- ثم يكرر الصوت الكلام نفسه باللغة الفرنسية.
- القطار عويطة
تذكرة الدرجة الأولى من الرباط إلى الدار البيضاء بخمسة دولارات وتذكرة الدرجة الثانية بثلاثة دولارات
يقول ذلك الصوت النسائي "القطار القادم من (لحظة صمت) القنيطرة... والمتوجه الى ... سلا.. الرباط المدينة.. الرباط اكدال.. تمارة.. بوزنيقة.. المحمدية.. عين السبع.. الدار البيضاء الميناء، يدخل المحطة بعد قليل (لحظة صمت)... الدرجة الاولى في مؤخرة القطار (لحظة صمت)...ابتعدوا من جانب الرصيف من فضلكم (لحظة الصمت)...دقيقة الوقوف (هكذا بالالف واللام).
ثم يكرر الصوت الكلام نفسه باللغة الفرنسية.
بعد ذلك يبدأ مشهد مألوف لدى كل من يستعمل هذا القطار. نساء ورجال، شبان وصبايا يقفون قرب أبواب عربات القطار ينتظرون "المسافرين" الذي ينزلون في المحطة وسرعان ما يقفز الشبان والصبايا نحو العربات ويتمهل الكبار. ويتحرك المسنون ببطء. الجميع يصعدون الى حيث توجد مقاعد مريحة سواء في الدرجة الثانية أو الاولى. ويتحولون هم الى "مسافرين".
ثمة اختلاف بين الدرجتين الأولى والثانية. مقاعد الدرجة الاولى غطيت بثوب أخضر ناعم الملمس وهي أكبر وأكثر راحة. كتبت على قطعة قماش وضعت بعناية فوق أعلى المقعد عبارة تقول "طموحنا إرضاؤكم".
مقاعد الدرجة الثانية غطيت بجلد والمقاعد ايضاً مريحة لكن يبدو ان مؤسسة السكك الحديدية المغربية لا تكترث كثيراً بإرضاء اصحاب هذه الدرجة لذلك اختفت من على المقاعد عبارة "طموحنا إرضاؤكم".
لعلهم في المؤسسة يعرفون ان الناس في كل الاحوال سيستعملون القطار، او ربما لتبرر المؤسسة فارق السعر بين الدرجتين. سعر تذكرة الدرجة الاولى من الرباط الى الدار البيضاء 50 درهماً (حوالي خمسة دولارات ) وسعر تذكرة الدرجة الثانية 30 درهماً (حوالي ثلاثة دولارات). ركاب الدرجتين يختلفون. عادة ما يستعمل الدرجة الاولى رجال اعمال وموظفون سامون ونواب برلمانيون وبعض السياح ونساء وفتيات من الشرائح المقتدرة.
تبدو آثار النعمة والرخاء واضحة على ركاب الدرجة الاولى. الرجال أنيقون، يحملون حقائب جلدية نظيفة يرتدون ربطات عنق جميلة وقمصان من آخر الموديلات أحذيتهم تلمع. النساء يرتدين ملابس ملفتة وجذابة تفوح نواصيهم برائحة عطر فواح. أما ركاب الدرجة الثانية فهم باقي "الشعوب".
في بعض الأحيان يصعد الى الدرجة الاولى بعض الركاب من "الغلابة"، من سحناتهم يتضح انهم ضلوا طريقهم الى الدرجة الاولى. حين يأتي الجابي (الكمساري) يخاطبهم بجملة عامية يحفظها عن ظهر قلب "آ الشريف هذه الدرجة الاولى الدرجة الثانية لقدام (الى الامام)". واذا لاحظ الجابي أن مظهر الراكب الذي ضل طريقه للدرجة الاولى معقولاً يسأله ما اذا كان قادراً على دفع الفرق وهو في حدود 21 درهماً بين الرباط والدار البيضاء.
في بعض الاحيان يدفع الراكب الفرق منعاً للاحراج وفي كثير من الاحيان يطأطئ رأسه وينتقل للدرجة الثانية. وبعض المناكفين يقولون للجابي بان الدرجة الثانية مزدحمة ولا يوجد فيها مقعد فارغ، فيرد الجابي بحدة: لكن هذا لا يبرر لك البقاء هنا. يتحرك المناكف وهو يطنطن بعبارات غاضبة وغير مفهومة.
ينشغل ركاب هذه القطارات بخمسة أشياء:المتعبون يغطون في نوم متوتر خصوصاً أولئك الذي يستيقظون مبكراً للانتقال من الرباط الى الدار البيضاء او العكس.
المتعلمون ينهمكون إما في قراءة الصحف أو في مراجعة بعض الملفات، وبعضهم يستعمل الكومبيوترات المحمولة لكتابة رسالة أو مراجعة وثائق.
الحالمون أو المهمومون يسرح بصرهم عبر نافذة القطار خصوصاً في مثل هذه الايام يتأملون الروابي الخضراء المنبسطة، ومنظر الابقار والخراف والشياه التي ترعى في تلك الحقول، أو الصبية وهم يركضون نحو مدرسة القرية أو يخترقون الحقول في طريق العودة الى مداشرهم.
الثرثارون يتحدثون طوال الرحلة وهي في حدود 55 دقيقة بين الرباط والدار البيضاء في هواتفهم الجوالة (النقالة) واحياناً ينفلت لسانهم ولا يشعرون بانهم في قطار فيقولون لمخاطبهم مثلاً "ضروري جداً تكذب عليه لا يوجد أمامك حل.
الفضوليون يجول بصرهم بين الركاب يتفحصون وجوههم ويتأملون ملامحهم وحين يتعلق الأمر بفتاة فإن فترة التأمل تطول خصوصاً اذا كانت هناك أشياء مغرية يصعب تجاهلها.
ولعل من الأمور اللافتة في هذا القطار ان الصمت هو القاعدة والحديث حتى ذلك الخافت هو الاستثناء.
في القطار السريع حكايات وحكايات. صداقات نشأت داخله. صفقات تمت في عرباته . علاقات توطدت في ممراته، زيجات تمت بسببه.
كثيرون باتوا يعرفون بعضهم بعضاً بسبب هذا القطار الذي عادة ما يركبه مسافرون وهم لا يحملون حقائب معهم باستثناء حقائب جلدية صغيرة. بعض المسافرين نقلوا المقهى الى القطار فراحوا يلعبون الورق لتزجية الوقت، الجباة يعرفون معظم المسافرين، وباعة المشروبات والساندوتشات الذين يتجولون بها بين العربات يعرفون كذلك كثيرين الى حد أنهم يعرفون من الذي يحتسي القهوة ممزوجة بالحليب أو تلك التي تحتسيها بدون سكر، او الذي اعتاد ان يشتري زجاجة ماء بارد ويعتذر في كل مرة لانه نسى حافظة نقوده في المنزل.
القطار عويطة
في صيف عام 1984 انطلقت خدمات هذا القطار، وبدأت الانطلاقة بعشرة قطارات لتصل حالياً الى 58 قطاراً، تسير في الاتجاهين بين الرباط والدار البيضاء كل نصف ساعة. ولعل من المفارقات ان المهندس الذي كان وراء فكرة إطلاق هذه الخدمة المتميزة ويدعى يوسف ازواوي توفي في حادث سير (مروري) بين الرباط والدار البيضاء وهو لا يزال في ريعان الشباب. كان ازواوي هو الذي قاد بنفسه أول قطار بين الدار البيضاء والرباط. ومن بين الذين يقودون هذه القطارات حالياً سبع فتيات.
وتزامن انطلاق خدمات هذه القطارات مع انطلاق سعيد عويطة العداء المغربي في المضمار العالمي وهو يحصد الارقام القياسية واحداً تلو الآخر.
وبما ان القطار السريع كان يجري كذلك بسرعة قياسية تصل الى 160 كيلومتراً في الساعة، فان المخيلة الشعبية التقطت العلاقة بين "البطل والقطار" فأطلق الناس على القطار اسم "عويطة".
في تلك السنة التي انطلق فيها القطار ألقى العاهل المغربي الملك الحسن الثاني خطاباً يقول فيه "شعبي العزير لقد اطلقتم على القطار السريع اسم عويطة فليكن الأمر كذلك". واعتبرت اشارة الملك تزكية رسمية للاسم.
لكن بعد مضي سنوات طويلة لم يعد اسم عويطة متداولاً كما كان في السابق، واصبح الناس يختصرون الأمر فيقولون "التران" وهو تحريف لاسم القطار بالفرنسية، والذين تعجبهم العربية يقولون "القطار المكوكي" والذين يستهويهم التدقيق يقولون "القطار المكوكي السريع".
الناس كادوا ان ينسوا الاسم الاول، وعويطة نفسه ترك المغرب وهاجر الى استراليا. هكذا هو الزمن بعض الاشياء لا يعاملها بحنو.
في الآونة الاخيرة بادرت مؤسسة السكك الحديدية الى ادخال خدمات جديدة شملت هذه المرة خدمة تسمى "درجة زائد" لكن هذه الخدمة لم تصل بعد "قطار عويطة"، وهي خدمة تقدم للمسافرين المقتدرين الذين يتنقلون بين الدار البيضاء ومراكش وفاس وطنجة.
هذه الخدمة عبارة عن مقصورة خاصة يجلس فيها مسافر واحد بين الورود والصحف وقد فرشت أرضية المقصورة بالسجاد ، وخلال الرحلة تقدم له وجبات يتراوح سعرها ما بين 80و 250 درهماً، أما المقصورة نفسها فيتراوح سعرها بين 500 و 700 درهم.
ولا يعرف ما اذا كانت هذه الخدمة ستشمل القطارات السريعة بين الرباط والدار البيضاء. على صعيد تحسين الخدمات يقول مصدر في مؤسسة السكك الحديدية ان تغيرات ستطال موقعها على شبكة الانترنت، بحيث تتم الاشارة ابتداء من اول ديسمبر (كانون الاول) الجاري الى مواعيد القطارات المتأخرة مع امكانية الحجز في أي قطار عن طريق الموقع. الذين يستعملون القطار "عويطة" لا يأبهون بهذه التفاصيل لانهم يحفظون عن ظهر قلب مواعيد القطارات السريعة.
انهم يهرولون يومياً بلا حقائب في ذهابهم ومجيئهم عبر هذا القطار الفريد في كل شيء.
يقول الجباة عن انطلاقته من كل محطة "مرحباً بكم على متن هذا القطار
ياله من قطار".
منقول للفائدة
المغترب
اخوي /// المغترب
موضوع رائع ومفيد
وتحياتي