- مدابغ فاس الجلدية.. أحد أهم رموز المدينة المغربية
- هل هي في طريقها للزوال؟
مدابغ فاس الجلدية.. أحد أهم رموز المدينة المغربية
هل هي في طريقها للزوال؟
لرائحة مدابغ مدينة فاس المغربية سحر خاص يستوقف الزائر ويخرجه من سراديب المدينة العتيقة إلى فضاء أرحب لا يخلو من غرابة، فالعديد من العاملين لا يرتدون غير ملابسهم الداخلية، ويتجلون بنشاط بين الأحواض المائية التي تبدو من أعلى، تماما، مثل خلية نحل. ولا تثير الرائحة القوية، وطريقة لباس العمال وجداول الماء المنتشرة على طول أرضية المدبغة، غير الوافدين لأول مرة إلى المدبغة التي مثلت دائما احد أهم رموز المدينة.
وتشبه مدابغ فاس خلية نحل التي يعرف كل فرد فيها، بحكم المراس، ما يجب أن يقوم به ويؤديه بطريقة ميكانيكية بعدما يرمي جسده داخل أحواض مائية مليئة بالجلود التي ستصبح بعد شهور أحذية وسترات جلدية ومحفظات يجدها المرء معروضة للبيع في مختلف المدن المغربية. في مدخل مدبغة « مشوارة»، وسط المدينة العتيقة، كان مجموعة من الشبان يمشون بملابسهم الداخلية فقط، وهو منظر معتاد داخل المدابغ التي لا تلج إليها النساء إلا نادرا، فباستثناء بعض السياح، الذين يغريهم منظر المدابغ التي طالما سمعوا عنها عبر ما تواتر من روايات، لا يقترب سكان فاس منها إلا نادرا.
كان الطاهر داخل، يدوس الجلود برجليه في حوض مائي، وهو منغمس في حديث ثنائي مع زميله محمد، يسليان نفسيهما بالحديث في أمورهما اليومية لدفع الملل الذي قد ينتج عن العمل. كانا يضحكان بين الفينة والاخرى بينما يتخلص محمد من بعض خيوط الصوف التي ظلت عالقة بالجلد بمدية صغير حادة.
يقول الطاهر دون أن تتوقف قدماه عن الدوران «يعمل في هذه المدبغة حوالي 1200 شخص، وهي مهنة نرثها عن آبائنا الذين ورثوها بدورهم عن أجدادهم». يبتسم الطاهر كاشفا عن أسنان شبه متآكلة ويقول «مثلما يدخل الأطفال المدرسة، فإننا بمجرد ما يشتد عودنا قليلا نشرع في مرافقة آبائنا إلى المدبغة، وهكذا نتدرج في التعلم إلى أن نحصل على شهادات عليا في المدبغة نفسها، ومع مرور الأيام يصير المرء معلما كبيرا يعمل تحت إمرته العشرات من المتعلمين الجدد».
ينهي الطاهر كلامه ويرتج جسده الأسمر تحت وقع ضحكة مجلجة، ثم يتلقف صديقه محمد خيط الكلام قائلا «عندما كنا أطفالا بدأنا مشوارنا داخل المدبغة بجمع النفايات، ثم ترقينا بعد ذلك إلى قسم الجير، وعندما اكتسبنا خبرة كافية مع مرور الأيام سمح لنا بالدخول إلى أحواض المدبغة وملامسة الجلد لأول مرة».
العاملون في المدابغ يحتاجون إلى جسد قوي قادر على الحركة بمرونة وإدارة عشرات القطع من الجلد وسط الماء الملون عدة مرات بحركات متناسقة بدون أن تتعب قدماه أو يباغته التعب فجأة، لذلك فإن بعض الأعمال لا يستطيع أن يقوم بها إلا الشبان ذوو البنية القوية بينما يعهد للمسنين منهم باعمال لا تتطلب مجهودا بدنيا كبيرا. يبتسم محمد عندما يسمع سؤالا عن ساعات العمل في المدبغة، قائلا بحماس ظاهر «نحن هنا غير مرتبطين بوقت معين، لأننا لسنا إدارة عمومية، بل إن كل فرد منا يعرف الوقت الذي يلزمه لإنهاء الكمية المطلوبة منه» يصمت محمد ويعود الطاهر إلى دوس الجلد برجليه بعدما توقف ليستريح برهة من عمله، ويمسح العرق الذي نزل من جبينه. ويؤكد محمد كلام زميله بهزة من رأسه قبل أن يعلق عليه قائلا: «لم آت اليوم إلا بعد أذان العصر، ويمكن أن أبقى هنا إلى ما بعد أذان صلاة العشاء». ويوضح الطاهر أن العاملين بالمدبغة يستعملون عدة مواد من أجل معالجة الجلد بينها الجير البلدي، وفضلات الحمام والنخالة والدبغ التي يتم جلبها من مناطق متفرقة بعضها من المغرب وأوروبا. ويشير إلى أن هذه المواد لا تضر بالبيئة، لأنها طبيعية. ويطلق الطاهر زفرة قوية عندما يتذكر العصر الذهبي لمدابغ فاس قائلا «كانت أحوالنا جيدة عندما كان الناس يقبلون على اقتناء الألبسة الجلدية، لكن هذا الإقبال تراجع مع مرور الأيام، وتضاءل معه دخلنا الذي لم يعدم مثلما كان في السابق»، مضيفا بنبرة لا تخلو من تأثر «لذلك نراهن أكثر على مواد الصناعة التقليدية التي صارت المنفذ الوحيد لصناعة الجلود، المشكلة أن غالبيتنا تمثل المصدر الوحيد لعائلة متعددة الأفراد»، مضيفا «أنا شخصيا أعمل من أجل إعالة إخوتي البنات وأمي، فدخلي لا يكفينا جميعا، لكننا نحمد الله على كل حال». يحرك محمد رأسه معبرا عن عدم رغبته في اصطحاب ابنه إلى المدبغة مثلما فعل معه والده ذات يوم، لأنه لا يريده أن يرتمي في أحضان مهنة تحتضر.