بدر الفريدي
27-11-2022 - 03:51 pm
لما نجح ناجي الطنطاوي في اختبار الابتعاث, وكان الأول بين زملائه في الرياضيات والعلوم, أذن له أخوه الأكبر الشيخ علي في السفر إلى فرنسا ليكمل دراسته, فرجع منها,
وكان أول من حمل شهادة الدكتوراه في الرياضيات بسوريا, وقد أرسل الشيخ لأخيه- حين كان في فرنسا- رسالة أبوية, تنضح غيرة على أخيه, وتنبض حباً له وشفقة عليه, وهي رسالة منه إلى كل مبتعث, ولذا نشرها في مجلة (الرسالة في العدد الثالث منها, سنة 1356ه, لينتفع بها- كما قال- كل طالب يريد أن يذهب للدراسة في باريس أو لندن أو أمريكا, ومما جاء فيها:
"يا أخي إنك تمشي إلى بلد مسحور- والعياذ بالله- الذاهب إليه لا يؤوب, إلا أن يؤوب مخلوقاً جديداً, وإنساناً آخر غير الذي ذهب, يتبدل دماغه الذي في رأسه, وقلبه الذي في صدره, ولسانه الذي في فيه, وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك, إي والله يا أخي, هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا, إلا من عصم ربك, يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا, ويعودون عداة لنا, دعاة لعدونا, جنداً لحربنا, وعوناً لمستعمري بلادنا, لا أعني الاستعمار العسكري, فهو هين لين, وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف, والقلوب بالفن الداعر, والألسنة باللغة الأخرى, وما يتبع ذلك من الأرتيستات والسينمات, وتلك الطامات من المخدرات والخمور, وهاتيك الشرور. فانتبه لنفسك, واستعن بالله, فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف, ولا يحفل العرض, بل ليس في لغاتهم كلها كلمة بمعنى العرض كما نفهم نحن معناه! فترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة, قد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن, وهبطت بهن إلى الحضيض, فلا يأكلن خبزهن إلا مغموساً بدم الشرف,
وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك: مخدرات, معصومات كالدر المكنون, شأن نساء الشرق المسلم, حيث المرأة عزيزة مكرمة, محجوبة مخدرة, ملكة في بيتها, ليست من تلك الحطة والمذلة في شيء, فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك, أو يذهب بلبك جمال لها مزور, أو ظاهر خداع, هي والله الحية:ملمس ناعم, وجلد لامع, ونقش بارع, ولكن في أنيابها السم... إياك والسم.
إن الله قد وضع في الإنسان هذه الشهوة, وهذا الميل, وجعل له من نفسه عدواً؛ لحكمة أرادها, ولكنه أعطاه حصناً حصيناً يعتصم به, وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه, فتحصن بحصن الدين, وجرد سلاح العقل, تنج من الأذى كله. واعلم أن الله جعل مع الفضيلة مكافأتها: صحة الجسم, وطيب الذكر, وراحة البال. ووضع في الرذيلة عقابها: ضعف الجسد, وسوء القالة, وتعب الفكر, ومن وراء ذلك الجنة أو جهنم. فإن عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفها فراقب الله, وحكم العقل, واذكر الأسرة والجدود. لا تنظر إلى ظاهرها البراق, بل انظر إلى نفسها المظلمة القذرة, أتشرب من إناء ولغت فيه الكلاب؟!
يا أخي إن في باريس كل شيء, فيها الفسوق كله, ولكن فيها العلم, فراجع, وابحث, واكتب, وانشر, وعش في هذه السماء العالية, ودع من شاء يرتع في الأرض, ويعيش على الجيف المعطرة! غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والإسلام, وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها, عدواناً كثيراً على الحق, وتبديلاً للواقع, فانتبه له, واقرأ ما تقرأ, واصغ لما تسمع, وعقلك في رأسك, وإيمانك في صدرك, لا تأخذ كل ما يقولون قضية مسلمة, وحقيقة مقررة, فإن الحق هو الذي لا يكون باطلاً, ليس الحق ما كان قائله أوروبا, فانظر أبداً إلى ما قيل, ودع من قال.
ثم إنك سترى مدينة كبيرة, وشوارع وميادين ومصانع وعمارات, فلا يهولنك ما ترى, ولا تحقر حياله نفسك وبلدك, كما يفعل أكثر من عرفنا من رواد باريس, واعلم أنها إن تكن عظيمة, وإن يكن أهلها متمدنين, فما أنت من مجاهل الأرض, ولا أمتك بسفلة الناس, وإنما أنت ابن المجد والحضارة, ابن الأساتذة الذين علموا هؤلاء, وجعلوهم ناساً, ابن الأمة التي لو حذف اسمها من التاريخ لرجع تاريخ القرون الطويلة صحفاً بيضاً لا شيء فيها, إذ لم يكن في هذه القرون بشر يدون التاريخ تاريخه سواهم, فمن هؤلاء الذين ترى؟ إنما هم أطفال, أبناء أربعة قرون, ولكن أمتك أخت الدهر, لما ولد الدهر كانت شابة, وستكون شابة حين يموت الدهر.
يا أخي إذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم, وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدارسهم, وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم, على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدون الحسنة لنتعلمها, والسيئة لنتجنبها, ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريس من أبناء العرب, فلم يروا إلا المحاسن والمزايا, ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب, فلم يبصروا إلا المخازي والعيوب, ولكن كن عادلاً صادقاً أميناً.
وبعد: يا أخي, فاعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الإيمان, فاعرف قدرها, واحمد الله عليها, وكن مع الله تر الله معك, وراقب الله دائماً, واذكر أنه مطلع عليك, يعصمك من الناس, ويعذك من الشيطان, ويوفقك إلى الخير. وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر, احزم أمتعتك, وعد إلى بلدك, وخل (السوربون - جامعة في فرنسا - تنعي من بناها, وانفض يدك من العلم إذا كان العلم لا يجيء إلا بذهاب الدين والأخلاق" ثم علق الشيخ الطنطاوي بعد نصف قرن على كتابته لهذه الرسالة (سنة 1404ه, بقوله:"هذه كلمة نشرتها يوم لم تكن أوروبا بلغت من دنس الأخلاق, ورجس الفواحش, ما هي عليه اليوم, يوم كان لكلمات الأخلاق والحشمة والحياء والمروءة بقية من معانيها ودلالاتها, لم تفقد معانيها كلها كما حصل اليوم, وقد خفت على أخي, فما لبعض الآباء يلقون بأولادهم في هذا النهر الملوث وهم لا يحسنون السباحة؟ ما لهم يبعثون بشاب أمضى عمره كله في بلد الدين والحجاب, ما رأى يوماً أطراف جسد امرأة غريبة عنه, ولا خلا بها, شاب بين جنبيه من الرغبة جمرة تتلظى, لو أبصر فتاة من بعد عشرة أمتار لهفا قلبه إليها, وتمنى الدنو منها, ودفع ربع عمره ليبصر ما تحت ثوبها, يرمون به إلى بلاد: بعض النساء فيها سلعة رخيصة على جوانب الشوارع, وربما تعرضن له إن لم يتعرض هو لهن! إلى بلاد: المنكرات فيها معلنة, والأعراض مستباحة, فإما أن يميله الهوى ويقوده الشيطان فيقع في الحرام, وإما أن يضم جوانحه على مثل لذع النار".
وقال- رحمه الله- في سياق رده على شبهة يطرحها كثير من دعاة الابتعاث المفتوح:" إن من الناس من يخدعهم أن المبتعث يعود إلى دينه أول أيام بعثته, فإن لم يكن يصلي في بلده صلى هناك, وإن لم يكن متمسكاً بالعبادة تمسك بها, ولكن هذا ليس دليلاً على السلامة, فالمرض عندما تدخل جرثومته جسد الإنسان لا يظهر أثرها, ولا تعمل عملها إلا بعد أن تنتهي مدة التفريخ, والمرء ما كان له مورد فإنه ينفق من مورده, من مرتبه إن كان موظفاً, ومن دخله إن كان عاملاً, ومن ربحه إن كان تاجراً, فإن انقطع مورده رجع إلى ما كان قد ادخره ليوم الضيق, وكذلك يصنع المبتعث يتنبه إيمانه في نفسه حتى يستنفد كل آثار هذا الإيمان, ويخلو قلبه لتلقي سموم حياته الجديدة"أه.
نعم أيها القراء الأعزاء, إن الابتعاث ظاهرة صحية حين يكون بقدر الحاجة, وبضوابط صارمة تقي المجتمع من ويلاته وشروره, وكم من مبتعث رجع إلى بلده كيوم سافر منها, حافظاً لدينه, وفياً لوطنه, أما حين يفتح الباب على مصراعيه, ليلج فيه كل شاب وشابة, وبكل الفئات العمرية, فهنا تقع المصيبة, وتحل الكارثة, ونخشى أن نرى اليوم الذي يرجع فيه الشاب المبتعث بفكر مستورد, وبثقافة تحمل العلامة الغربية, وبلباس يتوشح فيه الشاب, القميص, والجينز, والقلادة, ويقوده أو يقود الكلب الأنيق, يجوب به الشوارع والأماكن العامة, ويخطر به في الأسواق والمقاهي, وكأنه في زقاق من أزقة واشنطن, أو في مقهى من مقاهي باريس! إن الابتعاث حين يطل برأسه على أي بلد محافظ دون ضابط أو زمام, فيجد الشاب نفسه بلمحة بصر في أحضان مجتمع يرفع شعار التفسخ والانحلال من قيم العرض والدين, فلا غرو إذاً إن رجع إلى بلده وكان معولاً من معاول الهدم, أو أداة من أدوات التغريب, بل ربما كان آلة للأجنبي المتربص, وهذا ما يكشف عنه الشيخ الطنطاوي في قوله:
"وكم من شاب نشأ في أسرة مؤمنة حريصة على دينها, متمسكة بفضائلها, أرسلناه إلى تلك البلاد ليعود منها بالعلم, فعاد بشهادة بلا علم, أو عاد بعلم بلا دين, أو ترك الدين والعلم هناك, ورجع متأبطاً ذراع حليلة من هناك, بيضاء شقراء, ولكن وراء بياض جلدها, وشقرة شعرها, قلباً أسود, مملوءاً كفراً, فيسري في قلوب أولاده منها, ولقد عشت زماناً كنا نقارع فيه الفرنسيين المستعمرين - يعني في سوريا- في الشوارع نهاراً, ثم يأوي نفر منا إلى بيوتهم, فيجدون المستعمرات الفرنسيات متحكمات في دورهم, ومربيات لأولادهم, لا يملكون لهن قراعاً, ولا يثيرون عليهن حرباً, وهل يعلن أحد الحرب على زوجته وأم أولاده؟ وما ضعضع دولة العباسيين, وزعزع أساس ملكها إلا الجواري الجميلات الفاتنات من بنات أعدائهم, صرن اللباس لهم في مضاجعهم, والحبيبات المالكات لأفئدتهم, وصرن أمهات أبنائهم, ثم صار الأمر لهؤلاء الأبناء, فغدون الحاكمات من وراء ستار!!" إلى هنا انتهى كلامه - رحمه الله - وما انتهى أثره في النفس, ووقعه في القلب, لأنه كلام سرى من القلب لينفذ إلى القلب بلا استئذان, فما أروعه من كلام يهز الوجدان, وما أعظمه من لسان يتناغم له الأسلوب والبيان, وكأن الألفاظ والجمل تتراقص أمام ناظريه ليختار منها ما لذ وزان, ليوقظ النفس المؤمنة, ويمهد لها سبيل التوبة والأوبة, لترجع إلى ربها راضية مرضية, وتترك طريق النار المحفوف بالشهوات, وتسلك طريق الجنة المحفوف بالمكاره, إنها همسة منه- رحمه الله- لا بل صيحة من لسان صادق, وقلب مشفق, فأرجو أن لا تكون صيحة في واد, أو نفخة في رماد.
د. يوسف بن أحمد القاسم
أستاذ الفقه المساعد بالمعهد العالي للقضاء
الدراسة في استراليا
ونفع قارئها ..نفعا يعود بعده إلى صوابه وهداه
هذا هو الكلام الذي لو عمل به أخواننا الذين يذهبون للدراسه في بلاد الغرب
لاكان حال ديننا وأمتنا أفضل بكثير من مانحن فيه