- أذكر كنت اسمع خالة امي أم جعفر تقول لأمي:
- "يا بنت اختي .. خاطرك .. نازلين عالمدينة".
- للسيدة سهام ترجمان
- سهام الترجمان:
في سوق الحميدية
مذ كنت طفلة صغيرة جداً.. و انا اسمع جدتي وأمي و عماتي و بنات عماتي،وكل نساء العائلة الكبيرة،و كل الجارات و الصديقات و بنات الأعمام،يرددن الكلمة نفسها.
أذكر كنت اسمع خالة امي أم جعفر تقول لأمي:
"يا بنت اختي .. خاطرك .. نازلين عالمدينة".
و المدينة.. كلمة تعين مع طول الإستعمال سوق الحميدية .. وسوق الحميدية هوة صورة التمدن و الحضارة في بلاد الشام، تأتيه البيوت الكبرى والعائلات الغنية والمتوسطة والفقيرة من مدن بلاد الشام الكبرى.. من حلب من استنبول، من بيروت من عمان من حيفا والقدس من بغداد كي تجهز العرائس من محلات أعظم سوق في الشرق نشأ في العصر العثماني وفي عهد السلطان عبد الحميد المتربع على عرش السلطنة العثمانية في قصر يلدز في اسطنبول، وهو قصر ألف ليلة وليلة تتمايل فيه حريم السلطان، وتتمايل الجواري مثل حوريات الجنة بالحرير الصيني والبروكار الشامي ويتبختر في أبهائه الرجال بالصايات الشامية والطرابيش . سوق الحميدية .. حالة فريدة بين أسواق الدنيا . تغل فيه النساء ساعات وساعات دون أن تشبع احداهن أو تنتهي من البحث والفصيلة والشراء الذي تسبقه دورات ودورات لإستعراض آخر الموضات والأقمشة والملابس الداخلية الحريرية والقطنية والشفافة، إضافة إلى البحث عن القباقيب من سوق القباقبية والكلف والقصب من سوق العقادين، والحرير والورود والأزرار وألوان البرق وحبات الماس واللولو الصناعي والريش الملون للعرايس، إلى المرور على سوق الشراشف، إلى سوق الكنادر والشحاطات في القوافين، إلى العبايات في سوق مدحت باشا، إلى الأقمشة المتنوعة الممتازة في سوق تفضلي ياست قرب " زقاق البورص" . ولا أنسى ما يتفرع من سوق الحميدية الكبير من أسواق اختصاصية مثل سوق الأروام سوق المفروشات، وسوق السلاح، وسوق الصوف، وسوق الخجا، وسوق الصاغة قرب الجامع الأموي، والمؤونة من سوق البزورية ليس بعيداً عن قصر العظم وعن زقاق مكتب عنبر وأسواق حي الأمين ومادنة الشحم وباب الجابية.
في كل سوق صغير تتفرع عن سوق الحميدية الكبير العظيم التاريخي، تجد المرأة طلبها . وما إن تخطو خطوتها الأولى في السوق .. حتى تتردد الدعوات والإغراءات بألطف الكلمات من كل صاحب محل .. تعد بالجودة في البضاعة والأسعار المخفضة، وتبرز الظاهرة في سقو " اتفضلي يا ست" .. تفضلي خانم .. تفضلي يا ست شو عاوزة نحنا بخدمتك !! أمري خانم عنا طلبك .. !! شو طلبك إختي ..؟؟
وتتعربش نظرات المرأة على الرفوف المكدسة بأحلى وأجود " الأثواب " على شكل أسطواني، رول كبير، يفرد أمامها على الطاولة بثواني .. حراير منوعة صينية هندية سويسرية إيطالية .. فرنسية .. سورية من كل صنف ولون، كتانية قطنية حريرية وشفافة مرسومة بأشكال ورسوم عديدة بالزهور والورود والرسوم مقلمة أو سادة مثل أقمشة الجوخ الإنكليزي الشتوية .
وتسأل الزبونة عن الأسعار .. والأنواع وقد يعجبها القماش والسعر فتشتري وهي مطمئنة للتاجر الكبير المحترم، وقد تشك بالاسعار .. وقد لا يعجبها صنف القماش بعد أن تكون قلبت كل ما على الرفوف، فتدير ظهرها .. وتقول للبائع :
- " برجع .. !!"
- خانم .. شو أمرتي ..؟
- راجعة راجعة ..
- خانم .. دقيقة .. شو عجبك براعيكي .. قديش بتريدي الضراع !! ( أي الذراع، مقياس سوق الحميدية في قص القماش، ولم يدخل قياس المتر إلا في الخمسينات كما أظن وأتذكر).
كان الذراع هو الوحدة القياسية للبيع، والمتعارف عليها في سوق الحميدية بين تجار الأقمشة، ونادراً ما يقيسون بالمتر، بغض النظر عن طول ذراع التاجر، أو الموظف عنده، فقد يكون طويلاً ذو ذراع طويلة، وقد يكون قصيراً بين الرجال، وهنا يكمن الغش عندما تحسب ذراعه القصيرة ذراعاً ومقياساً نموذجياً.
بغض النظر عن طول ذراع التاجر، فقد تكون ذراعه طويلة أو قصيرة .. لا يهم .. هنا لن تنتبه المرأة .. كما كنت أنتبه وأنا طفلة المدرسة تلميذة الابتدائي الشاطرة بالحساب، وسوف يقيس لها بسرعة " أربع أو خمس تضرع"، ويقص لها مع بحبوحة من القماش مع كلمة مباركة إنشا الله خانم بتلبسيها بالهنا .. وينادي الأجير : لفها يا ولد قوام .. ويعود للزبونية :
- غيرو خانم شو لازمك .. أمريني ..!!
- سلامتك .
- الله يسلمك .. شو اعتمدنا عالضراع متل ماقلتلك .، أكتر ماراح أدفع ..!!
- قد ما بتؤمري .. ما منختلف ..
- بسبعة ..
- الله وكيلك .. راسمالها بتمانة .. والله لو بتدوري السوق كلو ما بتشوفي متلها ..!!
- بسبعة .. يالله .. خليك مساير ..!
- أبداً والله مابتوفي .. عندي بسبعة غير بضاعة .. تفضلي شوفيلي هالتوب ..!
- أنا اعتمدت على هالشقفة ..!!
- بذمتي هادا سعرها .. إنتي ما بتريدينا نخسر..
- أعوذ بالله .. الله ما يجيب خسارة .
- خديها بلا حقها .. !! هدية ..!!
- أعوذ بالله ما بريد إلا سلامتك ..
- والله مقدمة .. !! بس ما بغدر بسبعة!
- يالله خلصني .. ليش عم تمسك وش علينا مالك بالعادة .. إنت بيعك ظريف .. ونحنا طول عمرنا زبوناتك !!
- على عيني وراسي خانم .. لو بتوفي كنت نزلت السعر .. متل ما قلتلك خديها بلاح حقها ..
- تسلم .. شو قلت؟..
- ما " بغضر" أنزل أكتر من هيك ..!!
- يوه .. إنت بتريدني اتركها وإمشي وروح آخذ من عند غيرك ..؟ يالله بقى لفها وخلصني .. !
- مشان خاطرك خانم .. منقسم البيدر بالنص .. بسبعة ونص إلا قرش .. ما عدت انزل .. إذا بتحبي .. لقص .. ؟ ما بتريدي روحي شوفي عند غيري .. روحي دوري .. دوري .. وبدك ترجعي لعندي أحسن من بضاعتي بكل السوق ما بتلاقي .
- طيب أمري لألله ..
- يا ولد لفيت شقفة الخانم ..؟
- جاهزة معلمي .. مبروكة خانم ..
- بدي اسألك .. بس إنشالله ما تحل وتكش عالغسيل .. متل قماشات هالأيام..؟
- لاسمح الله خانم .. ولو .. عما نبيعك قطعة لوكس أوروبية، غسل ولبس وإن حلت واللا كشت رجعيها لعندي .. أنا كفيل حطاط .. بضاعتنا مكفولة خانم معروفين بالسوق كلو .. هات ياولد هالتوب .. شوفي خانم الدمغة على طرفها .. أنا بيعي ما في غش منوب منوب .. بدك تلبيسها وتكوني مسرورة بإذن الله.
لازمك شي تاني خانم .. بطانة !! قماش ملاحف .. !! حراير ..!! ؟
- لا .. شكراً ..
- أهلاً وسهلاً .. شرفتي ..!!
سقا الله أيام زمان .. وأيام كنت فيها أسعد أطفال الشام، أمي تمسك بيدي وتأخذني معها إلى "المدينة " لتتسوق من أهم تجار سوق الحميدية المحفورة أسماؤهم في ذاكرتي :
القوادري، القطب، الذهبي، الغراوي، كزما، الزين، الحفار، والصيداوي، سليما بكورة، ودياب، وفؤاد البصراوي، وحسن البعلبكي، ومحمد المنجد، وتوفيق المنجد، وخليل وردة، الأكتع، سكر، و الحبال.
مقطع من كتاب يا مال الشام
للسيدة سهام ترجمان
سهام الترجمان:
ولدت الكاتبة سهام ترجمان في حي العمارة في دمشق عام 1932، وتلقت تعليمها في دمشق حتى المرحلة الثانوية ثم أتمت دراستها الجامعية في كلية الآداب قسم الفلسفة جامعة دمشق حيث نالت الإجازة في الفلسفة (1954 1955) وعملت في الصحافة.
قدمت برنامجاً ثقافياً من إذاعة دمشق لفترة طويلة كان سبب شهرتها في الأوساط الأدبية في سورية وخارجها. عضو جمعية النقد الأدبي.
مؤلفاتها :«يامال الشام» 1969، و«آه يا أنا» 1985 «وجبل الشيخ في بيتي» 1986 و«فرقة المعتزلة» 2005 و«رسائل الأميرة زينب الحسنية» 2005.
......تحياتي
موضوع جميل واحلى مافي الشام هي الشام القديمة تحديدا الحميدية
اعشق هذا السوق ومستحيل ماازوره بشكل شبه يومي لما انزل الشام
اكرر شكري لشخصك الكريم وفي انتظار جديدك