- «محمية» الحيتان وسمك القرش
سياحة سريعة الى جنوب أفريقيا تتمنى لو تطول وتردد في نهايتها كلمة «ساوبونا» أي «مع أطيب التمنيات» ... كيب تاون ورأس الرجاء الصالح: ملعب للريح... ووصال بين محيطين
رحلة قصيرة الى مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا ومتفرعاتها، لا بد من ان تحفّز فضولك لتسير قدماً نحو الجنوب وبلوغ نقطة رأس الرجاء الصالح، الأبعد في القارة السمراء، وعلى خطوات من مكان التقاء المحيطين الأطلسي البارد عموماً، والهندي الدافئ... هناك ثبتت لوحة ارشادية قرب الشُعب والصخور النافرة على الشاطئ: «أنت في كيب بونت (أو نقطة الرأس)». وفي المدارات الجغرافية، فإن موقعك يؤشر الى انك تقف في مكان تلاقي خطوط العرض والطول (18، 28، و26 شرقاً و14، 21 و25 جنوباً)...
شعور يحمل الكثير من الانفعالات حول اسرار التكوين والانبساط الجغرافي، خصوصاً لمن قصد المكان واستغرقت رحلته الجوية نحو 14 ساعة، يبلغ النقطة القصية وقد تعدى الخريف منتصفه في نصف الكرة الأرضية، لكن الطبيعة هناك تشمّر عن ساعديها للتنعّم بالشمس على أبواب الصيف الطويل والحرارة التي بدأت تلوّح متراوحة بين 18 و35 درجة مئوية... سماء صافية تداهمها تقلبات الغيوم البيض تتوج القمم والمسطحات الصخرية «الجبارة» مضفية على المكان هالة خاصة وموحية بغموض للزائر المستطلع هذه الأماكن للمرة الأولى... وتهب الريح حاملة نفحات أطلسية فيزبد البحر النقي وتعلو الأمواج، معززة ميزتها الفضلى مكاناً مناسباً جداً لمزاولة رياضة الألواح الشراعية او الغوص والاكتشاف...أما الأجواء والفضاء الرحب فهي ملعب للمظليين.
قصد جنوب افريقيا، وفق احصاءات مكتب السياحة المركزي، 6.2 مليون سائح عام 2004، بزيادة مقدارها 13.7 في المئة عن عام 2003، وغالبيتهم زارت كيب تاون وجوارها، وأنهت جولتها بترداد عبارة «ساوبونا» أي مع «أطيب التمنيات».
ويشكل الإنكليز والألمان النسبة الأعلى من السياح في هذه الفترة من السنة، كثر منهم يحضر لمزاولة الرياضة في الهواء الطلق وزيارة المعالم التاريخية والمواقع الطبيعية خصوصاً المحمية النادرة «كيب بينانسولا ناشونال بارك»، الشهيرة التي تعتبر أصغر «مملكة خضراء» وأغناها في الأرض... وفي احد اطرافها المنارة التي أمر بتشييدها الرحالة المكتشف البرتغالي فاسكو دي غاما، الذي كلّفه الملك ألبرتو بإيجاد طريق قصيرة للإبحار والتجارة مع الشرق الأقصى... حين كان العالم القديم مقتصراً على أوروبا وآسيا، فرسى أسطوله في «رأس الرجاء الصالح» عام 1488، تسمية أطلقت للتبريك والدعاء والفأل الحسن، هناك البوابة نحو أوروبا، قبل نحو 400 سنة من شق قناة السويس...
انها المنطقة الأصغر بين محيطين، حيث تمتد أعمال المحمية على مساحة 7700 هكتار مربع ضمن 44 كلم، وتحتوي على مقاصد سياحية واستراحات عائلية و «ألوان» من الطيور والحيوانات البرية.
غير ان شبه الجزيرة الضاربة صخورها في الجذور حتى الشواطئ الرملية البيضاء تحمل في تكوناتها أخباراً وتواريخ، وأبعاداً سياسية استعمارية ونهضوية تجارية واجتماعية - عنصرية.
«محمية» الحيتان وسمك القرش
وترتفع أعلى نقطة «رابضة» فوق الشاطئ 1051م عن سطح البحر، وعلى مقربة منها جبل تايبل المسطح الشهير الشاهق الصخري المحاذي للخليج والرأس البحرية «غالاس كاب»، مكان يعج بالحيتان الضخمة وسمك القرش الأبيض، خصوصاً في شهر ايلول (سبتمبر)، والآلاف من الكائنات البحرية المتنوعة.
وتفيد دراسات ميدانية و «مراصد بحرية» ان بعض أنواع الحيتان، يتوجه الى استراليا في رحلة تستغرق نحو100 يوم.
على هذا الساحل المتعرّج تكثر الخلجان خصوصاً الى الجهة الغربية حيث شاطئ بلوبرغ، مكان مناسب للمنتجعات البحرية والمسابح، وفي أسفل الهضاب دارات فخمة وفلل، ويصل سعر بعضها الى مليون دولار. وهي مقصد الميسورين والمشاهير الباحثين عن عطلة هادئة هانئة. ويمتلك بعضهم شققاً فخمة مثل المغني الأميركي مايكل جاكسون ونجم كرة القدم الإنكليزي ديفيد بيكهام ونجم كرة المضرب السابق الألماني بوريس بيكر.
ولعل هذه المنطقة تحديداً شهدت تطوراً عمرانياً عقارياً هو الأول من نوعه في العالم من ناحية تشييد الشقق الفندقية الخاصة، مستغلة البيئة الفريدة والتنوع السياحي وتشعّب المنحدرات التي حظّر مسها، وهي تضاء ليلاً بمصابيح زرقاء لتكسب الرأس الصخري العملاق طقوسية خاصة.
من هناك تشاهد بالعين المجردة جزيرة روبن، التي يمكن الوصول إليها في رحلة بحرية تستغرق30 دقيقة، وهي شاهدة على أحداث طبعت تاريخ جنوب افريقيا اذ كانت تحت السيطرة الهولندية ايام المستعمرات في آسيا، ومنفى لزعماء اندونيسيين رافضين للاحتلال، ثم معبراً للرقيق خلال محطات التجارة مع أوروبا، وسجناً لمناهضي حكومة فيشي الفرنسية حليفة دول المحور في الحرب العالمية الثانية... وأخيراً سُجن فيها الزعيم نيلسون مانديلا 18 عاماً، قبل ان ينقل الى منطقة توكاي المجاورة لأحياء كيب تاون الحديثة حالياً والمرفأ الأبرز في المدينة الأقدم في جنوب أفريقيا، والتي سُكنت قبل 40 ألف عام.
في كتابه التأريخي الوصفي عن المنطقة، يقول الهولندي فرنسيس دايرك ان تسميات رأس الرجاء الصالح اختلفت باختلاف طباع ومشاعر مطلقيها نظراً الى المهابة التي يوحي بها «المعلم» في نفوس قاصديه، كما انه «سُمي من جانب بعض الرحالة رأس العواصف» قياساً الى التبدّل المفاجئ للمناخ وانتشار الغيوم التي تشكل احياناً قمة اضافية تزيد من ارتفاع شواهقه.
وأنت تقود السيارة او تجلس الى جانب السائق تصل الى المكان السحري انطلاقاً من وسط كيب تاون، وبعد اتجاهك ناحية المسابح، عبر طريق حلزونية ضيقة اذا ما قيست الى الطرقات العريضة في المدن. انها شريان بين المنحدر المؤدي الى البحر والحفافي الشاهقة المحاذية المسيّجة بشباك فولاذية تحمي من الانهيارات الصخرية، خصوصاً قرب وادي بلاتيكليب جورج.
تحتوي جنوب أفريقيا على مجموعة من أقدم المناطق الأثرية والحفريات في القارة السمراء مثل ستركفوتن وكرودراي وكهوف ماكابانسغات... ومن العصر البرونزي الأول والإنسان القديم وصولاً الى قبائل الزولو... ويعود التاريخ المكتوب الأول لهذه البلاد الى عام 1652، من هذه المحطة توالت «الحقبات الاستعمارية» الحديثة، بدءاً من الهولنديين الى ان وضعت بريطانيا يدها عليها عام 1797، وبدأت البلاد عصراً جديداً ألغى عام 1990 التمييز العنصري وأطلق سراح نيلسون مانديلا بعد اعتقاله 27 عاماً، والذي تولى مقاليد الرئاسة لاحقاً.
في زيارة تستغرق نحو نصف نهار في السيارة، ترتاد المعالم الطبيعية والتاريخية على مسافة نحو 50 كلم، ومنها كروم العنب والزيتون والمغاور والكهوف والقصور، ويلفتك الطابع الإنكلوساكسوني للمنازل القديمة. كما يسترعي انتباهك «ركن» وسط الأشجار الباسقة في توكاي، وهو السجن الذي أودع فيه مانديلا بعد نقله من جزيرة روبن... وقد تحول معظم مرافقه الى متحف ومقصد سياحي ومطعم ديكوره من أدوات السجن، ويقدم الطعام في أوعية وصحون كالتي يستخدمها السجناء... لكن عليك بحجز طاولة قبل أسبوع من التاريخ الذي ترغب فيه بارتياد المكان.
يربض «السجن السياحي» على كتف هضبة خضراء فسيحة تجاور جامعة كيب تاون، التي درّس فيها طبيب القلب الشهير كريستيان برنار، مسرح حرّ للنعامات و «قطعان» من الحمار الوحشي، يشير ظهورها وتنزهها الهادئ الى ان الطقس مقبل على التبدّل.
حبيت المطعم اللي في السجن.. انشالله ازوره..