- بسم الله الرحمن الرحيم
- المساجد الاندلسية
بسم الله الرحمن الرحيم
المساجد الاندلسية
يعد المسجد الجامع فى قرطبة من أروع الآثار الاسلامية الباقية ، ويبدوا واضحاً أن أيدى الزمن والغالبين لعبت فيه بالتعديل والتحويل ، ويحتل المسجد الجامع رقعة فسيحة من الارض قرب نهر الوادى الكبير ، ويشغل بيت الصلاة ثلثى المساحة ، والثلث الباقى يشكل صحن .مسجد المغروس بأشجار النخيل والليمون
وقد أوجد المسامون المسجد مع دخولهم بلاد الاندلس إذ اتبع الفاتحون مع النصارى سياسة خالد بن الوليد مع أهل ا دمشق ، فشاطر المسامون نصارى قرطبة كنيستهم التى كانت على اسم القديس منصور ( شنتبنتجنت ) جاء فى "البيان المغرب" لان عذارى المراكشى " "لما افتحح المسلمون الاندلس استدلوا بما فعل ابو عبيدة وخالد ، رضى الله عنهما ، عن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، من مشاطرة الوم فى كنائسهم ، مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صالحا . فشاطر أعاجم قرطبة فى كنيستهم العظى التى كانت بداخلها ، .وابتنى المسامون فى ذلك الشطر مسجدا جامعا ، ويبقى الشطر الثانى بأيدى الروم
ولما جاء عبد الرحمن الداخل شاترى القسم الخاص بالمسيحين ، وهدم البناء ورفع بناء جديدا على أنقاض القديم ، وذلك فى حدود عام 170 هجري . ويذكر المقرى السبب الذى حمل الداخل على هذا العمل فيقول فى نفح الطيب : "واقتنع المسلمون بما فى أيديهم ، الى أن كثروا وتزيدت عمارة قرطبة ، ونزلها امراء العرب ، فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة، يستكنون بها، حتى كان الناس يلاقون فى الوصول الى داخل المسجد الأعظم مشقة لتلاحق تلك السقائف، وقصر ابوابها، حتى ما يمكن اكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الارض. ولم يزل المسجد على هذه الصفة الى أن دل الامير عبدالرحمن بن معاوية المروانى الى الانجدلس واستولى على امارتها وسكن دار سلطانها قرطبة. فنظر فى امر الجامع، وذهب الى توسعته واتقان بنائه، فأخضر أعاظم النصارى وسامهم بيع ما بقى باييهم من .كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه
ما عملية البناء فقد جعلها بعضهم فى سنة واخدة، كابن عذارى الذى يقول: "وكان شروع عبدالرحمن الداخل فى هذم الكنيسة وبناء الجامع سنة 169ه، وتم بناؤه وكملت بلاطاته واتملت اسواره سنة 170ه، فذلك مدة من عام كامل" والذى ساعد على سرعة الانجاز أن البنائين أفادوا من بقايا قائمة من الكنيسة، كما جمعوا أعمدة الكنائس المهدمة من اجل اروقة المسجد. اما المقرى صاحب "نفح الطيب" فيرى أن الجامع كمل بالفعل سنة 17-0ه 7850) ولكن العمل به ابتدأ فى مطلع سنة 168ه، فيكون بناؤه استغرق ثلاث سنوات .وليس سنة واحدة
أما أبعاد المسجد من حيث الطول والعرض فقد خدها ابو سعيد البكرى المتوفى سنة 487ه (1094م) فى كتابه "المسالك والمماليك" بقوله: "وكان طول سقف البلاطات من المسجد الجامع، وذلك من القبة الى الجوف، قبل الزيادة، كان مايتين وخمسة وعشرين ذراعاً، والعرض من الشرق الى الغرب مائه ذراع". وكان المسجد مكوناً من تسعة اروقة عمودية على جدار القبلة، والرواق .الاوسط اكثر اتساعاً من بقية الاروقة، وهو الذى يؤدى الى المحراب
وقد أنفق الداخل اموالاً كثيرة لاتمام عمران المسجد واكمال زينته. ولم يقصر عبدالرحمن الداخل اهتمامه على جامع قرطبه، بل إن بعض المؤرخين، كالبكرى والمقرى والمراكشى، يرون ان مساجد .قرطبة بلغت ايام عبدالرحمن الداخل أربعمائه وتسعين مسجداً
فى سنة 172ه (788م) توفى الداخل وخلفه ولده هشام، فبادر الى النظر بامر الجامع وأنشأ منارته الاولى فى ذلك يقول ابن عذارى : "ثم زاد ابنه هشام صومعه بلغ ارتفاعها اربعين ذراعاً الى موضع الاذان، وبنى بأخر المسجد سقائف لصلاة النساء، وأمر ببناء الميضأة بشرقى الجامع". وقد توفى هشام سنة 180ه (796م) فخلفه ابنه الحكم الذى لم يهتم كثيراً بشؤون الجامع، وتوفى سنة 206ه (821م). فتسلم شؤون البلاد عبدالرحمن بن الحكم المعروض بالاوسط، وكان محباً للعمران، مولعاً بتشييد المساجد وإقامة الجسور والقناطر. وقد عمد الاوسط الى هدم الجدار الجنوبى بغية زيادة طول الاروقة ونقل المحراب الى الجدار الجديد، كما .أضاف رواقي
جاء فى "المقتبس" لابن حيان : "كثر الناس بقرطبة أيام عبدالرحمن بن الحكم، وانتابوها من كل أوب، حتى تضايق عنهم مسجد جامعها، واخل كثير منهم بشهود الجمعة: فأمر عند ذلك بتوسيعه والزيادة فيه، ورسم أن يكون ذلك من قبل قبلته ، ما بينها وبين باب المدينة، فعمل بما رسمه. ومد عبدالرحمن زيادته هذه طولاً من موقف حد المسجد الأول الى ناحية القبلة. وكمل عدد أبهاء المسجد أحد عشر بهواً، صير سعة كل بهو من هذين المزيدين تسعة اذرع ونصف. ووصل هذين البهوين المزيدين بسقيفتين ووصلهما من ابوابهما بالسقائق التى قبل بجوف المسجد الاقدم المتسخذة لصلاة النساء، عقد كل سقيفة منها على تسع عشرة سارية، وفتح فى هذين البهوين بابان بسور الشرق والغرب، فكملت .ابواب الجامع السبع
من أمراء الاندلس الذين اهتموا بالسجد الجامع فى قرطبة الامير عبدالله بن محمد، وقد زاد الساباط المعقود على حنايا ، واوصل ما بين قصر الامارة والمسجد الجامع، وهو الذى فتح الى .المقصورة باباً كان يخرج منه الى الصلاة. وكانت وفاة الأمير عبدالله سنة 300ه (912م
مع عبدالرحمن الناصر الذى خلف جده عبدالله وصلت بلاد الاندلس الى ذروة مجدها على الصعد كافة. فيه يقول لسان الدين بن الخطيب فى كتابه "أعمال الأعلام": "لما تمهد ملك الناصر زاد فى المسجد الأعظم الزيادة الهائلة". وجاء فى كتاب "نفح الطيب" أن الناصر "أمر بهدم الصومعة الاولى سنة 340ه (951م) واقام الصومعة البديعة وكان الاولى ذات مطلع واحد فصير لها مطلعين فصل بينهما البناء فلا يلتقى الراقون فيها الا بأعلاها وخبر هذه الصومعة مشهور فى الاندلس، وفى روتها ثلاث رومانات ملصقة بالسفود، وكان تمام هذه الصومعة فى ثلاثة .عشر شهراً
هذه المئذنة حولها الاسبان، فيما بعد، الى برج للاجراس، واخر معهدها بالاذان كان سنة 25ه (1236م) فضلاً عن ذلك بنى الناصر الواجهة الشمالية الرازة باعمدتها وقناطرها التى جعلها على شكل نعل الفرس وقد خا الناصر من انهيار الجدار الشمالى الذى بدأ فيه العيب، فجاءت الواجهة الجديدة تدعم البناء وتزيته. بعد وفاة الناصر عام 350ه (962م) تسلم شؤون الخلافة ولده الحكم المستنصر بالله الذى أكمل سيرة أبيه، واشتهر بحبه العلم، فجمع من الكتب ما يصعب .عدها. واهتم بالمسجد الجامع فى قرطبه فأضاف زيادات كبيرة ضاعفت عمرانه وزادت جماله
يقول ابن عذارى المراكشى : ".. وافتتح خلافته بالنزر فىلا فى الزيادة فى المسجد الجامع بقرطبه. وكان قطر قرطبه قد كثر به الناس، فضاق الجامع عن حملهم ونالهم التعب فى ازدحامهم، فسارع المستنصر الى الزيادة فيه، واحضر لها الاشياخ والمهندسين، فحدوا هذه الزيادة من قبله المسجد الى أخر الفضاء مادا بالطول لاحد عشر رواقاً وكان طول الزيادة من الشمال الى .الجنوب خمسة وتسعين ذراعاً
وأنشأ الحكم المستنصر محراباً هو الثالث فى جامع قرطبه، وفيه يقول المقرى : "والجامع الى ليس فى معمور الارض مثله، فيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر اح على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجه المحراب سبع قسى قائمة على عمد، طول كل قوس فوق القامة، قد تخير الروم والمسلمون من حسن وضعها، وفى عضادتى .المحراب أربعة اعمدة، اثنان لازورديان، وليس لها قيمة لنفاستها، وبه منبر ليس على معمور الارض أنفس منه ولا مله فى حسن صنعته". فوق المنبر شيدت قبة فخمة زخرفت بالفسيفساء الجميلة. وارسل الامبراطور البيزنطى الدين رومانوس الثانى خبراء بوضع الفسيفساء لتعليم المسلمين هذه الحرفة الفنية، ويخبرنا لسان الدين ان المستنصر زين الجامع بالفسيفساء المجتلبة من قبل ملك القسطنطينية مع الصناع المحكمين لذلك، محاذياً بفعله ما حققه الوليد بن .عبدالملك فى مسجد دمشق
أما الكتابات التى تزين واجهة المحراب فبعضها يصعب فهمه، ومما كتب الاية السادسة من سورة "السجدة" (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) ومن الكتابات : "موقف الامام المستنصر بالله عبدالله الحكم أمير المؤمنين أصلحه الله). كما نقرأ نص الاية 23 من سورة "الحشر" : (هو الله لا اه الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) ومن أعمال الحكم المستنصر فى جامع قرطبة مد قنوات المياه الى السقايات .والميضآت التى أحدثها
وقد أوصل الماء الى المسجد عبر قناة مدها من سفح جبل العروس قرب قرطبه كما أنشا الحكم عدداً من المقاصير، منها مقصورة "دار الصدفة" غربى الجامع، وقد جعلهما مركزاً لتوزيع الصدقات ، ومقصورة أخرى قبالة الباب الغربى كان الفقراء يتخذونها مسكناً لهم. عدا الزيادات التى ذكرنا فإن هذا الخليفة جعل من مسجد قرطبة داراً للعلم قصدرها الطلاب والعلماء من مختل املل والنحل. وفى "جامعة قرطبة" كما يسميها المستشرق "دوزى" اشتهرت اسماء كثيرة، منها .أبو بكر بن معاوية القرشى وأبو على القالى وابن القوطية
بعد وفاة الحكم المستنصر، أو الحكم الثانى، تسلم الخلافة ولده خشام بمساعدة الحاجب المنصور ابن ابى عامر الذى استأثر بالسلطة واصبح الحاكم الفعلى الوحيد، بعدما أفرد الخليفة من كل شىء، إلا من الاسم الخلافى. وقد أولى المصور جامع قرطبة اهتماماً ، وقرر توسيعه بعدما لاحظ أن المؤمنين يؤدون فريضتهم بصعوبة أيان الجمع بسبب الازدخام، وزيادة المنصور هى الاخيرة فى المسجد الجامع بقرطبة. فقد هدم الجدر الشرقى وأعاد بناءه بعد اضافة ثمانية اورقة جديدة مع قناطرها. جاء فى "نفح الطيب" للمقرى : "وزاد محمد بن ابى عامر فى عرضه من جهة الشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض مائتى ذراع وثلاثين ذراعاً، وزاد ابن ابى عامر ثمانية عرض كل واحدة عشرة أذرع" . كما وسع المنصور صحن المسجد الكشوف بما يعادل .ثلث المساحة وأحاط الكل بسور عظيم فيه سبعة عشر باباً،
هذا الصحن المكشوف هو اليوم رحبة تعرف باسم "فناء النارنج" وقد زرع هذا الشجر زمن المنصور، وما زال "النارنج" أو "الليمون" قائماً حتى اليوم. الا ان السلطات الاسبانية أعادت تنظيم هذا الشجر ونسقته بحسب الاسلوب العصرى واضافت اليه عدداً ن أشجار النخيل، كما جعلت فى ارجاء الفناء عدداً من التوافير. وفضلاً عن ذلك بنى المنصور فى وسط الفناء، تحت الميضأة، خزاناً كبيراً من تسعة أقبية تقوم على اربعة أعمدة وأثنى عشر قوساً، وما .زالت أثار هذا الخزان، أو الصهريج، معروفة حتى اليوم
ثم إن المنصور زين المسجد الجامع بعدد من الثريات بلغت مائتين واربع وعشرين ثرياً، منها اربع ثريات كبيرة علقت فى البلاط الاوسط، واكبرها علقت فى القبة الكبرى حيال المقصورة. واليوم يبدو المسجد الجامع فى قرطبة مرتفعاً فوق غابة من الاعمدة مع قناطر بشكل نصف دائرة، والتعديلات التى أجريت على البناء جعلته ذا مساحة كبيرة يبدو معها .سقف المسجد قليل الارتفاع
ثم إن عدم تماسك أجزاء الاروقة حمل المسؤولين على اضافة قناطر جديدة ركزت فوق اعمدة اقل ضخمة من الاولى/ اما المزينات داخل المسجد فقد كانت بسيطة حتى عهد الحكم الثانى المستنصر الذى أغنى المسجد بالزخارف، كما قنا، وهذا ما أعطاه طابع العظمة. يصف المؤرخ الأسبانى، "ريكاردو مورينا" صحن المسجد وبيت الصلاة فيقول : "لدى ولوجنا المسجد من باحة البرتقال تنبسط أمانا دفعة واحدة أورقة المسجد، فيعترينا شعور بأننا أمام غابة مظلمة متشابكة الاغصان متداخلة الفروع. وتمر أمامنا اعمدة من المرمر الملون على رأسها تتدلى الأزهار المنقوشة تيجانا للأعمدة، وفوقها النقاطر ذات اللونين الابيض والوردى، وبين الظلال تسبح فى ارجاء المسجد أنور سحرية تدعو الى التأمل والصلاة". وجاء فى كتاب "تاريخ العرب" للمؤرخ حتى : "يدعم سقف المسد ألف ومئتان وثلاثة وتسعون عموداً لها مظهر غابة كثيفة .الاشجار
وأنير فضاء المسد بأضوء تتألق من ثريات نحاسية ، منها واحدة كان يوقد فيها الف مصباح". ذكرنا ان المسجد الجامع فى قرطبة جعل داراً للعلم ، فيه تقام حلقات الحديث والادب واللغة والعلوم الطبية والطبيعية والرياضية والفلكية والكيميائية، ما جعل داراً للعل أيام الامويين. وفى حرم هذا المسجد كانت تتم مرسام اخذ البيعة الجماعية للأمراء والخلفاء، بحضور كبار المسؤولين. فهندما توفى الامير عبدالله بن محمد فى ربيع الاول من سنة 300ه (912م) جلس حفيده عبدالرحمن بقصر قرطبه ليبايعه أهل البيت الاموى ووجوه البلاد . ثم انتقل الى .المسجد الجامع لتلقى البيعة من ابناء قرطبة والاقطار
عندما وقعت قرطبه بيد الاسبان (1236م) حول المسجد الى كاتدرائية مدة من الزمن. ويدهش الزائر عندما يرى مذبح الكنيسة مدسوساً بين الاعمدة. والجدير بالذكر أن الأمبراطور "كارلوس الاول" الذى أمر ببناء المذبح ندم فيما بعد عما ما أجراه من تعديلات داخل المسجد. وما يزال المسجد يحتفظ اليوم بميزاته الاصلية وفتنته الأخاذه. ولدى دخولنا المسجد وتغلغلنا عبر غابة الاعمدة يسمرنا السكون ويعترينا شعور خاص نتخيل معه جماعة المصلين يدخلون حفاة بملاءاتهم البيضاء. إن قرطبة المسلمة ما تزال حية داخل مسجدها أكثر من أى مكان آخر
أبدعت سواء كان من قولك أو منقولك
ليس لدي إلا أن أرفق هذه الصور
مودتي وإحترامي