- يا شيخ معك لو تبي (الخرخير).
أعضاء منتديات العرب المسافرون الكرام .. اسمحوا لي أن أتنفس معكم قليلاً بإنعاش ذكرياتي .. من مواقف وصور .. أتمنى أن تحوز على رضاكم.
وهذا الموضوع إهداء على وجه الخصوص لأستاذي الرجل الطيب الخلوق المحترم الكريم/ الطائر الجريح.
وإهداء للمنتدى الذي نبع منه للوجود خبراء بل أساتذة في عالم السفر والسياحة .. وساهم في خدمة السائح العربي بشكلٍ لم يحدث من قبل .. وتقديراً له .. بعد الحب الذي دفن بالقلب له .. أقدم هذا الموضوع الذي أتمنى أن ينال إعجاب الجميع:
في ذلك المساء الحار من صيف 1998م، كنت خارجاً من المنزل بصحبة صديقي (ماهر)، قاصداً مكتب السفر والسياحة لقص تذاكر السفر لمصر التي قررنا أن تكون مشروع أول رحلةٍ خارجية لكلينا .. وما أن تجاوزت باب المنزل إلا وسيارة تتوقف، كانت سيارة صاحبي (سعد) الذي لم أره منذ زمن .. لم أشأ الاعتذار لصاحبي (سعد) بأننا خارجين لأمر خاص، ذلك أننا تعلمنا من أدبنا الإسلامي والعربي واجب إكرام الضيف، فرحبت به طالباً منه الدخول.
جلسنا سويةً داخل المنزل، والقهوة والشاي والأحاديث التي لا تنتهي كان حالنا .. وبينما نحن على هذه الحال، أخبرت صاحبي (سعد) نيتي أنا و(ماهر) السفر لمصر.
وضع فنجال القهوة على المنضدة المقابلة لجلوسه، واعتدل بجلسته، وكأن خبري قد ضايقه .. فقال بشيءٍ من الغضب:
أقول .. وش يوديك لمصر.
والله البلد حلو.
أقول بلا حلو بلا بطيخ .. خذ بكلامي .. ودك تزور بلد عمرك ما تنساه .. رح لإندونيسيا.
كانت تلك أول مرةٍ تشدني كلمة إندونيسيا، فلم يسبق أن سمعت اسمها هكذا بوضوحٍ تام، ولم أكن أعرف عنها سوى أنها بلد آسيوي، ملامح شعبهم أقرب للصينيين، وغير ذلك أن خادمتنا منها.
وأسرني صاحبي (سعد) بحديثه عن إندونيسيا، الحديث الذي أسكن الشوق داخلي لرؤية هذا البلد الذي لا أعرف عنه شيئاً .. ولم يكتفي (سعد) فحسب بالحديث عن إندونيسيا، فقد حدثنا أن معه بالسيارة شريط فيديو قام بتصويره عن البلد التي زارها قبل بضعة أشهر .. وأحضر الشريط وقمنا بمشاهدته .. وكانت المشاهد عن: شوارع جاكرتا، الجبل بنجاك، تامان سفاري، وأشياء أخرى.
سحرتني تلك المشاهد، وسكن الحب قلبي من أولِ نظرة، ووجدت نفسي ألتفت لصاحبي (ماهر) الذي سيكون رفيق رحلتي الخارجية الأولى لمصر، ضارباً بوعودي له بالسفر سويةً لمصر عرض الحائط، لأقول له كما قال (سعد):
بلا مصر بلا بطيخ .. رايح رايح لإندونيسيا.
ووجد قراري تغيير الوجهة من مصر إلى إندونيسيا ترحيبه أيضاً حين رد قائلاً:
يا شيخ معك لو تبي (الخرخير).
الموقف الصعب الذي عشته قبل الرحلة كان بكيفية إقناع الوالدة بقرار الرحلة لإندونيسيا، كانت هي موافقة على سفري لمصر، لكن إندونيسيا وبعد مشاهدات الصدامات بين الشعب والجيش فيها جعل الوالدة ترفض رفضاً قاطعاً فكرة سفري لهذا البلد، لكني كنت أقنعها بأن هذه المشاهد بعيدة عن المنطقة التي سأزورها، وأن نشرات الأخبار اعتدنا منها تضخيم الأمور .. وبعد محاولات ومحاولات .. أعطتني الضوء الأخضر بقرار السفر.
قطعنا آلاف الأميال من على متن طائرة الخطوط الجوية السعودية .. كم كانت الرحلة جميلة .. غير مملة كما أشعر بها اليوم .. ذلك أني من عشاق التأمل بالجمال الكوني في عظمة الخالق الذي أحسن صنع كل شيء .. وهذه أول مرة أشاهد بها مثل هذه المشاهد .. من السماء التي وقفت بلا عمد، والمسطح المائي الذي امتد حتى الأفق، وجزر البحار المتناثرة، وسلاسل من الجبال الشاهقة .. مشاهد أجد نفسي أتأمل بها وأردد سبحان الخالق العظيم.
الصيف الذي زرت به الأرخبيل الإندونيسي كان ساخناً للغاية بالنسبة للحكومة الإندونيسية التي لم تكن على وفاق مع الشعب بعد أن وافق البرلمان على ولايةٍ جديدة للرئيس (سوهارتو) الذي يحكم البلاد منذ خمسة وثلاثين عام، قاد البلاد بها إلى حافة الهاوية، بعد أن أسقطها في دوامة الديون الخارجية التي تسببت في انهيار الاقتصاد الإندونيسي وتدهور سعر صرف الروبية .. بالإضافة إلى سوء سياسته من خلال عدم قدرته في الحفاظ على وحدة البلاد التي راحت تطالب أقاليم منه بالانفصال والاستقلال .. وأيضاً لفساده المالي بسرقةِ أموال الشعب، واحتكاره للعقود الاستثمارية، وخضوعه الاقتصادي للسيادة الأمريكية .. والأهم حكمه الاستبدادي بحكم العسكر الذي لم يعرف سوى لغة القتل والاعتقال والتعذيب والاضطهاد.
لذا كان الشعب الإندونيسي يُريد التخلص من حكم (سوهارتو) الظالم بأي طريقة، فخرج للشوارع بمظاهرات ومصادمات مع رجال الجيش مطالباً (سوهارتو) بترك مقعد الرئاسة ومحاكمته على جرائمه طوال خمسة وثلاثون عاماً .. لذا كان الصيف أكثر سخونةً في الأرخبيل الإندونيسي، في الوقت الذي أزور به البلاد.
بلغت الأرخبيل الإندونيسي، وكما أخبرتكم، البلاد كانت في حالةِ فوضى، أو كما قال المصريون "على كف عفريت" .. في حين كان عسكر (سوهارتو) في أوج نشاطهم، بتلقي الرشاوى استغلالاً لحالةِ الفوضى السائدة في البلاد.
وما أن حملت أنا وصاحبي (ماهر) حقائبنا وهممنا بالخروج من المطار، إلا وكانت الشرطة تتربص بنا .. شابين عربيين في ربيعهما العشرون، وحكومة بلادهما لا تسأل عن راحتهما ولن تتدخل من أجل تصرف فردي من ضابطٍ ما، كان الأمر بمثابة صيد لا يعوض لأحد ضباط الشرطة الذي لم نغب عن عيونه ونحن نمضي في طريق الخروج من المطار.
اقترب ذلك الضابط منا .. وسألنا عن جوازات السفر .. أعطيناها له، وطلب منا أن نتبعه إلى غرفةٍ مجاورة .. وهناك راح يتحدث لنا بلغته الإندونيسية التي لم نفهم منها شيئاً .. كان أمراً مخيفاً .. كيف سنتصرف مع هذا الضابط القاسي الملامح، والذي لا نعلم عن ماذا يتحدث!!
وبينما الإندونيسي يتحدث لنا بحالةٍ من العبوس، زارني في ذاكرتي صاحبي (سعد) حين كان في منزلي بالرياض يحدثني عن إندونيسيا، وكيف نواجه تعنت العسكر .. حين قال لي:
شرطة المطار بتحاول تتبلاك علشان تدفع لهم فلوس يسمونها "الهدية" .. إذا حاب تريح راسك ادفع، وإذا عندك استعداد لطولة البال لا تدفع، لكن ترى بيعطلونك شوي، وبعدين يخلونك تروح ما دام ما عليك شيء.
لكنني اخترت الأول، أن أدفع وارتاح من ملامح وجه الضابط المخيفة، من نعيق لغته الغريبة، وتجنباً لشرٍ لا أعلم حدوده .. ففتحت محفظتي وأخرجت مبلغ 50 ألف روبيه وأعطيته له، فتوقف فجأةً عن النعيق وتبسم كالحمل الوديع، وحملت حقائبي وغادرت دون أن أنبس بكلمة، وصاحبي (ماهر) خلفي وقد فعل الأمر نفسه.
كعادة زوار إندونيسيا من العرب في عقد التسعينات، احتضن فندق السنترل إقامتنا الأولى .. كان الفندق ذلك الوقت رائعاً من حيث الأثاث والخدمة، وكان 99% من نزلائه ذلك الوقت عرباً .. وكان سعر غرفة "سوبر ديلوكس" ب 60 ريالاً سعودياً.
زرنا خلال إقامتنا في العاصمة جاكرتا أماكن مختلفة من التي زودنا بمعلوماتٍ عنها صاحبي (سعد)، أذكر منها: بلازا أتريوم بلانت هوليوود أنشول الترفيهية.
أكثر ما أقلقنا في العاصمة جاكرتا نقاط التفتيش التي كان يقيمها الجيش الإندونيسي بالطرقات .. خاصة ساعات الليل .. لكن ولله الحمد كان هناك وضعٌ خاص للسياح، فلم نجد منهم مضايقة، لكن كان وضع جنود الجيش مخيفاً وهم مدججين بالسلاح والسيارات المصفحة، ومتواجدين بكثرة، وقد علمنا أنه قد جرى إطلاق نار ذات مرة على إحدى المظاهرات، وسقط عددٌ من القتلى، وخشينا من وقوعنا في مأزقٍ لا دخل لنا به، بتواجدنا في زمانٍ ومكانٍ غير مناسبان.
الأمر المضحك الذي واجهناه في إندونيسيا في هذه الرحلة، طريقة حساب العملة الروبية وما يقابلها بالريال، فقد خشينا من عمليات نصب واحتيال، لذا وجدت أن الطريقة المناسبة هي شراء آلة حاسبة صغيرة ووضعها في الجيب، وحساب كل ما نود شراءه .. فكان الأمر مضحكاً للغاية، يصلح حلقة من حلقات طاش ما طاش، حين كنا نخرج الآلة الحاسبة من أجل حساب أي شيء.
وبعد أسبوع قضيناه في العاصمة جاكرتا، شددنا الرحال للجبل بنجاك .. كان الطريق جميلاً للغاية، لأول مرةٍ أشهد مثله .. كانت الأراضي الخضراء تغطي جانبي الطريق الجميل الذي سلكناه مبكراً حتى نتجنب الزحام كما حدثنا السائق الذي اتفقنا معه من أمام بوابة فندق السنترل.
بعد 45 دقيقة بلغنا الجبل بنجاك، الذي كان واقفاً بكلٍ شموخ، متباهياً برداءه الأخضر، بينما أكليل السحب البيضاء على قمته .. لم أصدق يوماً من الأيام أن أشهد مثل هذا المشهد .. فأنا ابن الرياض، ذات البيئة الصحراوية، ومشاهد كهذه كانت كفيلة بجعلي في حالةٍ من الذهول التام من جمالها الطبيعي الخلاب الذي لم أرى مثيلاً له إلا عبر شاشات التلفاز.
حدثنا سائقنا عن فيلا جميلة وبسعرٍ مخفض، بإمكانهِ إيصالنا لها، وقبلنا الأمر .. وقصدنا تلك الفيلا التي لو طلبت منا ما طلبت خادمة الفيلا لدفعت مقابل الإقامة بها ولو لليلةٍ واحدة .. كانت فيلا أشبه بالخيال، واقعةٌ على تلةٍ خضراء، الجبل من وراء ظهرها، والأفق على مد بصرها، والهدوء يخيم عليها، إلا من صوتٍ عذب لانصباب ماء جدول منحدرٌ من الجبل ويصب في بركةٍ بجانبِ الفيلا، ما زالت نغمات ذلك الانصباب عالقةٌ في ذاكرتي .. والمحزن بالأمر أنني لم آخذ عنوان الفيلا لأعود للسكن بها فيما بعد، وعندما عدت لزيارة الجبل بنجاك لم يفلح البحث عنها بالعثور عليها.
وأمضينا بالجبل بنجاك ثلاثة أيام من أجمل الأيام في خيرٍ وأمانٍ وسلام .. عدنا بعدها للعاصمة جاكرتا، وبعد يومٍ واحد قضيناه بالتسوق، عدنا أدراجنا للرياض .. وقبل رحيلي عن إندونيسيا بليلةٍ واحدة .. كانت هذه القصيدة البسيطة التي كتبتها عن إندونيسيا الحبيبة:
سأرحل عنكِ يا درة الديار ................. سأرحل عنكِ والشوق نار
لرؤياكِ مرةً أخرى ..................... لرؤياكِ متى حلّت الذكرى
القلب على فراقكِ حزين ................. والدمع قد أغرق لي العين
سيقتلني الهمّ لا محال ................. وبذكراكِ سأسهر الليال
بأرضكِ حلَّ عليّ الفرح ................. ونسيتُ كل أمرٍ جرح
بطيبة شعبكِ النبيل ................. وروعة هواءك العليل
لن يطول بيننا الفراق ................. فقريباً سيكون الوفاق
لا بد للزمان أن يجمعنا ................. مثلما في يومٍ قد فارقنا
وأترككم مع بعض صور الرحلة التي أرجو أن تعذروني لأنها من كاميرا فوتوغرافية (تحميض) وتم إنزالها بجهاز سكنر وتقديمها لكم.
صورة للعاصمة جاكرتا من نافذة غرفة فندق السنترل:صور لمنطقة برك السباحة في انشول الترفيهية:صورة للفيلا الجميلة التي سكناها بالجبل بنجاك:حديقة الفيلا وسور من الأشجار الكثيفة يلف الحديقة:تحت مظلة الفيلا .. جلسة هادئة .. ننعم بزخات المطر، وامتداد الأفق، وألحان الطيور:
صور عامة للجبل بنجاك:ترقبوا .. كارثة كادت أن تكون.
وتقبلوا خالص احترامي وتقديري.
ذكرتني بايام قد خلت يصعب رجوعها ولكن ذكراها باقية للأبد