- أصل البازانات
- صفوة المجتمع
- بازان السبيل
- نظام صارم
- التعب الجميل
جدة .. المدينة الساحلية عروس البحر الأحمر ، أكبر ما يشغل أهلها هذه الأيام ومن السابق أيضا هو كيفية توفير المياه لمنازلهم ، فأزمة المياه التي باتت تعاني منها هذه المدينة الحالمة في كل عام وإن تضاعفت جراحها في هذا العام جعلني أستعيد ماضي هذه المدينة التي تعددت مصادر حصولها على الماء وطرق تخزينها له ، وتأتي الصهاريج كأبرزها والتي ما زال بعضها قائما حتى الآن وإن كان أشهرها هو صهريج العيدروس فيما كانت البازانات من أهم مصادر المياه في جدة قبل إنشاء العين العزيزية التي تعتبر وقفا من الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله لأهالي جدة كما جاء في كتاب عبدالقدوس الأنصاري عن جدة أنه بدأ في المشروع بمنتصف عام 1365ه وبعد عام ونصف العام وصل الماء في الأنابيب بعد أن كانت المياه تُجلب إلى جدة من بحرة والجموم ووادي فاطمة على ظهر الحمير والبغال حتى جاء عام 1325ه الذي أعلن فيه عن انشاء أول تحلية التي كان يسميها أهل جدة الكنداسة والتي تعطلت بسبب إيقاد الحطب عليها بدلا من الفحم الحجري الذي انقطع عنها في عام 1343/1344ه ، وفي عام 1948ه أنشأت الدولة أول محطة لتحلية مياه البحر كأول الحلول لمشاكل جدة مع المياه والتي على ضوء تلك المحطة أنشئت عدة بازانات
والبازان للذي لا يعرفه هو مكان للسقاية ، وهو عبارة عن شبكة مياه بها مواسير تسمى «أشياب» يتدفق منها الماء لتعبئة برميل حديدي مشبوك بعجلتين وحمار
وفي البازان أيضا بعض «البزابيز» المخصصة لتعبئة «الزّفة» ، والمقصود هنا ليست زفة العروس ، إنما هي صفيحتان من التنك (تنك السّمن) يوضع فيهما الماء ، وتتصلان هاتان الصفيحتان بعضهما البعض بواسطة قصبة من الخشب تسمى عود «الزفة» أو «البومبة» وهي عصا غليظة في طرفيها سلسلتان من حديد لتعليق الصفيحتين فوق كتفي السقا
وللبازان مسؤول يسمى شيخ البازان ، له الكلمة العليا ولا يستطيع من كان أن يثني له كلمة أو يكسرها
أصل البازانات
وأصل كلمة بازان يقال أنها كلمة تركية ، وهي مرتبطة باسم مهندس تركي قام بتصميم شبكة المياه لسقاية الناس ، والبعض ألمح إلى خلاف ذلك وأعادها إلى عام 1326ه عندما أرسل فيه أحد أمراء المغول في العراق أحد العاملين عنده واسمه بازان لإعادة إصلاح خط المياه المدمر
ومع ذلك فهذه البازانات كانت وما زالت أشهر من نار على علم في جدة والتي أُلغيت قبل قرابة 30 عاما بسبب توسع المدينة وتوفر شبكة المياه التي دخلت البيوت بدلا من السّقا الذي كان يجلب الماء من بازانات الكندرة وحارة اليمن والبغدادية وحارة المظلوم والقشلة وكيلو 3 بطريق مكة والنزلة الشرقية ومدائن الفهد وغليل والهنداوية والسبيل ، وهذه البازانات صغرت أم كبرت لم تظهر في وقت واحد وإنما ظهرت حسب الحاجة وحسب الامكانات ، وإن كان أشهرها بازان العيدروس وبازان السبيل ، والأخير رغم أن معالمه ما زالت قائمة حتى الآن لكن لم يبق من تاريخه سوى العم أحمد قدح الذي ما أن أغلق البازان حتى امتهن تحبيل الأسرّة (جمع سرير) لينام الناس عليها بعد أن أراحهم سنين وهو يجلب الماء لهم مرة بحماره وأخرى بزفته التي كان يحملها فوق كتفه
صفوة المجتمع
فبازان السبيل القريب من قصر الملك سعود «قصر خزام» الذي يقع في شارع بشار بن برد الذي كان يوما من أشهر شوارع هذا الحي بسبب قاطنيه الذين كانوا من صفوة المجتمع ، مثل قصر الأميرة الجوهرة وقصر الأمير عبدالله بن سعد وبيت عبدالله بحلس وبيت المعمر وبيت الشيهون وبيت الحمودي وبيت عبدالرحمن بن سعيد والسفارة النيجيرية ، فهذا البازان كان يوما روضة من رياض الدنيا ليس بأشجاره ، إنما بهوائه البارد وتحول اليوم إلى ساحة بيضاء ما أن تهب نسمة ريح فيه حتى تتطاير أتربته وغباره إلى عيون المارة ، هذا الشعور أحسست به وأنا أقف فيه وأسترجع الماضي الذي كنت فيه كبقية أقراني في تلك الفترة صغير السن .. كنا نجلس أمام جدار يظللنا من أشعة الشمس فيما كنا نستمتع برؤيتنا للحمير وللسقايين ولتدفق الماء في الزفات أو البراميل وان كانت متعتنا الحقيقية هي أن نركب فوق الحمير لنقود السقا إلى بيوتنا رغم أنه كان أحد سكان حيِّنا
وعلى الرغم من أن شيخ البازان (الشيخ زقر) رحمه الله كان أحد سكان الحي ويعرف كل من فيه ، كان لا يسمح بتاتا بخروج برميل ماء أو زفة ماء ما لم نأته ونجلس في الطابور كنظام متبع لديه لا يمكن إغفاله ، ومهما كان الأمر فقد كان الشيخ زقر لا يفرق بين كبير أو صغير
بازان السبيل
وكان بازان السبيل - حسب كلام العم أحمد قدح - عبارة عن أرض فسيحة البيوت من حوله وهو يتوسطها ، وكان كل السقايين فيه وفي كل البازانات هم من الجنسية اليمنية يعملون فيه من بعد صلاة الفجر حتى ما قبل صلاة العشاء وهو موعد إغلاق المياه بواسطة مأمور العين العزيزية ، وهو شخص موكل بفتح وإغلاق محبس الماء الذي يفتحه مع الأذان الأول لصلاة الفجر ويغلقه مع أذان العشاء ، وكان كل سقّا منا يدخل البازان وهو يقول «سِرا» وهي كلمة لتنبيه الآخرين بوجوده ولتأمين دوره بينهم
ويبدو أن العم أحمد أراد تذكيري بهذه الكلمة «سِرا» التي جعلتني يوما أذرف الدمع رغم صغر سني ولم يسكت بكائي سوى حلوى العم زقر ، ففي ذلك اليوم دخلت البازان وأنا أقول سِرا ، وقد حسبني بعض السقايين أنني بديلا لأحدهم أو لحين وصوله ، فقد كان مثل هذا الأمر عاديا ومعروفا عند الجميع طالما أن العربة والحمار معروفان عند شيخ البازان وحتى عند السقايين ، وعندما حان دوري بقيت في مكاني جالسا ، عندها اقترب مني أحدهم وعرف أنني كنت أمزح وألهو ، فلطمني كفا لم أنسه حتى اليوم
فكلمة سِرا والكلام هنا للعم أحمد قدح هي مفتاح دخولهم للبازان ومفتاح وصولهم ووقوفهم تحت أشياب «البزابيز» ، ويعود بذاكرته لأيام زمان ويقول : كنا في ذلك الوقت لا نزيد عن العشرين سقّا ، وكان كل منا يقف بحماره في اليوم الواحد تحت تلك الأشياب ما بين 8 – 10 مرات (ردود) ،كنا نبيع الرد الواحد بريال ونصف ولا يزيد عن الريالين ، أما الزفة فقد كنا نبيعها ب 4 قروش رغم تعبها الشديد التي تحتاج إلى قوة جسمانية لحملها ، وهذا هو سبب قلة العاملين فيها - يصمت قليلا مسترجعا الماضي وهو يبتسم ويقول - كانت الناس في تلك الأيام طيبة جدا ، يميزها صدق المعاملة ، فالظروف المادية في ذلك الوقت لم تكن متوفرة لكل شخص بسهولة ، ولذلك كنا نورد الماء للبيوت بالدفع الآجل ، فأكثر بيعنا للماء بالدَّين الذي يتم تقييده من خلال «شخط» خط يكتب على الجدران من الداخل في كل بيت بقطعة من فحم بعدد براميل وزفات الماء التي أوردناها دون أن يخطر على بالنا أن صاحب الدار بإمكانه أن يمسحها أو يتلاعب بها ، فالثقة المتبادلة كانت عنوان تعامل بعضنا البعض
وكان إذا مرض أحد السقايين أو تعب إستعان بزميل له في إيصال الماء إلى زبائنه ، فقد كان ممنوعا أن يتعدى أحدنا على زبائن الآخر ، وهو عرف متبع في جميع البازانات ، إضافة إلى أن الشيخ زقر الذي كان يتقاضى راتبه من العين العزيزية والذي كانت له هيبة كبيرة وقوية عند الصغير وعند الكبير كان لا يسمح بذلك رغم أنه كان ينظم العمل داخل البازان وهو جالس فوق كرسيه المحبِّل (القعادة) بداخل غرفته والتي كان بابها وشباكها يطلان على ساحة البازان ، فالباب كان يطل على موقع تعبئة زفات الماء فيما كان الشباك يطل على أشياب المياه ، وكان زقر يجلس معتما بعمامته وفي يده عصا غليظة لا تفارقه ، وكان صوته يعلو بين الحين والآخر على فلان أو علان بأن يستعجل في تعبئة برميله أو يخرج بحماره من البازان ، فيما كان السيد حمود رحمه الله يجلس بالقرب من تلك الغرفة ليبيع لنا الشاي والقهوة ، وفي يوم الجمعة يتحول إلى جزار لبيع اللحمة ، كنا نشتري منه كل حسب احتياجه ، فمنا من يشتري ربع كيلو ومنا من يشتري ثُمن كيلو وبعضنا من يسر الله عليه كان يشتري نصف كيلو أو كيلو ، والدفع حاله حال السقايين بالدين
وكان بالقرب من السيد حمود يجلس عثمان قبيع الذي اشتهر ببيع وتصليح عربات الحمير ، وهي عبارة عن لوحين خشبيين مشبكين بهما إطاران (كفران) يوضع عليهما برميل الماء ، وكان القبيع يبيع (العربية) الواحدة بما لا يزيد على ريال ، فيما كان سعيد الحضرمي الذي امتهن صناعة وتصليح براميل الماء يجلس في مكان آخر من البازان ليبيع البرميل الواحد بما لا يزيد ولا يقل كثيرا عن 100 ريال ، وكنا نشتري الحمير من حراج البهائم في العيدروس بين 300 – 500 ريال للحمار الواحد
نظام صارم
وكان في البازان سقيفة فيها بعض الأسِرّة المكسَّرة كنا نجلس فوقها أو ننام عليها لحين مجيء دورنا ، وفي كثير من الأحيان كنا نأتي بفطورنا من بيوتنا أو يأتي به إلينا أحد أبنائنا ، ورغم قلته كنا نجتمع حوله ، وكل واحد منا يأكل لقمة منه ويقوم حامدا وشاكرا الله على نعمته ، وإذا حل بنا العيد إرتدينا ملابسنا وصلينا وعايدنا بعضنا البعض ، ثم توجهنا إلى البازان لنعمل ولنعيِّد على شيخنا زقر الذي كان يحتفي بنا والذي كان يجامل بعضنا أحيانا بالسماح له بدخول البازان بعيدا عن أي سِرا لأننا كنا نبادله المجاملة ، ففي بعض الأحيان كان بعض من عليّة القوم يرسلون إليه طالبين الماء ، ومن باب مجاملته لهم كان يرسل إليهم أحدنا ، فالنظام داخل البازان كان نظاما صارما ، فأي سقّا كان يحاول فقط أن يخالف نظام البازان كان شيخ البازان لا يتردد بتاتا في معاقبته وذلك بمنعه من مزاولة العمل لثلاثة أيام متواصلة ، فقد كانت للبازانات أنظمة ، لكن النظام السائد في جميع البازانات والخاص بالسقايين أنه مسموح لكل سقّا ولمرة واحدة تعبئة برميله من أي بازان
ويعود بذاكرته إلى الطريقة التي تم فيها إغلاق البازان إذ يقول : أثناء تنفيذ مشروع تحسين حي السبيل وتحديدا أثناء هدم بعض بيوته لإنشاء كوبري الملك فهد .. عانى حي السبيل في ذلك الوقت من أزمة مياه ، خاصة أن البازانات بدأت تتلاشى ، الأمر الذي جعل المسؤولين يجلبون لنا الماء من عسفان بالوايتات التي كانت تتمركز أمام مركز العقيلي حاليا ، وكانت الناس وعربات الحمير وزفات الماء تقف أمامها بعد أن جف الماء في البازان ، وتصادف في أحد الأيام أن الملك فيصل رحمه الله كان مارا من ذلك الطريق وشاهد ازدحام الناس ، وعلى الفور أصدر أمره الكريم بإيصال الماء إلى كل بيت ومعها الهاتف ، وما هي إلا فترة زمنية حتى تدفقت المياه في كل بيت ومعها رنين الهاتف ، وأصبح البازان تاريخا يحكي قصة جدة
التعب الجميل
علي خليل أحد سكان الحي وبنبرة حزن وحسرة على الماضي وعلى أزمة المياه الحالية قال : رغم المشقة التي كنا نعانيها أثناء احتياجنا للمياه من البازان ، لكنها كانت مشقة جميلة قد يعود جمالها إلى صغر سننا ، وقد يعود إلى إغراءات آبائنا في أن يشتروا لنا الحلوى أو يأخذونا معهم في مشاويرهم إذا ما أحضرنا السقّا إلى البيت ، وقد يعود إلى رغبتنا في ركوب عربة السّقا التي من أجلها كنا نجلس بالساعات في البازان من أجل برميل أو زفة ماء نروي بها عطشنا وعطش بيوتنا ، وكنا سعيدين بذلك ، ورغم شح المياه لم نكن نشتكي مثل هذه الأيام التي لا يخلو بيت في جدة إلا واشتكى من أزمة الماء التي أعتقد أن المسؤولين حاليا يحاولون معالجتها ، لكن أهم شيء عندي الآن أن يعالجوا بازانات جدة التي تعتبر تاريخ مرحلة هامة في جدة ، فمثلا بازان السبيل أتمنى من الجهات المختصة الإهتمام به من خلال المحافظة على ما بقي منه والإشارة إليه في بعض المناسبات لتذكير الأجيال كيف كنا وكيف أصبحنا.
منقول بتصرف
بازان كيلو6 كان قريب من حارتنا
مشرفنا الغالي
موضوع رائع جدآوقيم
الف شكر