- سمات مشتركة
رحم الله الفيلسوف الإيطالى «فالفييروا» القائل : (إن الغابة تحكمها الأسود بالقوة المادية، وتحكمها الثعالب بقوة الدهاء) ورمز الكاتب الإيطالى للسلطة بالأسود، وللمثقفين بالثعالب.
.. وغفر الله للمبدع المتمرد «نجيب سرور» القائل : (إن المثقف التقدمى يعمل نهاراً فى مؤسسات البرجوازية، ويسبها ليلاً - فى المقاهى والبارات) .
.. وأطال الله بقاء كاتبنا الكبير «كامل زهيرى» صاحب المنحوتات اللغوية التى تجرى مجرى الحكم والأمثال، خاصة فى اختراعه تعبير (ثقافة وسط البلد، وأحزاب وسط البلد).
.. والمقهى (الوسط بلدى) حمال أوجه بعكس مقاهى عباد الله من السابلة والعابرين فى كلام عابر.
فالمقاهى العادية تلعب فى حيوات الناس أدواراً محددة، أو بمعنى أدق فهى مجرد وسيلة - تكتيكية - لغايات مفهومة، استقرت عليها ثقافة المدينة منذ أكثر من قرن مضى، والتى تمحورت فى اتجاهات ثلاثة، أولها مقاهى الحرفيين والعمال من أهل الكار الواحد، وهذا النوع يشهد - غالباً - كثافة عالية فى فترتين : صباحية مبكرة، ومسائية فى نهاية يوم العمل، أما النوع الثانى (مقاهى الموظفين وأرباب المعاشات) فيزداد كثافة فى فترتى العصر وبعد العشاء، والنوع الثالث (مقاهى المسافرين) فتتغير كثافته مع اقتراب وصول أو اقتراب قيام مركبات السفر إلى أقاليم مصر، وينتشر هذا النوع حول محطتى رمسيس والجيزة، وثمة نوع آخر استثنائى يخرج عن دائرة هذا التقسيم لأنه لا يلعب وظيفة محددة خارج معنى المتعة بطابعها الرفاهى والسياحى، وعلى رأس هذه النوعية تأتى مقاهى «الحسين» فى المقدمة، وبعدها مقاهى شارع جامعة الدول العربية وبعض مقاهى مصر الجديدة.
.. وتظل مقاهى وسط البلد - بطابعها الفريد - نمطاً مختلفاً على مر العصور والعقود.
وأعتقد أن تعبير (وسط البلد) يحتوى فى قلبه دلالات چيوبولوتيكية وسيسولوجية وثقافية، ارتبطت بحركة الجغرافيا السكانية والسياسية والإعلامية فى المنطقة التى تمتد من ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) حتى حدود (لاظوغلى) إلى شارع عماد الدين وميدان الأوبرا حتى حدود محطة مصر (باب الحديد)
وهى المنطقة التى أطلق عليها المعماريون تسمية (قاهرة الخديو إسماعيل). وبالرغم من الطابع الأرستقراطى الذى حكم هذه المنطقة منذ بنائها وتخطيطها فى القرن التاسع عشر، فإن زحف الطبقة الوسطى مقروناً بمؤسسات ثقافية وإعلامية وكذلك وزارات ومصالح حكومية وشركات أهلية وسياحية ومكاتب سفر وطيران، كل ذلك النشاط استتبع حركة موازية عبرت عنها شبكة متكاملة من المقاهى استوعبت - طوال القرن العشرين - تجليات الحراك الاجتماعى والطموح السياسى، وعبرت عن قناعات ومشاريع ثقافية وأيديولوچية متباينة، وشكلت المقاهى - أحياناً - البديل للمؤسسة الثقافية والمؤسسة الإعلامية وفى بعض الحالات البديل للتنظيم السرى.
ومنذ مطلع القرن العشرين بدأ زحف مقاهى النخبة يتحرك من أطراف القاهرة إلى قلبها أو وسطها أو إلى القاهرة الإسماعيلية، وكانت المقاهى تمثل - قبل انتشار المسرح والسينما والراديو - أندية فنية وثقافية تلعب دوراً حيوياً فى تقديم رسالة ترفيهية كاملة لروادها، فقد كانت تعج بالرواة الشعبيين من رواة السيرة وكذلك الأدباتية والصهبجية، وأيضاً الغوازى وأصحاب الشعر الحلمنتيشى ومناظرات أصحاب القافية، وألعاب خيال الظل.
وتركز انتشار هذا النوع من المقاهى أو الأندية فى شوارع روض الفرج، وعماد الدين، ومحمد على .
وربما اعتبرت هذه المقاهى - فى فترة الاحتلال الإنجليزى - البديل المصرى والشعبى والذى يمثل وجبة ثقافية وفنية متكاملة فى مقابل البارات والصالات وأندية القمار والتى كان يرتادها الأجانب وسراة القوم من كبار الملاك والتجار والأمراء.
ثم بدأ عصر المقاهى (المؤدلجة) فشهدنا مقاهى الحزب الوطنى (بار اللواء - وقهوة العلم بباب اللوق) ومقاهى الوفد فى باب الخلق وقصر العينى والحلمية، ومقاهى المثقفين فى السيدة والحسين، وحينما جاءت الخمسينيات اشتهرت مقاهى جديدة يؤمها المثقفون والمبدعون لكن دون تصنيف سياسى أو فكرى، فعرف المثقفون (قهوة عبد الله بميدان الجيزة ومقهى انديانا بالدقى، ومقهى التجارة فى عماد الدين وأيضاً مقهى فينيكس، ثم كازينو ومقهى صفية حلمى بميدان الأوبرا) ومع منتصف الستينيات اتجهت قوافل المثقفين إلى مقاهى وسط البلد وزادت كثافة وجودهم فى المنطقة الواقعة من ميدان التحرير (لاباس / على بابا) حتى ميدان طلعت حرب (ريش وزهرة البستان)
واستمرت هذه الظاهرة حتى نهاية الثمانينات فيما يمكن أن نسميه بظاهرة مقاهى اليسار، وقد شهدت هذه الفترة منذ منتصف الستينيات إنشاء أكثر من ثلاثين مجلة ثقافية وسلاسل كتب تصدرها مؤسسات الدولة الثقافية بالإضافة لمؤسسات إعلامية جديدة عدا الصحف والمجلات القديمة، وفى تلك الأثناء كان مبنى الإذاعة - والذى أضيف له التليفزيون - قد انتقل إلى المبنى الجديد فى ماسبيرو على كورنيش النيل، وازدهر نشاط دار الأدباء ونادى القصة وأتيليه القاهرة، وشكلت كل هذه الأنشطة الثقافية عامل جذب كبير للمثقفين الجدد من مختلف الفصائل التقدمية من التى ارتبط صعودها بثورة يوليو، سواء اتفقوا معها أو اختلفوا؛ ولذلك نشطت هذه الدائرة الجغرافية من المقاهى التى استوعبت هذا الحراك الثقافى الجامح، فتحلق حول هذه الدائرة وفى قلبها حزام من المقاهى، (نادى التحرير - وادى النيل - على بابا - لا باس - ريش - زهرة البستان - استرا - المقهى الثقافى - الحرية - الجوريون).
وساعد على حركة (الجيوبولوتيكا) الثقافية فى المنطقة وجود أكثر من نافذة ومؤسسة ثقافية داخل هذا الكردون أو بالقرب منه، فالثقافة الجماهيرية على بعد خطوات من هذه الدائرة، وكذلك فقد نشطت دار نشر الثقافة الجديدة (محمد الجندى) داخل الدائرة، وبالقرب منها نشط الناشر (مدبولى) بالإضافة لدار الكتاب العراقى ودار الكتاب اللبنانى ومكاتب بعض الصحف والمجلات العربية.
وبعد منتصف السبعينيات كان لوجود حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى بشارع كريم الدولة بالقرب من ميدان طلعت حرب : أثر كبير فى جذب قطاعات كبيرة من مثقفى اليسار - بشتى فصائله - إلى هذه الدائرة الجغرافية داخل حزام مقاهى وسط البلد الثقافية، وفى هذه المرحلة امتزجت الثقافة بالسياسة امتزاجاً كبيراً.
وازدادت حالات الخروج من أو على المؤسسة، بعكس مرحلة الستينيات والتى شهدت انخراطاً حميماً فى مؤسسات الدولة السياسية والثقافية باستثناءات محددة ومعروفة تعد على أصابع اليدين.
وبالتالى ازدادت حركة المقاهى الثقافية فى السبعينيات رواجاً، فللثقافة فى المفاهيم اليسارية - منطلقات أيدلوچية محددة، وللسياسة أيضاً بنيتها الثقافية المعبرة عنها والداعية لها، ولذلك فلم يكن صدفة أن تجد للمثقف - فى هذه الفترة - وجهه الثقافى وللمثقف لافتته السياسية ولم يكن خافياً على المراقبين العالمين ببواطن الأمور - حينئذ - تصنيف المقاهى حسب فصائل اليسار السياسى بتجلياته الثقافية، فكنت تجد قهوة (العمال) أو كافتريا (التيار الثورى) أو مقهى للتروتسكيين، وهكذا، أما الناصريون فقد هرعوا لمقاهى الحسين (الفيشاوى والسكرية) أو مقاهى الجيزة ومنيل الروضة.
ومع بداية الثمانينات وزيادة حدة الاستقطابات داخل القوى السياسية شهدت هذه المرحلة أكبر عملية خروج وتمرد أو طرد من الأحزاب والفصائل السياسية؛ فازداد الحضور فى المقاهى، لكن بآلية مختلفة عبرت عنها روح جبهوية وطنية جديدة تجلت فى اجتماع أكثر من ممثلى فصيل سياسى على مقهى واحد، ونشطت الحوارات على المقاهى.
وبانتهاء الثمانينات والدخول إلى العقد الأخير من القرن العشرين كان عقد القوى السياسى والتجماعت الثقافية قد انفرط وتم تفكيكه لتنقل الجغرافيا من ممر ريش وزهرة البستان إلى مطعم الجوريون، ومع هذا الانتقال الجيوبولتيكى اختفى نسبياً الوجه السياسى للمثقف، واحتفظ - فقط - بالوجه الثقافى مع اشتداد حدة النقد السياسى الذاتى، والذى واكبه - من جانب آخر - انخراط أعداد ضخمة من المثقفين - من جيل الوسط والشباب - فى مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية، وبرز أكثر من أى وقت مضى - الوجه الإعلامى للثقافة؛ ومع الزيادة الكبيرة فى عدد الصحف والقنوات الإعلامية انتشر أكبر عدد من الإعلاميين وفى مقدماتهم الصحفية لعمل موضوعات صحفية أو تسجيلات - إذاعية وتليفزيونية - على المقاهى وتحول هذا العمل إلى نشاط رئيسى يومى فى مقاهى وسط البلد بالإضافة إلى تحول المقاهى إلى سوق رائجة لتوزيع الأعمال الإبداعية الجديدة، أو عقد جلسات نقدية لمناقشتها.
وفى الوقت نفسه تحولت «زهرة البستان» إلى مقهى شبابى يضم الشباب والفتيات من طلاب الجامعات، وحول بعض المثقفين الشبان مقهى «أفترايت» الذى كان يضم الحرفيين سابقاً إلى مقهى يجتمع عليه متمردو الثقافة والسياسة من الجنسين.
أما المثقفون من الأجيال الأكبر فقد تباطأت دائرة الحركة لتبدأ بأتيليه القاهرة، حيث تكبر دوائر الثلج، لتتدحرج - بعدها - إلى الجوريون أو مقاهى أطراف وسط القاهرة واستقرت أوضاع الثقافة «الوسط بلدية» للدرجة التى صارت فيها مؤسسة يتوافد عليها الكثيرون فى دوام وظيفى ثابت تعقد فيه الصفقات الإعلامية والثقافية واتفاقيات النشر العربى والصداقات ذات الطابع البراجماتى.
أما مثقفو جيل السبعينات (الأبطال الرئيسيون لمقاهى وسط البلد طوال عقدين من الزمان) فقد تحولوا إلى أطراف القاهرة بحسب تقاربهم السكنى، وتتركز الغالبية من تجمعاتهم فى مقاهى شارع فيصل، وأهمها (ليالى الحلمية - فرساى - خان الموناليزا - الحرافيش - ونيس) وبعضهم فى شارع ترسة حيث مقاهى (الباشا - التكعيبة - المشربية) وفى الطرف الآخر من القاهرة أصيب رواد مقهى (الامفتريون) الشهير بمصر الجديدة بنكسة شديدة بعد رحيل قائد صالون المقهى الناقد الكبير عبد القادر القط.
سمات مشتركة
واحد ثقافة فى الخمسين، هذا هو شعار مرتادى مقاهى الثقافة والذى يتردد فى جنبات المقاهى على لسان الجرسونات الذين باتوا يعرفون تماماً وجوه المثقفين وسيماهم، يعرفونهم بأحمالهم ورءوسهم المثقلة، باكتئابهم المعهود، وصمتهم الموعود، بجلسات النميمة، وبقلة ذات اليد، أو بالاكتتاب ساعة الحساب، يعرفونهم بالازدواجية التى يعرفها الجرسونات - أكثر من غيرهم - كما يعرفون مدى التهافت والهوان الذى يحياه المثقفون من أبناء المقاهى الذين يقضون أكثر أوقاتهم على المقاهى، وأقلها فى شقق مشتركة أو مفروشة فى أطراف القاهرة، حتى إذا استقرت أوضاع المثقف الوظيفية والاجتماعية والمالية ابتعد تلقائياً عن نشاط المقاهى واعتبره مضيعة للوقت والجهد والمال، ربما حن لزيارة أسبوعية أو شهرية لمجرد الفرجة أو ممارسة لعبة الأستاذ مع التلاميذ لتظل المقاهى تنتج أفراخاً من المثقفين الصغار، وتنتج أيضاً أنساقاً قيمية وثقافية واجتماعية، ساهمت - حيناً - فى ازدهار الحركة الثقافية فى مصر، وساهمت - أحياناً أكثر - فى تفكيك العملية الثقافية وتحويلها إلى نمط استهلاكى ينتهى الغرض منه بدفع الحساب، إن وجد المثقف حساباً فى جيوبه أو جيوب أصدقائه.