- فقال لي ببروده المعتاد: طيب وش أسوي لك، شاهي سادة وإلا شاهي بالحليب.
قبل الرحيل بأيام على متن طائرة خطوط الجارودا الإندونيسية من الرياض إلى جاكرتا .. زارتني في المنام رؤى طائرة الجارودا تحترق أحياناً، وأحياناً تحلق على غير هواده .. وهذه الرؤى هي الأولى من نوعها التي تنتابني قبل الرحيل، ولا أعرف السبب، ولكن بكل تأكيد تملكني الخوف من أن تكون هذه الرؤى إنذار من اقتراب خطر أو كارثة.
لم يعنيني الأمر أو يثنيني عن السفر لإندونيسيا، فالإيمان بالقضاء والقدر هو ما ينبغي للإنسان الإيمان به لتسير حياته بشكلٍ طبيعي، وكان رحيلي يوم 1 مارس لعمة الدنيا إندونيسيا.
مرت رحلة الذهاب بسلام، ولكن .. في اليوم التالي من وصولي جاكرتا استيقظت على نبأ تحطم طائرة خطوط الجارودا في رحلة داخلية بعد احتراقها بمن فيها.
وأخبرت رفيقي بالرحلة أحمد عن أنني رأيت في منامي طائرة الجارودا مرة تحترق وهي على الأرض، ومرة أخرى تحلق في الأجواء تترامى هنا وهناك وكأنها بلا قائد، والرؤيتان كلاهما تكرر رؤياهما في ليال مختلفة.
فقال لي ببروده المعتاد: طيب وش أسوي لك، شاهي سادة وإلا شاهي بالحليب.
وقتلني أحمد ببروده وفضلت الصمت .. وبين ثلاثة إلى أربعة ليال تزورني في المنام صورة طائرة خطوط الجارودا، وكنت أجهل السبب لهذه الزيارات، هل هو الرعب من ركوب الطائرة التي أخشاها، أم أن هذه رؤى إنذار باقتراب حدوث نهايتي على رحلة الجارودا .. الرؤية الأولى التي رأيتها باحتراق طائرة الجارودا، حدثت الآن باحتراق طائرة تابعة للجارودا، والرؤية الثانية هل ستحدث، وهل سأكون على متنها؟
مضت الأيام والأيام، وحان موعد رحلة العودة، تواجدت في مطار سوكارنو الدولي منذ التاسعة صباحاً، أي قبل موعد الإقلاع الذي سيكون في الساعة الحادية عشر والنصف صباحاً .. وتفاجأت أثناء قص "البوردنق" أن موعد الرحلة تأخر حتى الواحدة ظهراً .. وقلقت لهذا الأمر، وسألت الموظف عن أسباب التأخير، وضحك بعد أن لاحظ ملامحي القلقة قائلاً: (لا تخشى شيئاً، فالرحلة قد تأخر وصولها من جدة لجاكرتا، في تمام الواحدة ظهراً سيكون الإقلاع .. لا تقلق) .. وابتعدت عنه وفي داخلي قلق رهيب.
عند الثانية عشر والربع صعدت مع الركاب لطائرة الجارودا، وأنا أنظر للطائرة قبل الصعود أسأل نفسي أسأله مخيفة ممتزجة بالشك وبكل تأكيد أنها وسوسة شيطان: هل هذه هي الطائرة التي رأيتها في منامي تحلق بلا هواده، كأنها قطعة بالون يتقاذفها الهواء .. واستعذت بالله من الشيطان الرجيم ودخلت الطائرة وإيماني قوي بأن الإنسان لا مفر له من قدره ولو بحضن أمه.
حلّت الساعة الواحدة ظهراً، وتفاجأت بأن هناك صيانة لإحدى محركات الطائرة لم تنتهي بعد، ومرت الدقائق والدقائق والدقائق .. والطائرة رابضة بأرضها دون حراك .. وإذا بصوت قائد الطائرة عبر مكبر الصوت يطلب من الركاب النزول من الطائرة والانتظار بأرض المطار لوجود أعمال صيانة لم تنتهي بعد بالطائرة .. ونزلت مع جميع الركاب لصالة الانتظار.
وطال الانتظار .. حتى بلغت عقارب ساعتي الخامسة عصراً .. سكن الرعب خلالها داخلي، حتى كدت أن أُجن من الحيرة، هل أترك هذه الطائرة التي على ما يبدو أنها مصابة بعطل فني كبير حتى تتأخر لأربع ساعات متتالية، هل أفر من قدري وأحجز على طائرة خطوط أخرى .. لم أعرف إجابة تُريحني سوى الانتظار، وقد أبديت قلقي لأحد الركاب السعوديين الذي قال نفس الإجابة التي في عقلي: (( اللي كاتبه الله لك بيصير رضيت وإلا ما رضيت )).
وقررت صعود الطائرة بعد تردد كبير .. وعند الخامسة عصراً صعدنا للطائرة، ونصف ساعة انتظار أخرى على المقعد وأقلعت الطائرة أخيراً.
مرت الساعات الخمس الأولى من الرحلة بهدوء تام، رغم الرعب الذي بداخلي، رغم الأعصاب المشدودة، رغم إيماني بالقضاء والقدر .. لكن ما أن ابتدء العد التنازلي للساعات الثلاث الأخيرة إلا وكان صوتاً غير مألوف يُسمع مع صوت محركات الطائرة .. كانت أصوات المحركات يبدو عليها الضعف، فصوتها يرتفع تدريجياً ومن ثم ينخفض تدريجياً بشكلٍ مخيف للغاية، وكأنها قابلة للإنفجار بارتفاعها وقابلة للتوقف بانخفاضها، ومع ذلك حلّت بالطائرة ارتجاجات قوية للغاية .. وقلت في داخلي هذه هي النهاية، هذه هي النهاية بكل تأكيد، راودني رؤيتين الأولى طائرة تحترق، وتحققت الرؤيا بطائرة الجارودا الداخلية التي احترقت، والآن أنا على متن طائرة تأخر إقلاعها أربع ساعات لعطل فني بمحركها، ويبدو أن محركها يوشك على التوقف عن العمل مرة أخرى، وستجد الطائرة نفسها على ارتفاع 36.000 قدم تحلق دون استقرار وتتحقق بذلك الرؤيا الأخرى وألقى حتفي على متنها.
وظللت مع اللحظات الصعبة أقول في نفسي، إن أراد الله لي وطئ الأرض حياً فبإذنه تعالى سأعمل كذا وكذا وكذا من صالح الأعمال إرضاءً له سبحانه .. ومرت الساعات الثلاثة الأخيرة كثلاث سنوات، قابض على جانبي مقعدي، والرعب ساكن داخلي .. وكم حسدت الإندونيسي الذي بجانبي على برودة أعصابه، وهو غارق في نومه، وكأنه لا يعلم أنه ربما تكون هذه هي رحلته الأخيرة كما أعتقدت ذلك حينها.
وظلت الارتجاجات بالطائرة قوية عنيفة خالية من الرحمة لحالي وصوت محركات الطائرة ترتفع وتنخفض تدريجياً طوال الساعات الثلاث الأخيرة .. التي انتهت بعد أن هبطت الطائرة على أرض مطار الملك خالد الدولي.
وكم نمت نوماً عميقاً بعد رحلة الرعب تلك التي لم أتخيل نجاتي منها، وما زلت في صلاتي أشكر رب العالمين على نجاتي من الرحلة الأخيرة.
وتقبلوا تحياتي.
بلاش هالسوالف ترانا على جريف
مامن حب العين للبصلة بس مجبورين