- عراقة وآثار خالدة
- ماربورغ . . . مدينة الفلاسفة والتاريخ
ماربورغ، اسم لامع في عالم العلم والعلماء، واليوم واحدة من أحب وأجمل المدن الجامعية للطلبة الألمان والأجانب على السواء. رائحة الاصالة والعراقة بين جدران أبنيتها القديمة، وآثار الحداثة والرقي في معاهدها وجامعتها.
دقائق معدودة وتحط الطائرة في مطار فرانكفزرت. غمام أسود يحتل صفحة السماء، وخوف يضطرم في الأعماق. أول مرة تطأ قدماه أرض ألمانيا. والآن إلى أين أيتها القدم الغبية؟ كلمات هاينريش هاينه تتردد في أعماقه. أمل واحد يداعب رأسه، أمل الإلتقاء بصديقه محمد الذي أنفق رفقته سنوات التحصيل العلمي في البلد. وصل قبل سنة الى المانيا من أجل اتمام دراسته في جامعة ماربورغ الشهيرة. لم يخب أمله، فها هو محمد يسرع في اتجاهه وفرحة عارمة تعتلي ملامحه.
يستقلان القطار باتجاه ماربورغ. ومن خلف زجاج نافذة القطار تبدت فرانكفورت مثل عروس فاتنة بأضواءها المختلفة الألوان وبناياتها التي تخترق السحاب. تنقضي ساعة زمن قبل أن يتوقف القطار بمحطة ماربورغ. محطة صغيرة ومكتئبة الملامح بعكس محطة فرانكفورت المشتعلة حركة وضجيجا. غدا صباحا تتفرج على المدينة. سوف تعجب بها لا ريب! نبس محمد، وتابع: غدا تتعرف على المدينة الحمراء! هكذا كانت الصحافة تسمي ماربورغ قبل الوحدة الألمانية، بسبب قوة الحركة اليسارية فيها، هذه الحركة التي كان يتزعمها في الستينيات المفكر الماركسي الكبير فولفغانغ آبندروث.
عراقة وآثار خالدة
أول ما يلفت انتباه زائر ماربورغ كنيسة إيليزابيث التي تبعد خطوات عن المحطة. وهي بناية من الفن القوطي بنتها القديسة إيليزابيث (1207 1231) التي لم يكتشف حتى اليوم سبب موتها وهي بعد في سن الرابعة والعشرين. والقديسة ايليزابيث هي بنت ملك هنغاريا آندرياس الثاني، تزوجت في سن الرابعة عشرة من حاكم ثورينغن، واضطرت بعد وفاته للرحيل إلى ماربورغ، حيث أسست الدير الفرنسيسكاني ورهنت حياتها القصيرة لخدمته. أما قلعة ماربورغ الشهيرة
التي تطل على المدينة، والتي يحج السياح كل صيف لزيارتها فقد تم بناءها في القرن التاسع الميلادي، وظلت إلى بداية القرن العشرين مقرا للأمراء الألمان. وقد اجتمعت في هذه القلعة أسماء شهيرة في ميادين السياسة والثقافة والفن، نذكر منها الإخوة غريم والفيلسوف برنتانو والفقيه القانوني الكبير سافيني، مؤسسو ما كان يسمى بجماعة الرومانسيين. كما أنه لا بد من التنويه بلقاء مهم وقع داخل القلعة بين المصلح الديني مارثن لوثر وتسفنغلي، وهو لقاء سيغير الخريطة الدينية والسياسية لأوروبا. مارثن لوثر اضطر بسبب أفكاره الإصلاحية للاختفاء في ماربورغ بعيدا عن جواسيس البابا الذين كانوا يقتفون أثره. لكن ماربورغ فقدت فيما بعد طابعها الديني نهائيا، وهي المدينة التي تأسست فيها أول جامعة بروتستانتية في أوروبا، مع دخول جيوش نابليون إلى ألمانيا وبداية سياسة العلمنة أو الدنيوة التي انتهجها نابليون وبشرت بها مبادئ الثورة الفرنسية. وقد حكم أحد إخوة نابليون (جيروم نابليون) منطقة هيسن من سنة 1807 حتى سنة 1813، وخلال فترة حكمه تم إدخال إصلاحات قانونية وسياسية كثيرة، يعتبرها المؤرخون الألمان أول ضربة حقيقية تعرض لها نظام القيم البروسي المحافظ.
ماربورغ . . . مدينة الفلاسفة والتاريخ
الطريق إلى الجامعة يمر بمحاذاة نهر اللان، وهو نهر صغير يقسم ماربورغ إلى قسمين، وتسبح فيه أنواع مختلفة من البط. كل شيء أخضر في ماربورغ، والأشجار تتشابك أغصانها كأنغام سمفونية كلاسيكية. على هذا الطريق مر الكثيرون من عباقرة القرن العشرين. قال محمد، وتابع: على رأسهم مارتن هايدغر صاحب أعظم كتاب حول الوجود. لكن لا يجب أن ننسى هرمان كوهين مؤسس مدرسة ماربورغ الفلسفية الشهيرة. المدرسة التي بفضلها ذاع صيت المدينة في بدايات القرن العشرين. لكن أغرب ما سيثير انتباهه ، وخصوصا في مركز أرشيف المدينة الذي سيرافقه محمد إليه، هي تلك الوثائق التي تتحدث عن تاريخ ماربورغ خلال الحرب العالمية الثانية، وخصوصا تحرير ماربورغ من براثن النازية
من طرف جنود مغاربة. من هنا مروا إذن أولئك الجنود الذين صنعوا مجد فرنسا العسكري، القادمون من كل صوب وحدب، أولئك الذين كانوا يحتلون الصفوف الأمامية للجيش الفرنسي، المتخصصون في المعارك الجبلية. من هنا مروا أولئك الذي نعتهم بريشت بعيد الحرب العالمية الأولى خلال إستعراضهم العسكري في مدينة فيزبادن بالبرابرة. إنهم إذن أولئك البرابرة من سيحررون بعد عقدين من الزمن هذه المدينة مثل مدن أخرى في المانيا وفرنسا وايطاليا من براثن الفاشية. لم تتبق منهم سوى أوراق تعبق برائحة الغبار في أرشيف المدينة، وحكايات ترددها العجائز عن طيبتهم، وقرية غير بعيدة عن ماربورغ يطلق عليها الألمان في سخرية اسم: ماروكدورف (قرية المغاربة)، بسبب بشرة أبناءها القريبة من السمرة!
رشيد بوطيب
قلعة ماربورغ
طريقة بناء تقليدية بالخشب
واذا عندك