لاشك أن الفترة الزمنية بين كل من الموجة البحرية الهائلة تسونامي إندونيسيا التي حدثت في 26 ديسمبر 2004م من جراء الزلزال البحري، والعاصفة الصرصرية العاتية في 28 أغسطس 2005م التي أثرت جلياً في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة الامريكية لهي دلالة واضحة على القدرة الإلهية العظيمة التي تدير وتدبر هذا الكون العظيم دون سنة ولا نوم.
لقد قدر لي الله أن أكون محلقاً بليلة قمراء في يوم تسونامي آسيا، ومحلقاً فوق هام السحب يوم إعصار كاترينا.
ففي ليلة 13 ذي القعدة 1425ه الموافق 26 ديسمبر2004م والاستعدادات قائمة على قدم وساق لاستقبال ضيوف الرحمن في الحج المنصرم، رن هاتفي الجوال وأنا أقود سيارتي إلى البيت، وإذا به منسق جداول الرحلات يطلب منى التعاون والحضور للمطار للذهاب راكباً إلى المدينة المنورة ثم كقائد طائرة إلى سورابايا بإندونيسيا، وبالرغم من علمي المسبق وبحسب جدولي الشهري بأن علي رحلة مجدولة في اليوم التالي، إلا أنني بذلت قصارى جهدي للحضور إلى المطار واللحاق بالرحلة المتجهة للمدينة المنورة كراكب، وما أن دلفت إلى الطائرة حتى أقفلت أبوابها ورأيت الاتهامات بأعين الركاب لتأخير الرحلة قرابة العشر دقائق.
ما أن وصلت إلى المدينة الحبيبة على قلوب جميع المسلمين حتى انتقلنا إلى العمليات الجوية بالمدينة المنورة لأخذ الوثائق المطلوبة للرحلة عن حالة الأجواء التي سنمر بها والممرات الجوية والخطة الجوية المصرح بها من قبل الدول التي سنمر عليها ابتداء من مملكة الإنسانية حتى وصولنا الأجواء الإندونيسية، ولم يكن في تلك الوثائق أدنى شك من سلامة سيرالرحلة حيث صادف وجود زميلي الكابتن فيصل الرشيد قادماً من سورابايا بحمولة كاملة من هناك، وتمنى لنا رحلة موفقة، مفيداً أن الأجواء لرحلته كانت صافية، فقمنا بتشغيل الطائرة بعد التأكد من جاهزيتها وسلامتها من قبل جميع ملاحي الكابينة والقيادة مبتدئين رحلة العشرة آلاف كيلومتر.
بالطبع كان لا بد في رحلات القدوم للحج أن تغادر هذه الرحلات من المملكة فارغة من الركاب أو كما تدعى في علم الطيران (FERRY FLIGHT)، لكن خزاناتها مشبعة بالوقود من المملكة وذلك للتقليل من كمية تعبئتها من المحطات الخارجية للحد من التكاليف.
اقلعنا من مطار الأمير محمد بن عبد العزيز بالمدينة المنورة وارتفعنا إلى (37) ألف قدم عابرين منطقة صحراء الربع الخالي والخليج العربي ثم شبه القارة الهندية والمحيط الهندي فوق جزيرة سومطرة غرب آشي (محرك تسونامي) ومن ثم إلى جزيرة جاوه ومدينة سورابايا.
كانت الأجواء صافية في معظم أوقات الرحلة بل إن ما خفف من معاناتها كونها ليلة قمراء ووجود الطاقم المتفهم لواجباته، وعلى الرغم من كونها ليلة قمراء لم نلاحظ أي تحركات بحرية أو وجود تحذيرات بهذا الخصوص قد تؤثر على الملاحة الجوية من جراء تغير الصفائح الارضية، وعند هبوطنا في حوالي الحادية عشرة مساءً (أي بعد تسونامي بثلاث ساعات) لم يكن أحد يعلم بأن خامس أقوى زلزال في العالم بقوة (8.9) بمقياس ريختر أي ما يعادل مليون قنبلة نووية قد حصل، "إن ربك أوحى لها"، فقد أشارت وكالات الأنباء بعدها بداية أن هناك ما يقارب 300 شخص فقط هم ضحايا الزلزال، ثم ازدادت الأرقام حتى وصل مؤخراً إلى 300 ألف شخص.
إنها رحمة الخالق، فقد اندلع الزلزال بهذه القوة الهائلة تحت سطح البحر، ونتج عنه ارتفاع سطح البحر إلى (25) متراً فقط، وذهب ضحيته أكثر من ربع مليون شخص، وتأثرت به السواحل حول وغرب الزلزال، حيث تبعد هذه الأراضي آلاف الكيلومترات من شتى الجنسيات، فكيف لو تضاعف ارتفاع الموج؟
أما الحديث عن إعصار كاترينا (هيروكين كاترينا) وهو اسم مقتبس من قبائل الهنود الحمر (المايا)، وهو الذي ضرب ولاية الباما ولويزيانا في يوم (28) أغسطس، فقد صادف أن كنت في رحلة غير مجدولة من نيويورك التي وصلتها يوم (24) أغسطس لأعمل كقائد لطائرة الجامبو (747) إلى المكسيك ومن ثم إلى المملكة، وأثناء وجودي بنيويورك كنت أرقب حالات الطقس، إذ وصلت الحرارة لثمان وثلاثين درجة جعلتني أشعر وكأنني في جدة، وكان إعصار كاترينا قد بدأ في التحرك من جزر البهاما في المحيط الهادي متجهاً غرباً إلى ولاية فلوريدا، وكان يسير بسرعة ثمانين إلى مائة ميل في الساعة، بينما سرعة عين الإعصار خمسين ميلا فقط، مما يضعه في الفئة الأولى، حيث اقتلع الأشجار وأسقف المنازل في الجزء الجنوبي لولاية فلوريدا حيث مدينة ميامي وبالم بيتش، وقد انقطع التيار الكهربائي عن أكثر من مليون ونصف المليون مشترك.
ومن مراقبة النشرات الجوية علمت أن الإعصار ذاته ما زال في تحركه الغربي إلى خليج المكسيك وقد يتجه شمالاً ويتطور إلى الفئة الثانية، وبعد أن يسترد عزمه من تغذيته ببخار الماء من خليج المكسيك سيتطور للفئة الثالثة أو الرابعة، أي أن سرعة تحركه ستقدر بحوالي (140) ميلاً في الساعة وأن هبوطه الأرضي قد يكون يوم الأحد أو الاثنين صباحاً.
وهنا دق ناقوس الحذر، فطريقنا الجوي هو عبر فلوريدا وخليج المكسيك، وتوقيت الرحلة هو ظهر الأحد، أي أن ذلك مطابق لوجود وتحرك الإعصار إلا إذا اتجه شمالاً، وهنا يكمن القرار الصعب، وعلى الفور اتصلت بالمرحل الجوي يوم الجمعة لأعرف إمكانية تغيير سير الرحلة المقررة والاتجاه جنوبا نحو كوبا وأخذ التصريحات الجوية المناسبة قبل سيرها يوم الأحد ظهراً، وبالفعل ما أن أتى موعد الرحلة يوم الأحد إلا وبدأ الإعصار في التحرك شمالاً مبتعداً عن مسار الرحلة فوق خليج المكسيك لنعبر الخليج بكل أمان والحمد لله وعلى ارتفاع (40) ألف قدم، وفي طريق العودة صباح يوم الاثنين كان بنفس المسار تقريباً، وكنا على ارتفاع (37) ألف قدم فوق مدينة أورلاندو، حيث شاهدت حلقة نارية في أقصى اليسار باتجاه ولاية لويزيانا، ولكن لم يكن في طريقنا الجوي أي مصاعب جوية غير اعتيادية.
استعراض هاتين الحالتين لكل من تسونامي آسيا وإعصار كاترينا يكشف الغطاء لعدة حقائق حول إدارة كل أزمة، ومن أهمها:
لم تكن هناك في أزمة تسونامي طرق الجودة المناسبة مما أدى إلى وفاة ما يزيد عن ربع مليون شخص على أطراف المحيط الهندي، حيث فوجئ الناس بالموج دون سابق إنذار، علماً بأن كلا المحيطين الهادي والهندي معرضان لتلك التحركات للصفائح الصخرية، إضافة إلى عدم وجود أجهزة إنذار مبكر لتحرك تلك الصفائح على السواحل وفي أعماق المحيط الهندي الشبيهة بتلك الموجودة على إطراف الساحل الغربي للمحيط الهادي للولايات المتحدة الأمريكية والتي ترسل ذبذبات لاسلكية إلى المحطات العائمة على سطح البحر ومنها إلى الأقمار الصناعية، حيث تقوم المحطة الأرضية بتحليل شدة هذه التحركات وأخذ الاحتياطات المناسبة والإخلاء إذا لزم الأمر والتقليل إلى الحد الأدنى من الخسائر البشرية.
لم يكن إعصار كاترينا مفاجئاً لأطراف ولاية فلوريدا الأمريكية، فقد تمت مراقبة الإعصار منذ ولادته وتحركه من شرق جزر البهاما، وبثت وكالات الأنباء توقعاتها لحركات الإعصار برغم برغماتية المسمى، معتمدين على القوة الإحصائية والتحليل، إن الإعلان الرسمي بإخلاء نيو أورلينز وما جاورها من السكان عدا الأفراد المختصين بالإنقاذ قبل وصول الإعصار بيومين لهو دليل على جودة التخطيط المسبق لإدارة الأزمات والحد من إزهاق مئات الآلاف من الأرواح البشرية التي نزحت من منطقة الإعصار، فالإخلاء المبكر قلل من الخسائر البشرية مقارنة بتسونامي آسيا.
إن تكوين الأعاصير القوية الدوران تصل إلى مئات الكيلومترات وإن اختلفت مسمياتها من هيروكين، تايفون، سيكلون، وهي مناطق ضغط منخفضة تدور عكس عقارب الساعة في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، ونفس اتجاه عقارب الساعة في الجزء الجنوبي من خط الاستواء، وينقسم الإعصار إلى قسمين رئيسين هما: عين الإعصار ويقدر بحوالي عشرين كيلومتراً وهو مركز الإعصار وتكون سرعة الرياح فيه هادئة، وجدار الإعصار الذي يحيط بالمركز وتكون الرياح فيه شديدة قد تصل لأكثر من (100) كم في الساعة وتكثر فيه الإمطار.
وارتفاع مستوى الماء هو دلالة على انخفاض الضغط الجوي كثيراً عن المستوى المعهود وهو (1013) مللي بار على سطح البحر، وفي حالة إعصار كاترينا انهار الضغط إلى حد (990) مللي بار مما ساعد في ارتفاع منسوب المياه الجوفية ومستوى البحر وزاد الطين بلة.
المصدر مجلة عالم السعودية