- الطريق الرئيسي
- الشارع "البلدي"!
- مدينة الرباط ليلا
- والشارع "الرومي"
الطريق الرئيسي
عجيب هو شارع محمد الخامس بالرباط عاصمة المغرب، فلو أنك وقفت في رأسه من الجهة الغربية للمدينة تقريبًا فسترى طرفه الآخر يعلو عليه مسجد السنة، وإذا عبرته فستعبر زمانين متباعدين: زمن ما بعد الاستعمار، وزمنًا يمتد من عهد المرابطين إلى عهد العلويين؛ فتمر من مدينتين: مدينة الرباط القديمة، ومدينة الرباط الحديثة، يفصل بينهما بالضرورة شارع الحسن الثاني!
ويسعفك هذا العبور لتطرح شجونًا من الشهادة على العصر الذي يكرهنا على ثنائيات الأصالة والمعاصرة، الشعبي والرسمي، الإنسان المحافظ والإنسان العصري المتحرر، الروح والمادة، أو كما يقول المغاربة تعبيرًا عن الأصالة والمعاصرة: "البلدي" و"الرومي".
الشارع "البلدي"!
يفرض علينا حيرة الاختيار الموهوم، والصراع بين مجتمعين، هما تحت سقف واحد، المعمار المتمايز بين الشطرين؛ إذ نجد أنفسنا إزاء نموذجين معرفيين: واحد يتربص بالرباطيين (سكان الرباط) أمام "باب الأحد" التاريخي الشهير، والآخر يحصن الرباطيين داخل المدينة. فالجزء الغربي من الشارع المتواجد في المدينة القديمة يسمى "زنقة الجزا"، عرضه يتسع لحصانين محملين فقط، ويحفظ بقايا حرف تقليدية خصوصًا المتعلقة بصناعة "اللحاف" (الأثاث المغربي التقليدي)، وتجارة الصوف، بالإضافة إلى محلات صغرى لبيع المواد الغذائية، ومحلات العطارين، أو محلات الخياطة التقليدية وفرن وحمام تقليديين، وعدد من المحلات لبيع تجهيزات حديثة، بالإضافة إلى أكثر من أربعة مساجد صغرى، وتتشعب منه أزقة ودروب أخرى بمسميات تحيل على شخصيات كان لها شأن بالمدينة، أو بعلامات تميز كل "زنقة" (زقاق) عن أخرى، وفي أركان متعددة منها تقبع زوايا وأضرحة لها روادها المخلصون ومواسمها التي تجمع الأهالي وبركاتها الموفورة، تكاد تتشابه الأزقة والدروب في الجزء القديم من مدينة الرباط، وكثيرًا ما يضيع الأغراب بينها. البيوتات التي تؤثث فضاءات هذه المدينة تخضع للنمط المعماري العربي الإسلامي، حيث تقوم وحدة الجوار كخلية اجتماعية عمرانية أساسية تضمن التواصل وروح التضامن الاجتماعي، كما تقوم على التجانس في البناء بشكل يعكس البعد الأخلاقي في الإنسان فتلتزم مباني الأحياء بارتفاع يكاد يكون ثابتًا فيما عدا المساجد التي يجب أن تعلو مآذنها. تعدد الأفنية وتداخلها بين مجموعات المباني وفي داخلها لاستقطاب حياة الناس إلى الداخل.
فالسكن الفردي لا ينفصل عن الجماعي؛ إذ يحترم خصوصيات الجوار في التصميم، وذلك يتجلى منذ العملية الأولى للبناء، فبناء البيت يتم في مراسم احتفالية ورمزية خاصة، فهو أولاً رمز للخير ويقرن بالمرأة عادة كرمز للإكبار والتحصين تماشيًا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء" رواه ابن حبان. وعملية التسقيف التي يسميها المغاربة ب"الضالة" لا تتم إلا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإطعام الطعام، فيحرص البنّاء على عدم تقابل العتبات والفتحات بين الجيران، ويلاحظ أن النوافذ تكون صغيرة تكفي لدخول الشمس ولا تسمح باستراق النظر إلى بيوت الجيران، كما تزين بالمشربيات التي تساعد على هذا الغرض وينفتح البيت على السماء من خلال فتحات السقف.
وتواضع البناء في الظاهر يخفي جمالية الداخل كما هي رسالة الإسلام التي تولي الاهتمام بالجوهر. فالبناء الداخلي يتسع أفقيًّا فيخصص مكانًا منعزلاً للضيوف، ويفصل بين غرف نوم الأبناء عن الآباء، إضافة إلى المرافق الصحية، ولا يضيق على أن يكون محضنًا للعائلة الكبرى، كما لا يعدم بيت من فنون الزخرفة على الزليج البلدي (الفسيفساء)، والرخام والزخرفة الخشبية.
ومن الجدير بالذكر أن للزخارف في العمارة الإسلامية حلاوة ينعم بها دون غيرها من زخارف الطرز الأخرى، كما تنفرد بمشروع كامل لدراسة الألوان، وتتميز بالبساطة التامة في التصميم، حيث كانت العمارة الإسلامية أكثر العمارات حياة وأشدها بهجة وأعظمها خلودًا.
وتتميز هذه البيوت بوجود نافورة في باحتها، ترطب الهواء صيفًا وتضفي جمالية على فضاءات البيت إضافة إلى هوامش من المغروسات الخضراء. فالطراز المعماري في المدينة القديمة يختزل تجارب معمارية متطورة خصوصًا الأندلسية منها التي تولي للحديقة اعتبارًا في تأثيث الفضاء العام سواء بمحاذاة السور أو حدائق وأشجار في قلب المدينة.
وعمومًا فالطراز المعماري يراعي الاجتماع الإنساني، فإلى جانب عنصر ستر الجوار كقاعدة في البناء، نجد البعد الاحتفالي والتضامني في التصميم، ونجد اقتصادًا في البناء واستعمال مواد محلية في البناء، متجنبًا مصادر التلوث البيئي والصوتي.
أثناء عبور واع مستقرئ للشهود المعماري، تلمس مقصدية البناء ودفء الانتماء، تجد السور والصهريج والمساجد والزوايا والحوانيت تخاطب فيك الإنسان المتماهي مع الزمن والبيئة، وكل شيء له معنى متجذر في حياة الناس.
مدينة الرباط ليلا
والشارع "الرومي"
وعند نهاية زنقة "الجزا" جهة "باب الأحد" تفاجئك بناية عالية معضدة بحزام من عمارات الطراز الدولي.. تفاجئك مدينة حديثة على أنقاض مدينة أثرية، لم تبقِ لها الحماية الفرنسية معلمًا، ترمز لجبروت يستصغر الخارجين من باب الأحد ويرغمهم على تحية الحضارة المتفوقة، نموذج معماري هذه المرة يقوم على أساس استيعاب اليد العاملة المهاجرة من القرية إلى المدينة، فالمدنية حديثة ذاتية النزعة عملت على تفتيت الأسرة في شقق معلقة بين السماء والأرض، بعمارة بنيت لهدف استثماري محض، حيث يحتشد فيها العمال والموظفون دون أن يكون لهم اختيار ذوقي في عملية البناء، فداخل البيت يغيب محل الضيوف، ويعوض بتجهيز باحة الشقة الضيقة بمقاعد "فوتوي" لضيافة عادية لا تتعدى سويعات، وكأس عصير، غرفة نوم صغيرة، ومطبخ وغرفة للأبناء، وحمام، تتوزع بشكل غير ذي معنى في غالب الأحيان.
تغيب في هذا الطراز مجموعة مقاصد الاجتماع البشري، فتحل رابطة المهنية مقام رابطة القبيلة وواجب التضامن الاجتماعي الذي يفرضه الشعور بالانتماء. ويحل "الإتيكيت" محل الأخلاق، وقيم الاستهلاك والتبذير محل الاقتصاد، ولغة الأشياء المستقدمة من الغرب محل لغة الأسماء المحلية.
فالشارع بعد العبور إلى الضفة الأخرى سيتسع قليلاً لمرور الآليات التي ستملأ الفضاء صخبًا، وللعابرين المستعجلين دائمًا في قضاء حوائجهم، يبقى أن ترى واجهة الشارع الذي سيجمع بالإضافة إلى البنايات السكنية المستغلة للمكاتب الإدارية مجموعة مبانٍ حكومية على رأسها مؤسسة البرلمان والخزينة العامة وبنك المغرب ومحطة للقطار، في أشكال معمارية مختلفة ومتفاوتة ومتباينة التصاميم، بالإضافة إلى تزاحم المقاهي والفنادق والمحلات التجارية.
فالمعماري مكبل في إطار نسق جيو ميتري (هندسي) مسبق يبعد التصميم عن النظام الحي للكون والحياة، يستخدم فيه البناء كأحد وسائل السيطرة والهيمنة على مقدرات المجتمعات التي توجد فيها. إن تحول البناء من كونه اجتماعيًّا إلى كونه سلعة تباع أو تشترى، جعل من سماته فصل العمل التصميمي عن العمل التنفيذي، كما فصل العمل الذهني عن العمل اليدوي، وقد خلق طبقة قادرة على استيعاب تعليمات البناء دون فهم لمدلولاتها، وغاب معه الحرفيون وغاب الإبداع. واكتفي بالمواد البلاستيكية والزجاجية والمعدنية في كثير من التجهيزات الداخلية.