- لأنّه يحملُ روح المكان وثقافته ..
لقد كان صباحا قطريّا مختلفا .. حين وصلتُ يومها في السابعة والنصف صباحا ( 25 يونيو 2013 ) كانت البلاد تنتظرُ خطاب الأمير الذي سيتنازل فيه عن الحكم لولي عهده .. لذلك أعتبر نفسي محظوظا لأنّي شاركتُ بهذه المناسبةِ الفريدة من نوعها ولو من بعيد من خلف البوابات وفي صالات الانتظار .!
تدورُ بنا الحافلة المكيّفة بين الطائرات .. كنتُ وغيري نختار طائرات بعينها لنتوقف عندها .. لأنها تبدو أكبر حجما .!
لكنّ الحافلة تمرّ بقربها ولا تتوقّف .. فتتوجه عيوننا لطائرة أخرى .. لا نستسلم برغم تعدّد الخيبات ..!
لكنّها توصلنا أخيرا لطائرة محايدة .. ليست كبيرة لكنّها أيضا لا تبدو لي صغيرة أو هكذا ظننتها في تلك اللحظة .!
كنتُ في طريقي إلى فينيسيا .. أو كما نسميّها البندقيّة .!
لا أدري لماذا نسميّها بذلك .. لكنّ اسمها الذي سموها بها أهلها هو الأجمل والأقرب للقلب .!
لأنّه يحملُ روح المكان وثقافته ..
كان الطيّارُ كريما معنا .. ربّما كان مزاجه رائقا ذلك الصباح فقرر ألا نحلّق بعيدا عن الأرض .. وحين عبرنا فوق سيناء خيّل إليّ أنّنا مررنا بجبل الطور .. فبين كل تلك الوديان والتلال كان هناك جبل ينتصبُ وحيدا .!
خمّنتُ أنّه جبل الطور .. أو هكذا تمنّيتُ أن يكون لأضفي على رحلتي بعدا آخر ..
يقول هيرودوت بأنّ مصر هبة النيل ..!
فلولا النيل ما كانت مصر التي نعرفها .!
لقد قرأتُ العبارة مرات كثيرة .. وأعترفُ بأنّي لم أفهمها في البداية .. لكنّي في ذلك الصباح فهمتها بعمق .!
لأنّي شاهدتُ النيل وهو يعبر الصحراء المترامية .. وينثر الحياة على جانبيه .. ما أجمل اللون الأخضر على ضفتيه .!
تلك الخضرة التي تقاوم الموت الذي يحاصرها .. وحين اقتربنا من الإسكندريّة تخيلت ثانية بأنّي شاهدتُ قلعة قايتباي أو على الأقل حددتُ مكانها .!
كان منظر المدينة المستلقيةِ على البحر مغريا .!!
لقد تحوّلت إلى حصّة في الجغرافيا .. لكنّها لم تكن حصّة نظريّة !
لم يكن كلاما ممجوجا ومعلّبا ..!!
وحين وصلنا إلى اليونان ضيّعتُ البوصلة .. وتشابهتِ الجزرُ والأودية .!
أغلقتُ نافذتي بانتظارِ الهبوط الذي تأخر كثيرا .!
وصلنا مطار ماركو بولو .. لقد ظلموا الرحالة الكبير حين سمّوا المطار باسمه .! فالمطار باهت وبلا ملامح .. يكاد لا يمت بصلة للمدينةِ التي يصفونها بأنها الأكثر رومانسيّة في العالم .. فلماذا يكونُ مطارها بكل هذا البرود .!
وقفتُ في الطابور منتظرا دوري .. حاول الشرطي أن يغتصب ابتسامة رسميّة لكنّه لم يستطع فتراجع عن المحاولة .! وخيرا فعل لأنّ تجهمه قد يكون أفضل من ابتسامة مشوّهة .!
وبدون أن ينظر لي ختم على الجواز .. وانسللتُ سريعا وكأني أخشى أن يغيّر رأيه .. وانتظرتُ مع المنتظرين حقيبتي الجديدة الذي تدخل في الخدمة للمرة الأولى .!
حزامُ الحقائب في مطار ماركو بولو مختلفا قليلا .. فهو يبدأ من الأعلى حيثُ تسقط الحقائب من مكان مرتفع لتصطدم بحاجز جانبي قبل أن يدور بشكل أفقي كما في كل مطارات الدنيا .! المسافرين وجدوا في هذه الحركة ما يسلّيهم .. فكانوا يرفعون أصواتهم مع كل حقيبة تسقط من أعلى .. هو نوع من الاحتجاج الساخر على هذه الطريقة في التعامل مع حقائب المسافرين ..!
حملتُ حقيبتي التي وصلتني بدون أيّة إصابات .. كانت في حدودِ الثانية بتوقيتِ إيطاليا .!
وكنتُ قد قرّرتُ بأن أسكن في مدينةِ " ميستري Mestre " القريبةِ من فينيسيا .. هي لا تبعد عن فينيسيا سوى عشر دقائق بالحافلة .. كثير من السيّاح الذين غلبهم عشقهم وخذلتهم جيوبهم يفعلون مثلي .!
يبيتون ليلتهم في ميستري وفي الصباح ينتقلون إلى فينيسيا بمبلغ زهيد .. ( يورو وثلاثين سنت ) .!
الآن .. أظنّ بأني لم أكن موفقا في اختياري ..
كان محزنا أن أترك المدينة في المساء .. كنتُ كمن يتركُ حبيبته ليقضي ليلته بعيدا عنها .. في مدينة هي لا تكاد تشبه فينيسيا في شيء .! وكأنك على الضفة الأخرى حيثُ لا حياة .. قد أكون غير منصف في توصيفي لها .. لأنّي لم أتجول فيها كثيرا .. لكنّي كنتُ ألتقيها في طريق الذهاب والعودةهي أشبه ما تكون بمدنِ المهاجرين .. بلا هويّة .!
كانت كلفة التاكسي إلى " ميستري " 35 يورو .. وبالحافلة يمكنني الوصول لوسطِ المدينةِ ب6 يورو .!في العادة أنا كسول وأحبّ الحلول والوصفات البسيطة .. ولا أبحثُ عن المغامرات .. لكنّي فضّلتُ وتحت ضغط الفارق الكبير في السّعر أن أقطع تذكرة بالحافلةِ إلى وسطِ المدينة .. قد تكون فرصة لأن أحتك بالإيطاليين للمرة الأولى
كنتُ قد تصوّرتُ بأنّ الأوربيين يشبهون بعضهم .. كلهم في سلّة واحدة .. قرأتُ بأنهم عنصريون ومتعجرفون .!
لذلك كنتُ متحفظا وقلقا من ذلك .. اقتربتُ من الموظفة وطلبتُ منها تذكرة للمدينة .. فرحتُ لأنّي نطقتُ اسم المدينة بشكل صحيح .! وجّهتني لمكان الحافلة .. وساعدني آخر في تحديد الحافلة بدقّة .. كانت البداية موفقة مع الإيطاليين .. يبدون متعاونين ويحاولون مساعدة الغريب ولا أخفيكم أنّي سررتُ بذلك كثيرا .. قضيتُ بقيّة النهار في ميستري .. كان الرذاذ يتساقط ناعما لكنّ شوارع المدينة لا تغري بالتجوال فيها .. أويتُ باكرا إلى الفراش بانتظار الغد الذي أتوقع له أن يكون مبهرا وجميلا .!