- في مرج غرناطة مع يوثه بينيفاس!
- جهاد فاضل كاتب لبناني
- ويتابع هذا الزائر ليوثه بينيغاس روايته لهذه الزيارة فيقول:
في مرج غرناطة مع يوثه بينيفاس!
جهاد فاضل كاتب لبناني
منذ أكثر من سنة والأضواء في أسبانيا، كما في أوروبا مسلّطة علي سرفانتس و دون كيشوت ، علي اعتبار ان هذه الأخيرة هي بداية الرواية المعاصرة، بل وأعظم رواية في التاريخ. فمن لم يقرأها بعد فقد فاته الاطلاع علي أهم ابداع روائي عالمي. ولكن الأضواء لم تُسلط لا في أسبانيا ولا في أوروبا، علي أدب آخر، توسل اللغة الاسبانية، وكُتب في العصر نفسه الذي كتب فيه سرفانتس رائعته الخالدة دون كيشوت. هذا الأدب هو أدب الموريسكيين المسلمين الذين اضطروا بعد سقوط غرناطة إما لاعتناق النصرانية علناً، مخافة الطرد من البلاد، وإما لممارسة إسلامهم في السر.
مؤخراً ازاح باحثون أسبان الستار عن جوانب من هذا الأدب الموريسكي ذي الروح العربية الذي كان يصارع اللغة الإسبانية ليجعل منها وسيلة لنقل الثقافة الإسلامية. أكثر النصوص التي كُشفت، وكُتبت بالألخمية، لا تحمل صفة شخصية. فنحن لا نعرف كتابها، اختفت الأسماء العربية لتحل محلها أسماء إسبانية أو نصرانية. ولكن الولاء ظل لمحمد صلي الله عليه وسلم، ولدينه، علي ان واحداً من هؤلاء الكتاب الأندلسيين المسلمين دلّت كتاباته عليه علي الرغم من عدم بوحه باسمه العربي، لأن كتاباته ملأي بالذكريات الشخصية. وفيما يلي يحدثنا هذا الكاتب عن زيارة قام بها لمسلمة ورعة مشهورة باتت تُدعي مورا دي أوبيدا (ناسكة عبيدة) من أهل غرناطة. وهذه الوثيقة التي تُدمع القلوب قبل العيون قمة في الأدب الإنساني، ونصها هو التالي:
عندما كنتُ في غرناطة، وقد قصدتها لقضاء موسم الأعياد، توجهت في أوائل شهر ذي الحجة لتوديع الناسكة مورا دي أوبيدا. فقالت لي: بما انك جئت للوداع، وقد لا نري بعضنا ثانية حتي يوم القيامة، فإني أعطيك هذا اللوح المكتوب لتحفظه آمنا في قلبك، لأنه مبارك جداً. فقد أهداه جبريل الي الرسول صلي الله عليه وسلم. فلو قُسم لك ان تبلغ الأراضي المقدسة، فعليك ان تصلي عني عند قبر الرسول. والذي أرجوه كذلك. ولو أنك قد بدأت أيام الإحرام، أن تذهب لزيارة يوثه بينيفاس (وهو رجل عربي بات عليه ان يحمل هذا الاسم) لأنه رجل بالغ الشهرة. انه ليس بالنحوي الكبير مثل علي سارمينتو، لكنه عالم كبير بالعربية، ويذهب لزيارته خلق كثير. ولن يخيب أملك في ما تري، بل ستجد الأمر فوق ما أرويه. وهو يقيم عند تلة التين علي مبعدة فرسخ من غرناطة، حيث يمتلك أبهي مزرعة في جميع انحاء المرج. وعليك ان تبلغه تحياتي، فهو صديق وقريب.
وفعلت ما طلبته الناسكة، ولو أني لم أقصد المكوث طويلاً هناك. وقد وصلت الي داره في آخر أيام ذلك الشهر، ورحب بي كما يتوقع المرء من رجل في مثل منزلته. وبعد تبادل التحيات - وكان ذلك في اليوم الثالث - جاءني بمصحف مذهب وطلب مني ان أتلو منه جزءين. وإذ فرغت من التلاوة، أخذ المصحف من يدي قائلا: بارك الله فيك ووهبك من الخير ما ترضاه . لكنه لم يتورع عن تصويب أخطائي لأنه كان صارما جداً. وأنا بدوري تقبلت تصويباته. وبعد حين، اذ توطدت معرفتنا ببعضنا، اخذني ذات جمعة لأري مزرعته وقد كان يرعي شؤونها مئة من الناس. فجلسنا عند جدول وقال لي: يا بني! أنا أدرك أنك لا تعلم شيئاً عن أمور غرناطة، اذا تذكرتها فلا تبتئس بما أرويه لك، إذ ليس من لحظة تمرّ بي إلا عاودتني ذكراها في الفؤاد. فليس من وقت ولا ساعة إلا ويعتصرني من ذكرها ألم. لقد قرأت التلمود كتاب اليهود، وقرأت الفرابدا كتاب الوثنيين وغير ذلك من أوصاف أعظم الخسائر والمعاناة. وقد كانت جميعها محزنة حقاً. وجميعهم بكوا لما خسروا. ولكني أقول أن ليس من أحد بكي علي مثل هذه المصائب كما فعل أبناء غرناطة. ولا يخامرنك شك في ما أقول، لأني واحد منهم، وقد كنت شاهد عيان. لقد رأيت بأمّ عيني نبيلات يُسخر منهن، أرامل ومتزوجات سيّان، ورأيت أكثر من ثلاثمائة صبية يُعرضن في المزاد. ولا أريد أن أطيل الحديث، فإن ذلك فوق ما احتمل. لقد فقدتُ ثلاثة أبناء سقطوا دفاعا عن الدين، واثنتين من بناتي وزوجتي. ولم يبق لي سوي ابنتي هذه تواسيني. وقد كان عمرها أربعة أشهر في ذلك الحين. وهكذا خسرت أسرتي، كما قدّر الله، فليغفر لي جلّ غفرانه . ثم عاد يقول:
يا بُني أنا لا أبكي علي ما مضي لأنه لن يعود، ولكني أبكي علي ما سوف تراه اذا سلمتَ وقُدّر لك العيش في هذه الأرض، في شبه الجزيرة الاسبانية هذه. واني لآمل من الله، إكراما لفضل قرآننا، ان يكون ما سأرويه لك محض كلمات جوفاء. وأدعو ألا تصير الأمور كما أتخيل. وحتي في هذه الحال، سوف يضعف ديننا ويتساءل الناس: ماذا جري لصوت المؤذن؟ وماذا حلّ بدين آبائنا؟ وسيبدو الأمر بالغ المرارة والقسوة لكل ذي إحساس. واشد ما يقلقني ان المسلمين لن يمكن تمييزهم عن المسيحيين، اذ يلبسون لباسهم ولا يتجنبون طعامهم. وندعو الي الله ان يتجنبوا أفعالهم ولا يدعوا دينهم يدخل في قلوبهم.
ولا بد ان يبدو لك ان ما سأقوله سببه ما نالني من تعب. فأنا أدعو الله بواسع رحمته ان يجعل كل ما أقوله شديد البعد قدر ما أريد. فأنا لا أرغب في سماع شيء عن ذلك البكاء. فإن قلنا ان بني اسرائيل قد بكوا، أيكون من المستغرب ان نبكي نحن كذلك؟ فإذا كنا نحن بعد هذه الفترة القصيرة من الزمان، يصعب علينا أن نبقي حيث كنا، فما الذي سيحصل لمن سيأتي بعدنا؟ وإذا كان الآباء يستخفون بالدين، فكيف سيُعلي الأحفاد من كلمة الدين من جديد؟ وإذا كان مليك القهر قد أخفق في حفظ العهد، فما الذي ننتظره من خلفائه؟
ويتابع هذا الزائر ليوثه بينيغاس روايته لهذه الزيارة فيقول:
وما كان ليتوقف لولا ان أزفت ساعة صلاة المغرب. ومكثت عنده شهرين، ولا غفر الله لي ان لم أحسبهما ساعتين، إذ انني ما عرفتُ رجلاً يفوقه فهماً. ولم يكن لي ان اعترض به علي أي شيء قاله أو فعله، إلا ما كان من صراحته في طريقة لوم امريء أو إصدار أمر. وما عرفت امرءاً قط له براعته في تلاوة القرآن وتفسيره، ولا في قراءة وتفسير أي كتاب في العربية. كان صوته جهوريا، ولم تكن ابنته كذلك. فقد كانت واسعة المعرفة، تحفظ القرآن وتعيش حياة طاهرة. وقد كان مما يبعث علي الارتياح ان يجد المرء مثل تلك الزهرة النقية. وعندما استأذنت الوالد وابنته بالانصراف، كانت الدموع تنهمر من الجانبين. وقد اهدتني الابنة خاتماً وأعطاني الوالد جوهرة صغيرة وهو يقول: يا بني! ودتُ لو استطعت أن أعطيك هدية أخري، ولكن خزائني قد نضبت. خذ هذه الجوهرة. فهي تزن عشرة آلاف (مارفيدي)، ولو كانت تزن مئة ألف ما منعتها عنك . ويوم رحيلي تلا علي مسمعي موعظة عن بعثة النبي..
الي هنا ينتهي هذا النص الحزين. من الصعب ان نتخيل حديثاً أكثر إيلاماً وفجيعة من حديث هذا الرجل. كان صاحب المزرعة كما يبدو، واحداً من أفراد الارستقراطية العربية الغرناطية التي رغبت في عام 1492 ميلادية ان تصل الي نوع من التسوية مع الملكين الكاثوليكيين فرديناند وايزابيلا، بعد ان وجدت ان لا سبيل للوثوق بمليك القهر وأن ميزان القوي يميل لغير صالح مسلمي غرناطة. ولكن كل ذلك لم ينفع، اذ ظل الأسبان يمارسون سياسة القهر والإذلال علي من تبقي من المسلمين الي ان دفعوهم لأحد خيارين لا ثالث لهما هما التنصر أو الطرد ومن بقي علي إسلامه سرّا، واكتشف امره لاحقاً، قُتل أو طرد. وفي مثل هذه الأجواء كتب الأندلسيون الذين باتوا يُسمّون في مرحلة ما بعد سقوط غرناطة بالموريسكيين، هذا النمط من الأدب الإنساني البالغ الروعة الذي نشرنا منه نصاً في ما سبق، الذي أين منه سرفانتش ودون كيشوته؟.
وشكرا على هذا النقل الجميل وعلى هذا الموضوع الذي يعتبر كنز تاريخي مدجفون يبين لنا احوال اهلنا في تلك الحقبه
وانا بدوري اقول ايها الاخوه نريد تفاعلكم واثرائكم لهذا الموضوع
فهو جدا مهم وكبير وشكرا ياندلسيه فعلا بدايه قويه
مع السلامه