1. علي أرضها يتحقق التسامح بين الأديان


2. مصر القديمة‏..‏ عاصمة الحب والإخاء

علي أرضها يتحقق التسامح بين الأديان

مصر القديمة‏..‏ عاصمة الحب والإخاء

لو أنصف البشر لوضعوا مصر في عيونهم‏,‏ لعشقوا ترابها‏,‏ وجعلوها قبلة لأرواحهم‏,‏ ليس فقط لأنها أم الدنيا وأرض الحضارات وتراث الإنسانية الأول‏,‏ وإنما لأنها أيضا أرض النور ودفء الروح ومنتجع القلب‏,‏ ففي بقعة صغيرة منها تقع عاصمة الحب مصر القديمة حيث تتحقق في جمال وسلام رائع صور التسامح بين الأديان في بقعة صغيرة مليئة بالضياء لا تزيد مساحتها علي كيلومتر مربع‏.‏
تراث مصر شاء أن يحقق التسامح والمحبة بهذا الشكل‏,‏ حيث يلتقي معالم الأديان السماوية الثلاثة‏:‏ الإسلام والمسيحية واليهودية‏,‏ جامع عمرو بن العاص أقدم مسجد في مصر وإفريقيا والكنيسة المعلقة أقدم كنائس الدنيا‏,‏ ومعبد بن عزرا اليهودي‏.‏
يطل علي الزائر لتلك المنطقة عبق التاريخ وأنفاس الأجداد في بانوراما منقطعة النظير‏,‏ تعشقها أقدام من يخطو فوق ترابها لتلامس نظرته جامع عمرو بن العاص‏,‏ فاتح مصر في عام‏21‏ هجرية‏.‏ وكان أول فسطاط يقام فوق هذه الأرض‏,‏ أول خيمة عربية لقائد مسلم جاء ليقهر الجبروت الروماني الذي يستعبد الناس وينهب ثروات بلادهم وأحلام أطفالهم بغد جميل‏.‏
الدخول إلي جامع عمرو يستدعي ذكريات الأمجاد والبطولات والعدل في الأرض وحلقات العلم حيث كان جامع عمرو يسمي جامعة الفسطاط يتلقي فيه الطلاب العلوم الشرعية وقد كان الإمام الشافعي أحد هؤلاء الأساتذة‏.‏
وتنقلنا الأقدام إلي حصن بابليون‏,‏ ذلك الحصن المنيع الذي حال بين دخول جنود المسلمين إلي المدينة ستة أشهر انتظرها عمرو بن العاص حتي يتراجع ماء النيل‏,‏ وقد كان النيل فيما مضي يتصل بأحد فروعه إلي المنطقة‏.‏
وكانت حيلة عمرو بن العاص الشهير بالحيل الذكية حتي أسماه الخليفة العادل عمر بن الخطاب أرطبون العرب تشبيها بالقائد الداهية أرطبون الروماني‏,‏ وكان هجوم العرب المباغت لقادة الرومان داخل الحصن‏,‏ لتدخل مصر في عصر جديد وفتح جديد ونور جديد‏.‏ وإلي جوار الحصن تقع الكنيسة المعلقة أقدم كنائس الدنيا وسميت بهذا الاسم لأنها بنيت فوق أحد اسطوانات الحصن علي ارتفاع‏13‏ مترا من سطح الأرض‏,‏ والطريف أن هذه الكنيسة كانت معبدا فرعونيا‏,‏ ثم قام الإمبراطور‏(‏ تراجان‏)‏ في عام‏80‏ ميلادية بإنشاء حصن بابيلون علي أجزاء من هذا المعبد ثم شيد الرومان هذا المبني‏(‏ الكنيسة‏)‏ واستخدم جزء منه في العبادة الوثنية وعندما انتشرت المسيحية تعبد الرومان في هذا المكان حيث تحول إلي كنيسة رومانية وبعد خروج الرومان علي يد المسلمين تحول إلي كنيسة قبطية مصرية‏,‏ ومن هنا يأتي القول إن الكنيسة المعلقة سابقة في بنائها لمجيء المسيحية كما تعد أقدم كنيسة في الدنيا لاتزال تقام بها الشعائر الدينية‏.‏ وتسير بنا الأقدام إلي كنيسة مارجرجس ذلك القديس الشهيد الذي لاقي من العذاب ما يفوق احتمال البشر‏,‏ ويقع دير مارجرجس أسفل الكنيسة حيث كان يعيش القديس ويلقي العظات ومازالت حتي الآن الرموز الحديدية التي كان يوثق بها القديس‏,‏ حزام حديدي حول الرقبة وآخر حول الوسط‏,‏ يتخذه مرتادو الدير للتبرك به والشفاء من الأمراض بعد أن يوقدوا الشموع علي روح صاحبه‏.‏
وفي شوارع ضيقة أمام الدير تقع عدة كنائس أشهرها كنيسة أبي سرجة وفيها المغارة التي اختبئت فيها العائلة المقدسة هربا من بطش الرومان وملاحقتهم للسيد المسيح كي يقتلوه‏.‏
الآن يمكن للزائر أن يري المغارة كما كانت لتتلاحم أنفاسه مع المكان الذي آوي إليه السيد المسيح والسيدة العذراء مريم أم النور كما ترشد بذلك اللافتات المضيئة والمجسمات التي يمتليء بها الشارع الصغير المليء بالروح والأمن والسكينة وتتجاور الكنائس لتطل كنيسة القديسة بربارة بعبقها الرائع الجميل وكأن الزمان قد استدار كهيئته القديمة ليشعر الزائر بأنه يعيش في نفس الزمن القديم‏.‏ وتمتد الرحلة إلي معبد بن عزرا الملاصق للكنيسة المعلقة من الناحية القبلية‏,‏ ولإنشاء هذا المعبد حكاية‏,‏ فهذا المعبد القديم يمثل التاريخ اليهودي في مصر حيث تزعم المخطوطات اليهودية أن سيدنا موسي عليه السلام وقف هنا في هذا المكان يتعبد إلي الله ويتخذه مكانا دائما للعبادة‏,‏ بل أكثر من ذلك تزعم الأساطير اليهودية أن آسيا امرأة فرعون قد عثرت علي الصندوق الذي وضع فيه سيدنا موسي وهو طفل لينجو من قتل فرعون له في هذا المكان حيث كان النيل يمر بهذه المنطقة‏.‏ وكان هذا المكان فيما قبل كنيسة صغيرة تسمي كنيسة القديس ميخائيل وهي جزء من الكنيسة المعلقة حتي قدم إلي مصر الراهب اليهودي إبراهام بن عزرا في عام‏882‏ م وتمكن من شراء الكنيسة وحول المبني إلي معبد يحمل اسمه حتي الآن‏.‏
والمعبد مكون من طابقين‏,‏ الطابق الأرضي مكان الصلاة‏,‏ والطابق العلوي مجموعة من الحجرات بها حجرة مقدسة تسمي الجينيزاه كانت بها وثائق يهودية نقلها عالم اليهوديات البروفسور‏(‏ شخطر‏)‏ إلي خارج مصر‏,‏ وحتي يكتمل المشهد روعة وجلالا فلابد من زيارة المتحف القبطي الذي يشهد الآن إعادة ترميم وتجديد‏,‏ وتعود أهميته إلي كونه مؤسسة حضارية تحفظ وتوثق التراث القبطي‏,‏ فقد أنشيء هذا المتحف في عام‏1908‏ كمتحف يتبع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية‏,‏ وقد قام بإنشائه سميكة باشا بدعم من البطريك كرولوس الخامس‏,‏ والمتحف لا يشكل تراثا قبطيا فقط وإنما هو رمز حضارة مصر وعنوان تسامحها ومحبتها‏.‏
يحق لنا قبل المغادرة أن نذكر عادات بعض المصريين الغريبة‏,‏ ففي الوقت الذي يرسل فيه أصحاب الشكاوي والتظلمات الرسائل للإمام الشافعي حتي يتدخل لحل مشاكلهم‏!!‏ نري نفس الشيء في دير مارجرجس حيث خصص صندوق مغلف بالقطيفة الحمراء الداكنة‏(‏ النبيتي‏)‏ لوضع رسائل المحتاجين ومن يشكون هموما مادية ومعنوية‏,‏ ومن الطريف أن الدير لا يقتصر علي الزوار الأقباط فقط بل إن عددا كثيرا من زواره من المسلمين ليس فقط بدافع التعرف علي التراث القبطي في كنائس مصر القديمة السبع وإنما لما يعتقدونه عن الراحة الروحية التي يحفل بها المكان الذي اقتطع من التاريخ رائحته وأنفاس الحجارة والجدران والرسومات والأيقونات المعلقة فوق الحوائط‏.,‏ إنها عادات مرفوضة ولا تتفق مع تقاليد الأديان الثلاث‏,‏ ولكنها موروثة من الماضي وتعتبر جزءا من التراث الشعبي بما فيه من معتقدات خاطئة‏.‏ أيضا نذهب إلي مسجد عمرو بن العاص لنري أسماء عديدة لأشخاص كثيرين فوق أعمدته الرخامية‏,‏ وخاصة في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان حيث تقول الأسطورة الشعبية إن هذه الأعمدة تطير في الليلة الأخيرة من الشهر الفضيل وتوصل هذه الأسماء إلي باب الجنة‏,‏ ذلك هو النسيج المصري‏,‏ التلاحم في الحب والدفء والسلام والخرافة والأساطير أيضا‏ .
منقول