللي بيغلط اعلمه مرة وتنين وتلاتة ولو ما نفعش بعد كده يبقى لازم يسيب.
قلت: والله كلامك كله حكم يا عم محمد وانا بتعلم منك..
ثم سألته: كم موظفاً لديك؟ قال: يمكن يجي كده عشرين!! كلهم من ولاد حتتي، وكان سؤالي الاخير لعم محمد ايه هو سر نجاحك؟ قال: ما فيش اسرار انا بشتغل باللي يرضي ربنا واللحمة بتاعتي نظيفة وبلدي %100 وقادني سؤالي الاخير لسؤيّل (تصغير سؤال) طب ليه ما تفكرش انك تعمل مطعم مودرن على الطريقة الحديثة؟؟
فقال بعفوية: الناس بتيجي هنا تدور على البساطة والحياة ما تحتاجشي تعقيد شوفي الناس بتاكل عندي وهي مبسوطة ازاي لأنها على طبيعتها.
قلنا: كلامك صح عم محمد.. ربنا يخليك ويزيدك من نعيمه ومتشكرة قوي على طولة بالك.
طبعا هذا الحوار استغرق يمكن من ربع الى نصف ساعة سجلته بذاكرتي لأنقله اليكم كما هو بدون ملح ولا بهارات تاركة لكم حق الفائدة والاستمتاع.
المصدر : جريدة الوطن الكويتية جريدة الوطن http://www.alwatan.com.kw
تاريخ النشر: الجمعة 1-8-2008
ملاحظة قهوة نجيب محفوظ غير قهوة الفيشاوي قريبة منها جدا لكن غيرها واهداء كثير تبعد عنها يمكن 15 متر