:smile002: على مساحة خمسين ألف هكتارٍ افترشت أكثر من ثلاثة ملايين أرزة لبنانيّة الأرض، حيث حطّت رحال جذورها ووطّدتها عميقًا وصولاً إلى الأرض السّابعة، فأضحت منها ولها، منصهرة في ترابها، متجذّرة في تربتها...
ومنذ ذلك الحين السّحيق الّذي يعود بزمنه إلى الألفي عام تقريبًا، وعلى ارتفاع يقارب الألف والسّبعمائة متر عن سطح البحر، نصّبت تلك الشّجرات الوفيّة عظمتها حارسًا لسفوح جبال لبنان وتحديدًا الشّوف مقصدنا في رحلتنا...
انطلقنا نحن الثّلاثة عشر شخصًا قاصدين محميّة أرز الباروك لنموّه عن أنفسنا بعد ضغط العمل وزحمته، ولنهرب من التفاف الجدران الصّمّاء الصّامتة حول أعناقنا في مكاتب عملنا، ولنطلق عنان أحداقنا فتحلّق في الطّبيعة الغنّاء ولا يحدّها حدّ ولا يسدّها سدّ...
وهكذا كان... صحبنا دليل من المحميّة ورحنا نجول فوق تراب أرضنا الطّيّبة، وبين جنبات محميّة أنشئت بموجب القانون 532 الّذي يعود إلى سنة 1996 فكانت أكبر محميّات لبنان الطّبيعيّة...
ما إن ولجنا الغابة حتّى تهيّبنا المشهد المدهش! فالأخضر يحوطنا كيفما نظرنا، تحمله على كفوف جذوعها شجرات الأرز والسّنديان والبلّوط وغيرها...
لكم أكبرت تواضع الأرز؛ فمنه من انحنى أمامنا يستقبلنا مرحبًا بزيارتنا مسهلاً دخولنا صومعته المفتوحة، ومنه من سما وشمخ وما اهتزّ له غصن ولا رفّت له ورقة... وماذا تقول عن الغرور إذا ما تملّك وسيطر!
ومنه من اعترضنا يأبى علينا نحن بني البشر دخول مجالاته البريئة النّقيّة، فأرسل شجراته الشّرسة المشوّهة المعوّقة المتخفّية بأقنعة حيوانات مخيفة، ترعبنا وترجعنا من حيث أتينا، وذلك لميزتنا الإجراميّة وتعدّياتنا على الطّبيعة المعطاء دونما حساب لمشاعرها وجمالها وأنوثتها... فما أثنتنا عن المضي قدمًا لننطلق أحرارًا في مساحات حرّة من قيود المدنيّة الّتي تكبّل لحظاتنا مذ ولادتنا إلى مماتنا...
كنت أسير الهوينى وأنا أرندح أغنية المطرب وديع الصّافي: "جنّات عا مدّ النّظر ما بينشبع منها نظر..." وأملأ رئتيّ بطيب الهواء العليل المخضّب بعطور خشب الشّجر الفوّاح...
وصلت إلى مكان حيث بسطت السّكينة رهبتها، وخفّفت الشّمس أشعّتها، وشلّت الأغصان حركتها، فما كان حياة ولا أنفاس!!! تابعت تقدّمي مدفوعة من فضولي لسبك أغوار تلك الغرابة، فإذ بي أقطع خلوة عاشقيْن متعانقيْن متحابّيْن ينشدان معًا الهيام، يحجب تآلفهما نور الشّمس على قوّته!!!
بينما كنت أصول وأجول والفخر يرشح من جبيني كوني حللت ضيفةً على أرز بلدي الغالي، ووطئت تربته البنّية الخيّرة، استوقفتني صرخة مبحوحة ضعيفة تصدر من جنب أقدامي، فنظرت وإذ بي ألمح شجيرات ونباتات صغيرة تطالبني بتحويل عدسة كاميرتي من علٍّ إلى أسفل!!!
- نحن هنا يا أنتِ...
- وأنّى لكم العيش بين شامخات رؤوسهنّ متطاولات؟!
- نحن نعيش معًا كبيرنا مع صغيرنا، ضعيفنا مع قويّنا، أقزامًا جنبًا إلى جنب جبابرة، وما مرّة تعاركنا أو تخاصمنا، تقاتلنا أو تنابذنا،،،، نحن شجر يا بشر!!!
استحال وجهي أحمر اللّون خجلاً من تلك الضّعيفة الصّغيرة وفهمت ما رمت إليه، ووعيت مقاصد كلامها فجررت أذيال عار بني أمّي وطفقت على وجهي أركض بين السّهول وأتخبّط على الحشائش حتّى تلقفتني أحضان غطيطة غرّاء فذبت بين ضبابها...
تناهى إلى مسامعي هرج ومرج، فلحقت بالصّوت حتّى وصلت مساحة حيث كانت شجرة تقوم بعرض حركاتها البهلوانيّة والجمهور من الشّجر يلتفّ حولها يهتف باسمها وتصفيق أغصانه يدوّي كالقنابل... حقًا إنّه لعالم قائم بذاته!
استوقفتني شقائق النّعمان وورود الوزّال والدّهشة تعلو حمرتها وبياضها لرؤيتي في المحميّة من دون الأسمر الّذي عرفته واستضافته لساعات... فهي ما زالت تسمع صدى ضحكاتنا يتردّد في أرجاء المحميّة يوم كنا نلهو لهو طفليْن معًا...
- لا مكان له اليوم بيننا، وأكملت مسيري!..
ما إن قرصنا الجوع حتّى دلفنا نحو بعقلين بحثًا عن مطعم يقع في كعب واديها اسمه "منتزه شلاّلات الزّرقاء"، وفعلاً كان نِعْمَ الاختيار... فإلى اللّقاء غدًا مع أطباقه الشّهيّة.
مساء الخير
ولكن ننتظر المطعم
ربي يسعدك