- من دفتر ذكرياتي.
من دفتر ذكرياتي.
استلّتْ يدُ صاحبي الفضول دفتر ذكرياتي الصغير، كنتُ قد كتبتُ فيه بعضاً من ذكريات وخربشاتِ إحدى السنوات الخوالي لرحلة صيدٍ بريّة. فقرأه وأخذ يزمُّ شفتيه وقال لي: والله ما عرفت عما تتحدث يا هذا! أهو حديث في السياحة أم في السياسة؟ أم أنها تجليات وجدانية صوفية؟ أم أنها رحلة برية موحشة؟؟ أم أنها تأمّلاتُ عاشق هجر المدينة واحتضن البراري والقفار؟ سكتتُ برهة وسحبتُ الدفتر من بين يديه. قرأت بعضاً مما خطه اليراع فما عرفتُ بماذا أجيب. وقلتُ له: حتى أنا يا صاحبي، لا أعرف عن أيّ شيء كنتُ أتحدث، ولا أعرف ماذا كتبت!
أنفضُ اليومَ الغبارَ عن جزءٍ يسير ٍ من تلك الذكريات وأملي أن لا يصيبكم الإحباط كصاحبي. فإلى هناك.
كان لهيب الصيف الحارق هذا العام على غير عادته، والنفسُ قد ضاقتْ بروتين العمل، والجسد الفتيُّ بات منهكاً بعدما تناوشتهُ الهموم ومشاغل الدنيا حتى كسته معالم الكهول وكأن الدهر أكل عليه وشرب، فالتعب أفسد متعة الأسفار، والنفس تواقة لما يجلب متعة الترحال نهاراً وفي الأسحار.
لم أعتد العشوائية في أموري. وما أقدمتُ على أمرٍ إلا كنتُ له مخططاً، وما اتخذتُ رأياً إلا كنت عنه مستشيراً، ولا أحببتُ السفر يوماً دون رفيق، فما أسوأ السفر دون صاحب في الطريق، يؤنس وحدتي، ويطرد وحشتي، ويقيلُ عثرتي، وله مني ما لي منه نداً بند.
لكنها الأيام تسير لا كما نشاءُ لها أن تسير، ومن منا لم تجعل منه الظروف يوماً أسيراً لها، فباتت كنهر جارف يسحبنا بتياراته، فنلف التفافاته، وننحني انحناءاته، ونسقط من علٍ كسقطاته، لا حول لنا ولا قوة سوى الاستسلام لاندفاعاته والسقوط من عليائه.
كان أسبوعاً مملاً ذاك الذي قضيته أتقلب فيه على فراشي خلا بعض الأيام، وكان لا بد من نفض الغبار الذي تراكم فوق الجسد، وفوق الذاكرة، وكان لا بد من اتخاذ القرار. لكن إلى أين المسير؟!
ففي دمشق زحمة لا رحمة، ومرتزقة وتلوّث، وابتزازٌ وضِيقْ، وروتينٌ قاتلْ، ونفوسٌ عجيبة غريبة، وكائناتٌ جشعة، ووجوهٌ لستُ آلفُها، وحياةٌ صاخبة لستُ أهواها. لكن في دمشق التاريخ أيضاً، مكتبات غنية وجوامع أثرية وحارات، وآثارٌ وحضارات، لكن قناص الصحراء يصابُ بالغثيان عندما يرى مجاميع القطعان من سياح بلاد العم سام تجوب تاريخنا بملابسها ولا ملابس. فأخوكم قناص الصحراء أهون على نفسه أن يرى كل يومٍ شيطاناً من أن يرى سائحاً أوروبيا كل عام. هكذا أنا، جُبلتُ على كراهية الحشرات والجراثيم والطفيليات. يا الله، كم أكره أولئك القوم وابتذالهم، وكم أمقت حركاتهم وسكناتهم، وكم تعاف النفس أماكن ارتيادهم، فلدي حساسية شديدة تجاههم، أشد من حساسية كوندوليزا من البياض. فلتكن زيارة دمشقَ إذاً حتى إشعار آخر، وفي موسم آخر، عندما يرحل عنها الجرذان، حتى لا يصيبني الغثيان.
وفي الشرق، آه من الشرق وسحر الشرق، لا يا سادة، لستُ أقصد شرق آسيا، فنفسي تعافها بالرغم من جمالها، وحسن ترتيبها، وبشاشة وجوه أهلها. عذراً، لستُ ممن يغمط الناس حقوقهم، لكني شاميُّ الهوى. شرق الشام أو بلاد الشام لا فرق. ففي الشرق باديةٌ وبرٌّ وصيدٌ وأرانبٌ وحَجَلْ، وإن عَثرَ حظك فذئاب وضباع، وثعالب وعقارب، وإن افترّ ثغرُ الحظ لك عن ابتسامة فغربانٌ سوداء وجرابيع بريّة!. فالصحراء عشقٌ يسري في دمي، ومتلازمة ليست تبرحني ولستُ أبرحها. أمِنْ مجرب يا سادة لطبخ كأس من الشاي على أعواد حطب في الصحراء؟. ذاك طعمٌ لا زال يسري في فمي. أمِنْ مجرب يا قوم للاستلقاء ووجههُ للسماءِ يُزيّن خدها آلاف النجوم. أمن مجرّب لاضطجاع ٍ بجوار موقدِ النار والنوم على هدأة الجمر وآخر عيدان من الحطب تلفظ أنفاسها في قلب الليل الصامت الرهيب. يهدهدني تَفرقعُ أعوادِ الحطبِ عند اشتداد لهيب النار عليها ليعزف سيمفونية صحراوية ستُعجِزُ موزارت، وستدهش باخ، وستعقد لسان زرياب. هي منظومة ُ أنغامٍ عناصرها الطبيعة، أوتارها الهدوء، تجعل النوم يسري في جفوني، تذكرني بسريري الصغير وكيف كانت تهدهدني أمي لأنام في دعَةٍ وسلام، لتسكُبََ من راحتها لأجل راحتي وسكوني. يا الله !! لكم اشتقت إليكِ يا أمي، تباً للغربة والفراق، وسلام الله عليك يا أمي.
أختلف معك في أول حديثك عن دمشق
فكل العبارات التي ذكرتها عن أناس هم في الواقع قلة
أما ماتبقى من أطروحتك الجميلة العذبة
فهيا كما ذكرت بالفعل
والله حاميكي ياشام